أ. علي عبدالمجيد عباس *
◄تمهيد:
لطالما كان التطوّر السمة الأبرز للشخصيّة الإنسانية؛ إن على صعيد العقل أو العاطفة أو السلوك، وإن كان كُلٌّ من العقل أو السلوك يقع ضمن دائرة الوعي المباشر لدى الإنسان، فكثيراً ما تخرجُ العاطفة عن نطاق هذه الدائرة؛ لا سيما ضمن الأجواء الانفعاليّة الصاخبة؛ وهو ما يودي – بدوره – إلى تأثيراتٍ قد تمسُّ القناعات الفكريّة العقليّة للإنسان، وتطغى – بل وتتحكم أحياناً كثيرة بالنشاطات السلوكيّة التي يقوم بها.
من ههنا تتضح أهميّة البحث في هذا السياق، والعمل على تطوير وترشيد البنية العاطفيّة ضمن الشخصيّة الإنسانية؛ بغرض ضبط الإيقاع العام لواقع الإنسان في شتى مواقف الفكر والسلوك والانفعال.
الدعاء عبادةٌ تمسُّ الجانب العاطفي من حياة الإنسان في الصميم، وهو – فضلاً عن كُلّ مضامينه الفكرية – يُعتبرُ مظهراً راقياً لأسمى أنواع العواطف، وهي عاطفة العبد في علاقته مع الإله. ولا ريب في أنّ الأهميّة التي ينضوي عليها – انطلاقاً من كُل ما سلف – تجعلهُ عامل تأثيرٍ بالغ الحساسية في ما بات يُصطلح عليه بـ(الذكاء العاطفي) لدى الإنسان، والدور المهم الذي تؤدّيهُ هذه العبادة في تطوير وترشيد الجانب العاطفي من الشخصية الإنسانية.
مفهوم العاطفة، والذكاء العاطفي:
كمدخلٍ عام للمسألة التي نحنّ بصدد تناولها، لا محيص من التعرُّض – في البدء – للمفهوم العام للعاطفة، ومصطلح الذكاء العاطفي، ومنطلق نشوء الحالة العاطفيّة لدى الإنسان، وآليات تأثير هذه الاختلاجات العاطفيّة (المُتفاوتة الشدّة والضعف) على شخصيّة الإنسان؛ فكراً وسلوكاً.
موقع العاطفة في حياة الإنسان:
لا يُمكن لعاقلٍ يُغمض دور العاطفة المحوريّ في طبيعة الإنسان وتفاعله مع المحيط؛ إذ يكادُ العامل العاطفي يتدخّل في كُلّ أفعال أو ردّات فعل الإنسان في مجمل حركته (وحتى فكره)؛ فيبني على أساسها القناعات، ويُدخلها في صناعة الأفكار، وتحليل الواقع، تبرير سلوكه الشخصي أو سلوك الأشخاص الآخرين.. وما إلى ذلك.
ولذا فإنّ "أيّ نظرةٍ للطبيعة الإنسانية تتجاهل قوّة تأثير العواطف هي نظرةٌ ضيّقةُ الأفق، والواقع أنّ اسم الجنس البشري (Homo sapiens)، أي: الجنس المفكّر، يُعدُّ تعبيراً خادعاً في الرؤية والفهم الجديدين لموقع العواطف في حياتنا واللذين يطرحُهما العلم الآن، وكما علّمتنا خبرات الحياة فإنّ مشاعرنا غالباً ما تُؤثّر في كلّ صغيرةٍ وكبيرةٍ في حياتنا بأكثر مما يُؤثّر تفكيرنا عندما يتعلّق الأمر بتشكيل مصائرنا وأفعالنا، ولقد غالينا كثيراً في التأكيد على قيمة وأهميّة العقلانية البحتة التي يقيسها معامل الذكاء (IQ) في حياة الإنسان وسواء كان هذا المقياس إلى الأفضل أو إلى الأسوأ، فلن يُحقق الذكاء شيئاً لو كبح جماح العواطف".
ومن هنا نرى بوضوح أهميّة الضبط والترشيد العاطفي للشخصيّة الإنسانيّة، وهو ما نسعى إليه من خلال ما يُصطلح عليه بـ(الذكاء العاطفي)، والذي نرمي إلى تفعليهِ في شخصيّة الإنسان من خلال التأثير المباشر وغير المُباشر لعبادة الدعاء.
مركز العاطفة في الدماغ:
من المُفيد أيضاً – في الإطار التمهيدي العام ذاته – أن نتناول الجانب الفيزيولوجي المؤثر في الشأن العاطفي لدى الإنسان، حيثُ يُعتبر "النتوء اللوزي (أو الأميجدالا Amygdala) في مخ الإنسان، [والذي] يبدو على شكل لوزة تتكوّن من تراكيب مُتداخلة تقع أعلى جذع المُخ" هو المركز الرئيس للعواطف والانفعالات، وفي حال انفصال هذه (الأميجدالا) عن بقيّة أجزاء المخ، يُصبحُ المّخّ عاجزاً بشكلٍ كبيرٍ جدّاً عن تقدير الأحداث العاطفيّة، وترتيب ردّة فعل واضحة تجاهها، وهي الحالة التي يُطلق عليها في علم النفس تسمية العمى الانفعالي (Affective Blindness).
بيدَ أننا لن نُغرق في تحليل منابع العاطفة لدى الإنسان (على أهميّة الإضاءة عليها لتشكيل نظرةٍ مُتكاملةٍ حول كُل المعطيات التي لها دخل في فهم الموضوع)، وسنحصرُ اهتمامنا بتحليل العاطفة نفسها وآليات ضبط إيقاعها، وتطوير قدرة الإنسان على ترشيد الطاقة العاطفيّة في شخصيّته؛ وذلك ما يتناسبُ وعنوان البحث الذي نحنُ بصدده.
للإنسان عقلٌ.. أم عقلان؟!
إنّ الشعور الذي يعيشهُ الإنسان تجاه واقعه ينجمُ – كما يظنُّ أغلبنا – عن فكرتنا تجاه الواقع، بيدَ أنّ الحقيقة هي أنّ هذا التصوّر يُعتبر تبسيطاً لعمليّةٍ مُعقّدة تجري داخل الكائن البشريّ.
فالواقع هو أنّ الإنسان لا يعيشُ الأفكار المنطقيّة التي ُنتجها عقلُهُ فحسب، وإنّما يتعامل مع الواقع من منطلقين (أو عقلين كما يُعبّر بعض علماء النفس)؛ المنطلق (أو العقل) المنطقي، والمنطلق (أو العقل) العاطفي.
فمثلاً: قد تحدثُ حالة انفصالٍ بين زوجين عاشا معاً سنواتٍ من السعادة الغامرة، وانقلبت حياتهما في فترة ما قبل الانفصال إلى جوٍّ مُترعٍ بالقلق والتوتّر، وبعد مدّةٍ من هذا التوتّر بات خيار الانفصال لديهما خياراً منطقيّاً للغاية، ويتمّ الأمر وفق هذه القناعة المنطقيّة.
لكن لو سُئلَ أحدُهُما بعد برهةٍ من الزمن عن تجربة الانفصال تلك (وكلاهما كان قد عاش قبلها انسجاماً عاطفيّاً طويلاً)، سيرى أنّ خياره بالانفصال عن الآخر كان خياراً منطقيّاً، لكنه في الوقت ذاته – وبكُلّ تأكيد – سيشعرُ وهو ينطق بذلك الجواب بشيءٍ واضحٍ من الضيق أو الانزعاج؛ ويرجعُ ذلك – كما يؤكد علماء النفس – إلى أنّ هناك (عقلان) يتحكّمان بحياة الإنسان؛ العقل المنطقي من جهة، والعقل العاطفي من جهةٍ أُخرى..
وهذا ما يوضح لنا أهميّة تطوير الجانب – أي: العقل – العاطفي من الشخصيّة الإنسانية، وتفعيل حضوره الإيجابي في مجمل حركة الإنسان الاجتماعيّة، بحيث يتمُّ تمكين الإنسان من التحكُّم بعواطفه الجيّاشة، وتوجيهها لتكون عامل قوّة في رفد حياة الإنسان وأهدافه العمليّة، لا عامل ضعفٍ يُسقطهُ في المحذورات.
من هذه الزاوية سندرسُ أثر الارتباط بالله – سبحانهُ – في تطوير هذه الجوانب من الذكاء العاطفي والانفعالي لدى الإنسان، والآليّات الناظمة لها من حيث الضبط أو الإنضاج أو التوجيه، والاستفادة من كل ما من شأنه أن يُسهم في ترشيد العاطفة، وبالخصوص سيتمُّ التركيز على أثر عبادة الدعاء (المُفعمة بالعواطف الإيجابية، والمليئة بالآليات الوجدانيّة)، التي تُشذّب الدوافع والانفعالات، وتضبط إيقاع السلوك الإنساني المبني على العاطفة في كثيرٍ من مواقعه، وخصوصاً في حال عصف انفعالٍ أو عاطفةٍ أو دافعٍ مُعيّن، ولعلّها – كما هو بيّنٌ للعاقل – الحالات الأكثر سيطرةً أو استيعاباً للحياة اليومية للإنسان، والأبلغ تأثيراً في خيارات السلوكِ العمليّ الذي يبنيه وفقها.
عبادة الدعاء والترشيد العاطفي
آليات عبادة الدعاء في البناء العاطفي السليم للشخصيّة الإنسانيّة:
لعلّ أبرز ما تتميّز به عبادةُ الدعاء في المجال العاطفي (ونحنُ ههنا أمام آليّةٍ ثُنائيّةٍ ندّعي ابتكارها ودقّتها في هذا المورد)، أنّها تبني منظومةً عاطفية: مُتكاملةً، ومتوازنةً في الآن ذاته؛ ولكُلٍّ من هاتين السمتين تفصيل:
1- فالتكاملُ يتضمّن أن تحتوي المنظومة العاطفيّة لدى الإنسان كُلّ عواطف الحياة، إلى جانب إتقانه لآليّات التعاطي مع كُلّ عاطفةٍ منها، فلا يجوز أن ينبذ إنسانٌ عاطفة الحُزن – مثلاً – بالمطلق؛ لما لها من دورٍ في تنمية ذاته، ولا أن يهجر عاطفة الفرح لعارضٍ أو فادحٍ ألمّ به؛ وذلك لدورها الفاعل في إطلاق طاقات الإنسان وتفعليها، وحتى أنّه لا يجوز للإنسان أن ينبّذ عاطفة الغضب؛ إذ حتى هذه العاطفة العاتية لها دورٌ إيجابيٌّ إن تمّ توجيهها في مكانه، وقد علّمتنا الأدعية العظيمة الواردة عن مدرسة العصمة – في غير دُعاءٍ مشهور – أنّ الغضب لله مطلوب، والغضب للحقّ مطلوب، والغضب للمبدأ مطلوب، وهو أساسُ الدافع وراء حالة الفعل الإيجابي تجاه الكثير من مواقف الحياة، وإن كان الدعاء – في الآن ذاته – قد وجّه إلى ضبط هذه العاطفة العاصفة، وهو ما سنتحدّث عنه في نقطة (الموازنة) التالية، وسواها من العواطف المختلفة التي لا تتكاملُ شخصيّة الإنسان إلا بها، ولا تتحقق إنسانيّتهُ الكاملة – أساساً – في حال الانسلاخ عنها.
2- والتوازنُ في البناء العاطفي يعني أن لا يعيش الإنسانُ بعض العواطف بعمقٍ مُفرط، ويعيش الأخرى بسطحيّةٍ مُفرطة؛ حيثُ يؤدّي ذلك إلى خللٍ بيّنٍ في شخصيّته (فكراً وسلوكاً)، فيتخبّط تارةً – كما في حال شريحةٍ من الناس – في أجواء الفرح الطائش الذي يُخرجُ الإنسان عن انضباطه، أو في أجواء الحزن المُعقّد الذي يُقعدُ الإنسان عن دوره الفاعل وموقعه في الحياة، ... وسوى ذلك من ضروب العاطفة المُفرطة أو المنحرفة. الدعاء – في مدرسة الإسلام – عمد إلى صناعة توازُنٍ دقيقٍ على هذا الصعيد، وبناء منظومة الإنسان العاطفيّة على أساس نسب معياريّة دقيقة من كُلّ عاطفةٍ إنسانيّة، وهذه الدّعوى الكبيرة لابُدّ لها من استدلالٍ تفصيليٍّ متينٍ ودقيق.
ومن خلال ما تقدّم ندّعي – انطلاقاً من مرتكزات البحث العلمي – أنّ هذه الآليّة المزدوجة في ترشيد العاطفة الإنسانية هي الآليّةُ الناجعةُ التي يعتمدُها الدّعاء المأثور (الممنهج قطعاً)، وأنّ الطرح بهذه الصورة ومن هذا المنظور هو الأوّل من نوعه؛ في فهم حالة الترشيد العبادي (الدعائي منهُ خصوصاً) للجنبة العاطفية الإنسانية المُعقّدة.
آليات الدعاء في تنمية قدرة الضبط العاطفي لدى الإنسان:
استكمالاً لما أسلفناهُ من أنّ عبادة الدعاء أعطت العواطف الإنسانيّة زخماً لتشكّل (منظومةً مُتكاملة) من كلّ أنواع العاطفة، وأنّها أعطتها في الوقت ذاته (توازناً) لضبط العاطفة والاستفادة من الطاقة الإيجابيّة دون السلبية منها؛ كانَ لابدّ من التكلُّم عن الآليّات التي اعتمدتها هذه العبادة لإنجاز هذا الضبط والتوازن الدقيق، لعاطفةٍ لعلّ أشهر ما تتسمُ به هو الفوضى والعصفُ والانفلاتُ من كُلّ قيود.
ومن أهمّ هذه الآليّات:
1- استشعار اطلاع الله وقدرته دائماً: نُقطةٌ لطالما عمدت عبادةُ الدعاء إلى ترسيخها في نفس الإنسان؛ حيثُ يبدأ الدعاءُ باعتراف الإنسان بوهن طاقته، وضعف قواه، وعجزه الذاتي، في الوقت نفسه الذي يُقرُّ فيه صراحةً بالقوّة المُطلقة لله، والقدرة التي لا يخرج عنها شيء، إلى جانب إحساسه الدائم بأنّ عين الله ترقبهُ في كلّ حركةٍ وسَكَنة، كما ورد في الدعاء المستحبّ ليلة عرفة: "اللّهمّ يا شاهدَ كُلِّ نَجْوَى ومَوْضِعَ كُلِّ شَكْوَى وعالِمَ كُلِّ خفيّةٍ، ومُنتَهَى كُلِّ حَاجَةٍ، ... يا مَن لا يُوَارِي مِنْهُ لَيلٌ داجٍ ولا بَحْرٌ عَجّاجٌ، ولا سَماءٌ ذات أبراجٍ ولا ظُلَمٌ ذاتُ ارتياجٍ"؛ وهو أمرٌ يجعلُ الإنسان دائماً في حالة مُراقبةٍ للعاطفة التي تعصفُ به، إذ طالما يرى اطلاع الإله الدائم، والقدرة العظمى المُهيمنة فوقه، لن يستطيع أن ينجرف مع العاطفة التي تشعره بانتفاخ ذاته، وأمام العظيم يشعرُ العبدُ بمحدوديّة ذاته، وتنضبط انفعالاته وعواطفه ضمن هذا الإحساس العام بقدرة الله عليه؛ فلا ينجرف مع جنون الغضب حين يتذكر قدرة الله عليه وغضبهُ من مخالفاته ومعاصيه، ولا يطيشُ به الفرح حين يتذكّرُ أنّ قدرة الله لا تسمحُ لهُ بالفرح الذي يُسقطهُ في التساهُل بالذنب، وهذا دورُ استحضار القدرة الإلهية بشكلٍ دائمٍ داخلَ الإنسان.
2- الإقرار الدائم بالذنبِ، والوقوع في الخطأ: وهو بدوره من آليّات الضبط العاطفي للإنسان؛ حيثُ تبدأ الكثيرُ من الأدعية بالإقرار، ويستشعر العبدُ أنّه مُثقلٌ بذنوبه، وواعٍ للمسؤولية الجسمية التي تُلقيها عليه، ومثالُ ذلك الدعاءُ الواردُ عن المعصوم (ع) في مفاتيح الجنان، والذي يمسُّ صميم هذه الفكرة: "أتَيْتُكَ مُقِرا على نَفْسِي بالإساءة والظُّلْمِ مُعْتَرِفا بأن لا حُجَّةَ لي ولا عُذْرَ، أتَيْتُكَ أرْجُو عظيم عفوك الذي عَفَوْتَ به عن الخاطئين؛ فَلَم يمنَعكَ طُولُ عكوفِهِمْ عَلى عظيمِ الجُرْمِ أن عُدْتَ عليهِم بالرَّحْمَة". مثلُ هذا الإقرار ينطلقُ بالإنسان ليعيشُ التوازن أمام العواطف؛ فهو لا يعيش إحساساً مُطلقاً بالعاطفة يُعميه عن مجمل واقعه، وإنّما يبقى هذا الإحساسُ بالذنب يُظلّل على واقعه شيئاً من الهدوء والإحساس بالمسؤولية في التعاطي مع واقعه، بكلّ ما يضجُّ به من عواطف وانفعالات.
3- التلقين النفسي بطلب المدد دائماً من الله تعالى؛ لضبط المفردة البديلة – تقريباً – لمفردة (العاطفة السلبيّة)، وهي (النّفس الأمّارة) بالسوء، والشكوى الدائمة من تفلُّتها من عقال الانضباط والنضج السلوكي. ولعلّ من أروع أمثلة هذا التوجّه إلى الخالق طلباً للمدد أمام هذه النفس، ما ورد في مناجاة الشاكين للإمام السجاد (ع): "إلهي إليك أشكُو نَفْسا بالسُّوءِ أمّارَةً، وإلى الخطيئة مبادرةً، وبمعاصيك مولَعَةً، ولسخطِكَ مُتعرِّضةً؛ تَسْلُكُ بي مسالك المهالِكِ، وتجعَلُني عندك أهوَنَ هالِكٍ، كثيرة العلل طويلةَ الأمل، إن مَسَّها الشَّرُّ تجزَعُ وإن مَسَّها الخيرُ تمنعُ، ميالةً إلى اللَّعِبِ واللَّهْوِ، مملُوَّةً بالغَفْلَةِ والسَّهْوِ، تُسْرِعُ بي إلى الحوْبَةِ وتُسَوِّفُنِي بالتَّوْبَة". إنّ هذه النظرة الواعية لانفعالات النفس الجارفة، تكادُ تكون ضمانةً لضبط الكثير منها، وتكرار هذه الفكرة في أدعية الإنسان بشكلٍ دائم يُؤصّل هذه الفكرة في نفسه، ويُكسبهُ – بالتدريج – انتباهاً أكثر ومناعةً أكبر في سعيه لإنضاج الحالة العاطفيّة وضبطها.
4- العلاج بتنمية الدوافع الإيجابيّة، وهي ما يؤدي – لدى نجاحه – في الغالب إلى ردم الجوانب السلبية من العاطفة؛ حيث تنطلقُ هذه الفكرة من قاعدةٍ مفادها أنّ مجرّد التأكيد على العادات والسلوكيات الجيِّدة هو بحدّ ذاته حدٌّ من تأثرنا بالعادات السيئة، وقتلٌ بطيءٌ لها، خصوصاً وأنّهُ من الواضح أنّ الانتقال الفجائي المُباشر من السلب إلى الإيجاب هو أمرٌ في غاية الصعوبة والندرة؛ لذا كان لابدّ من تراكمٍ تدريجيٍّ وتفعيلٍ طويل الأمد لكلّ النقاط الإيجابية في الشخصيّة الإنسانية؛ ليكون مؤدّاه الطبيعي وأد النقاط السلبيّة على المدى الطويل ذاته.
مواءمة تنوّع أوقات الدعاء لتنوّع الحالات النفسيّة:
في سياق بحثنا واستقرائنا التفصيلي للأدعية المخصوصة بزمانٍ أو مكانٍ مُعيّن، بدأت تتوضّح لنا معالمُ فكرةٍ مفادُها أنّ التنوع في الأدعية المخصوصة بأوقاتٍ معيّنة (كدُعاء الصباح أو المساء أو..)، يشي – بناءً على اختلاف الحالة العاطفية للإنسان من فترةً يوميّةٍ لأُخرى – بجُهدٍ واضحٍ في هذه العبادة لاستيعاب كُل الحالات العاطفيّة في الشخصية البشرية، العمل على ترشيد جميعها، إن التزم الإنسانُ ببرنامج عبادة الدعاء اليومي أصلاً.
ويستطيعُ الباحث (وإن لم يتّسع المقام هنا للتفصيل وإيراد الأمثلة) أن يتتبّع البرنامج العاطفي الموجود في هذه الأدعية المختلفة في الوقت، وأن يُلاحظ المناسبة الدقيقة لكُلّ دُعاءٍ مع العاطفة الوقتيّة للإنسان، وآليّات تأثيره في هذه العاطفة وطرق ترشيدها.
ومن هنا ندعو الباحثين للتعمّق في هذا العنوان، الذي لم نر بعدُ – في كلّ استقصائنا – من تناوله أو تعمّق فيه، وإن لم يُسعفنا ضيق المورد – ههُنا – للتوسّع فيه، على أهميّته البيّنة، وحيثُ إنّه عنوانٌ كبيرٌ يستلزم الكثير من التوسع والبحث والتحليل والتدقيق في الجزئيّات العاطفية التي تكتنفها هذه الأدعيةُ الثرّة.
دور الدعاء في التناغم ما بين العاطفة والفكر:
بعد تمهيدنا الآنف، بات المسارُ متاحاً للبناء على الفهم العام للحالة العاطفيّة لدى الإنسان، وأثرها البالغ على مجمل حركته في الحياة، نبدأ بتوضيح الأثر الفعلي الذي تتركهُ عبادة الدعاء على عنصري صناعة السلوك الإنساني؛ وهُما: الفكر، والعاطفة.
فالسلوك – كما هو معروفٌ في علم النفس – ثمرةٌ لتفاعُل التفكير (العقل) مع العاطفة (الانفعال)، وبالتالي فإنّ العمل على الوصول إلى سلوكٍ سليم، لا يمكن أن يتأتى دون إيجاد تناغم حقيقيٍّ ومُثمِر ما بين التفكير والعاطفة، وسندرُسُ – في ما يلي – كيف يؤثّر الدعاء في إيجاد هذا التناغم الدقيق في الشخصية الإنسانية.
ما ينبغي التسليمُ به أوّلاً، أنّ العاطفة قد تودي في بعض الحالات – بل في كثيرٍ منها – إلى تعطيل التفكير لدى الإنسان؛ وذلك أنّ الزخم العاطفي العاصف قد يُشغل الإنسان عن كُلّ خطوات الفكر المنطقي، ويجعل الدافع الأوّل للسلوك هو العواطف التي قد تطغى على الإنسان، كالغضب، الخوف، نشوة الفرح،.. إلخ.
الدعاء يعمد إلى الجانب العاطفي عند الإنسان فينمّي الشعور بعاطفةٍ بالغةِ الأهمية تجاه الرّب (ومن خلاله تجاه الوجود كلّه؛ الذي أبدعه هذا الرب المعشوق)، وهي (عاطفة الحب)، وتعتبر هذه العاطفة إحدى أهمّ الدوافع الإيجابية التي تفتحُ أمام الإنسان آفاقاً رحبةً وتفاؤلاً مُهمّاً في التعاطي مع الحياة؛ إنّما في إطار الإدراك بأنّ هذه الحياة ليست محور الوجود أو غايته، وبالتالي فالدعاءُ يعملُ على إشراع عاطفة الحُبّ من جهة، وضبطها ضمن الفهم العام للحياة الدنيا من جهةٍ أخرى؛ بحيث لا يصيرُ الحبُّ دافعاً مُطلقاً لا يلحظُ مُعطيات الواقع وحقائقهُ.
وهذا ما نجدُهُ جليّاً في دعاء المعصوم حين يقول (مؤدّباً ومُعلماً لفنّ الدعاء، وأسلوب مُخاطبة الذات الإلهيّة): "إلهي لو قرنتَني بالأصفاد، ومنعتني سيْبَكَ من بين الأشهادِ، ودَلَلْتَ على فضائحي عُيُون العباد، وأمرْتَ بي إلى النار، وحُلْتَ بيني وبَيْنَ الأبرار؛ ما قطعْتُ رجائي منكَ، وما صرفتُ تأميلي للعفو عنك، ولاخرجَ حُبُّكَ من قلبي؛ أنا لا أنسى أيادِيَكَ عندي، وسَتْرَكَ عليَّ في دار الدنيا".
هذا المقطع المميّز من دُعاء أبي حمزة الثمالي للإمام السجاد (ع) يتناول منحيين مُهمّين:
الأوّل تصويرٌ بالغ الروعة في وصف الحُب الذي ينبغي أن يعيشه الإنسان تجاه خالقه الذي أفاض عليه الخير كلّه، واستدامة هذا الحبّ حتى في فرض أنّه نال قسطاً وافراً من عذاب الله – إن كان مُستحقّاً له –؛ ولو تمّ فضحهُ أمام الخلائق وإدخالهُ في بوتقة العذاب، وفي هذا الضرب من التمثيل دلالةٌ عميقةٌ على عاطفةٍ ذات زخمٍ كبير.
والمنحى الثاني هو إدراكٌ وفهمٌ عميقٌ لعالم الدنيا من خلال هذا الحُبّ نفسه؛ وذلك أنّ الحب الذي يصوّره الإمام (ع) يرجع إلى أصل التفضل بنعمة الوجود، ومن ثم إتاحة الفرصة في عالم الدنيا للاستفادة من كل الخير الذي أودعه الله في الحياة، وما ذكرهُ الإمام ههنا يعدو كونه إشارةً إلى المنن التي يُفيضها الله على الإنسان في عالم الدنيا المحدود الأمد؛ بل فيه إشارةٌ أخرى إلى أنّ مسيرة الوجود الإنساني لا تقف عند حدود هذا العالم، وإنّما تتعداهُ إلى عالم الوجود الأخروي الأبدي، وبالتالي كانت الإشارةُ من الإمام (ع) ليس إلى مجرّد أن حبهُ ينبعُ من تفضُّل الله عليه في هذا العالم، بل – ومن خلال موقفٍ تطبيقيٍّ – إلى حقيقة أنّ هذا العالم محدود أيضاً؛ وبالتالي كان الدعاءُ درساً تطبيقيّاً في حقيقة الوجود، إلى جانب كونه تأصيلاً لعاطفة الحب للإله المتعالي.
إنّ هذا التناغم الذي يُجسّدهُ هذا النمطُ من الدعاء، ما بين الزخم العاطفي الذي يولّدُهُ من ناحية، والوعي الفكري (حول الوجود) الذي يُفيضهُ من ناحيةٍ أخرى، يُعتبرُ أحد أرقى آليات صناعة السلوك القويم الذي تهدفُ الشريعةُ بكُلّها إلى إيجاده في الإنسان.
الخاتمة:
كان بيّناً – في مُجمل ما تناولناهُ آنفاً – أنّ عبادة الدعاء، ومن خلال مجموعة من الآليات الناظمة للتفاعل العاطفي داخل الشخصية الإنسانية أو مع المحيط الخارجي، تتفرّد بأروع الأساليب التي تكفل للإنسان سيطرةً قويّةً على انفعالاته المتنوّعة، وقدرةً على إنضاجها في الوجهة السليمة، وضبطها بحيث لا تنجرف به في لحظة طيشٍ أو نزقٍ أو عصفٍ عاطفيٍّ لتودي بالكثير من جهودهِ وإنجازاته.
ومما لا يخفى أنّ المقال – مُلاءَمةً لحجم المُشاركة المطلوبة لا أكثر – لم يسبر التفاصيل الجزئيّة التي تثري الفكرة أكثر، إلى جانب كون بعض النقاط من الجدة والعمق ما تستحقُّ أن يُفرد لها بحثٌ قائمٌ بذاته، إو إدراجها في بحثٍ من القطع الكبير (كالدراسات والرسائل والأطروحات الأكاديميّة)، تتعرّضُ لتفاصيل تُبرزُ أهميّة الأفكار المطروحة فيه.
بيد أنّ المُدرج في مجمل ما سبق كان إضاءةً وافيةً على أهمّ العناصر الأوليّة لهذا العنوان الجديد جُملةً وتفصيلاً، ونافذةً جيّدةً للدخول إلى هذه الدراسة الحديثة التي نأملُ لها أفقاً رحباً مُتألقاً في أبحاث لاحقة تسعى لتغطية هذا العنوان الذي يستحقُّ بالفعل الكثير من الجهد والدراسة والبحث المبنيّ على أسسٍ علميّةٍ موضوعيّةٍ رصينة.►
* ماجيستير علوم قرآن، باحث إسلامي
المصدر: رسالة الثقلين/ العد 70 لسنة 2011م
ارسال التعليق