◄هي من المقولات الطريفة التي قرأتها وأعجبتني وأثارت لديّ الكثير من التأمّل والتفكير: إنّ عظمة الإنسان تكمن بين المثير والاستجابة، أي أنّ التعبير المتميز عن الشخصية يكمن في الفترة التي تكون بين المثير والاستجابة.. بمعنى أنّ تفرّد الإنسان وتميّزه عن الآخرين يتمثّل في الطريقة السريعة والعفوية التي يتصرّف فيها عند تعرّضه للمواقف والأحداث وشتّى المثيرات التي تسبّب ردود أفعاله.
فعلى سبيل المثال، إذا كنت تقود سيارتك ثمّ تعرَّضت للمضايقة من سائق يقود سيارته بجانبك، وارتفعت وتيرة المضايقة حتى استفزك ورفع صوته عليك بالشتيمة.. ماذا ستفعل؟
أمامك ثلاثة خيارات رئيسة: خيار إيجابي، وآخر حيادي، وآخر سلبي.
الخيار الإيجابي أن تصبر وتتحمّل وتتجاوزوتقول له شكراً وجزاك الله خيراً على هذا التصرُّف.
الخيار الحيادي أن تهمله ولا تتحدّث عنه وتتمسك بهدوء أعصابك.
أمّا الخيار السلبي، فإنّك تبادله الشتم وربّما دخلت معه في أكثر من ذلك.
«إنّ عظمة الإنسان تكمن بين المثير والاستجابة»، مقولة صحيحة.. فالطريقة التي نتصرَّف بها تجاه المؤثّرات من حولنا هي ما يميّزنا عن الآخرين. والخيارات الثلاثة التي ذكرناها خيارات عامّة، وربّما دخل في كلّ خيار مجموعة من الوسائل والآليات والتصرُّفات التي تعبّر عن نمط الشخصية التي يحملها كل منّا.. بعضنا يقابل الإساءة بالإحسان (تصرُّف إيجابي). والبعض يقابل الإساءة بالإهمال وغضّ الطرف (تصرُّف حيادي). والبعض الآخر يقابل الإساءة مثلها (تصرُّف سلبي).
طبعاً الأمر ليس بهذه البساطة والوضوح في كلّ الأحوال.. فدهاليز العلاقات الإنسانية ليست جميعها سالكة.. فبعضها ضيِّق، وبعضها مسدود، وبعضها ملتوي، والبعض الآخر يلفه الغموض.
فعندما نواجه الإساءة بالإحسان ربّما فسّرها الطرف الآخر بأنّها خوف أو ضعف. وعندما نواجه الإساءة بالإهمال ربّما أغرينا الطرف الآخر بتكرار إساءته. وعندما تقابل الإساءة بإساءة مثلها فربّما جلبنا الضرر على أنفُسنا وعلى الآخرين.. إنّها معادلات صعبة وتحتاج موازنات دقيقة تعتمد على معرفتنا وإدراكنا للعالم من حولنا.
ومع ذلك، تبقى هذه المقولة العظيمة «عظمة الإنسان تكمن بين المثير والاستجابة».. هذه الفترة القصيرة من الوقت التي تفصل تعرّضنا للمؤثّرات وردود أفعالنا تجاه هذه المؤثّرات. إنّ المتدبّر لهدي الإسلام في معادلة المثير والاستجابة يرى بوضوح التأكيد على الاستغلال الراقي لهذه الفترة وأنّها مجال رحب للاستثمار الإيجابي.
يقول سبحانه وتعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فُصِّلت/ 34 – 35).
بمعنى كن إيجابياً في تعاملك مع الآخرين وأحسن إليهم.. إلى أي درجة؟ إلى درجة أن يكون تصرُّفك مع عدوك كأنّه تصرُّفك مع صديقك الحميم.
وهذه بالتأكيد درجة لا يصلها إلّا شخص يتمتع بالصبر والأناة وسعة الأُفق.. وهذا لعمرك حظ عظيم من الله سبحانه وتعالى. كما قال: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) (آل عمران/ 134).
ومع هذه التوجيهات الربّانية بالإحسان والعفو والتسامح والصبر، يقول سبحانه وتعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) (النحل/ 126).. فهناك اعتبارات عملية تحتم أن يقف الإنسان مع حقّه وأن يأخذه بدون زيادة أو نقص؛ ولكن بالإضافة إلى ذلك، تعطي الآية خيار ثاني في التعامل: (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (النحل/ 126).. فمع الخيار الأوّل المسموح به، هناك خيار ثانٍ أفضل وأرفع في مستوى الخيرية.
وليس غريباً في هذا السياق أن يكون حُسن الخلق وهو الأرضية التي تنطلق منها الاستجابة عند المؤثّرات أفضل الأخلاق وأقربها إلى الوصول إلى الاستجابات الإيجابية، فيقول الرسول (ص): «أقربكم منِّي مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً»، وجاء في الأثر: «ذهب حُسن الخلق بخيري الدُّنيا والآخرة»، وقال (ص): «ليس الشديد بالصرعة؛ ولكنّ الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب».
ووجّه صلوات الله وسلامه عليه إلى ترك الغضب كررها ثلاث مرّات. وكذلك ليس غريباً أن يكون أنبل الأخلاق: «العفو عند المقدرة».
ومن هذه الآيات العظيمة والأحاديث الشريفة يبدو واضحاً أنّ المسافة القصيرة التي تكون بين المثير والاستجابة هي المؤشّر الحقيقي على درجة ارتفاعنا أو درجة انحدارنا.. إنّها التعبير الحقيقي عن تميّزنا الشخصي إمّا بميوله الإيجابية أو ميوله السلبية.. لقد صدق ذلك الحكيم الذي قال يوماً ما: «إنّ عظمة الإنسان تكمن بين المثير والاستجابة».►
المصدر: كتاب دروس ثمينة في تحقيق التميز والنجاح في الحياة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق