ويبدو من بعض نصوص السنة أن هذا الخُلق غدا من ثوابت الثقافة في وعي الإنسان المسلم منذ عهد النبيّ (ص) في المدينة.
فقد روى الكليني بإسناده عن حنان بن سدير، عن أبيه، عن أبي جعفر الإمام محمد باقر (ع)، قال: «جاء رجل إلى النبيّ (ص) فشكا إليه أذّي من جاره، فقال له رسول الله (ص): اصبر. ثم أتاه ثانية، فقال النبي (ص): اصبر. ثم عاد إليه فشكاه ثالثة، فقال النبيّ (ص) للرجل الذي شكا: إذا كان عند رواح الناس إلى الجمعة فأخرج متاعَك إلى الطريق حتى يراه من يروح إلى الجمعة، فإذا سألوك فأخبرهم. قال: ففعل، فأتاه جاره المؤذي له قال له: ردَّ متاعك، فلك الله عليَّ ألاّ أعود».
وفي المحجة قيل: يا رسول الله كيف لي أن أعلم إذا أحسنت أو أسأت؟ فقال (ص): «إذا سمعت جيرانك يقولون قد أحسنت، فقد أحسنت. وإذا سمعتهم يقولون قد أسأت فقد أسأت».
لقد تبين أن التجمع الحضري الإسلامي لا يقوم على مجرد الاشتراك في السكن في مكان واحد، بل ينشئ على المشتركين فيه حقوقاً والتزامات أخلاقية.
إن هذا المسكن يجسد إرادة مشتركة في العيش وفي التعاون وفي التكافل، ليس في العيش معاً فقط، بل في التعاون الطوعي الذي يقتضي البذل والتضحية وهو ما صرحت به الآية المباركة وهو الإحسان إلى الجار ذي القربى وإلى الجار الجنب.
وهذا يجعل من التجمع الحضري الإسلامي سواء كان قرية أو مدينة تجمعاً فريداً من نوعه في كلّ العالم قديماً وحديثاً، لأن الحقوق التي فرضتها الشريعة الغراء للجار تجعل من هذا التساكن مظهراً من مظاهر التعاون الذي هو نتيجة للإيمان وللحسّ الأخلاقي وليس نتيجة للإلزام الخارجي، ويكوِّن شخصية فريدة للتجمع الحضري في القرية المسلمة والمدينة المسلمة، وينسجم مع المبدأ الإسلامي العام في الاجتماع البشري الذي عبَّر عنه قوله تعالى: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لَتَعَارَفُواْ) (الحجرات/ 13) وقوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (سورة المائدة/ 2).
نضيف إلى ذلك أيضاً أن هذه النصوص تدل كما أشرنا على أن التجمع الحضري الذي ينشئه الإسلام لا يختص بكون السكان مسلمين فقط، بل يشمل المسلمين وغير المسلمين، وقد عبّر كثير من الفقهاء عن ذلك بصراحة.
قال أحمد بن حنبل: الجيران ثلاثة: جار له حق، وهو الذمي الأجنبي له حق الجوار، وجار له حقان وهو المسلم الأجنبي، له حق الجوار وحق الإسلام، وجار له ثلاثة حقوق وهو المسلم القريب له حق الجوار وحق الإسلام وحق القرابة.
وقال الإمام الغزالي في ذكر حقوق الجار: «ليس حقّ الجار كف الأذى فقط، بل احتمال الأذى. فإن الجار كف أذاه، فليس في ذلك قضاء حقّ. ولا يكفي احتمال الأذى، بل لابدّ من الرفق وإسداء الخير والمعروف، ومنها أن يبدأ جاره بالسلام ويعوده في المرض، ويعزيه عند المصيبة، ويهنئه عند الفرح، ويشاركه السرور بالنعمة، ويتجاوز عن زلاته، ويغض بصره عن محارمه، يحفظ عليه داره إن غاب، ويتلطف بولده ويرشده إلى ما يجهله من أمر دينه ودنياه» هذا إلى جملة الحقوق العامة الثابتة لعامة الناس.
وبلغ ابن المقفع أن جاراً له يبيع داره في دَينٍ ركبه وكان يجلس في ظل داره فقال: ما قمت إذن بحرمة ظلِّ داره أن باعها معدماَ! فدفع إليه ثمن الدار وقال: لا تبعها!
وجملة حقّ الجار أن يبدأه بالسلام، ولا يطيل معه الكلام، ولا يكثر عن حاله السؤال، ويعوده في المرض، ويعزّيه في المصيبة، ويقوم معه في العزاء، ويهنئه في الفرح، ويظهر الشركة في السرور معه، ويصفح عن زلاته، ولا يتطلع من السطح إلى عوراته، ولا يضايقه في وضع الجذع على جداره، ولا يصب الماء من ميزابه، ولا في مطرح التراب في فنائه، ولا يضيق طريقه إلى الدار، ولا يتبعه النظر فيما يحمله إلى داره، ويستر ما ينكشف له من عوراته، وينعشه من صرعته إذا نابته نائبة، ولا يغفل عن ملاحظة داره عند غيبته، ولا يتسمع عليه كلامه، ويغض بصره عن حرمته، ولا يديم النظر إلى خادمته، ويتلطف لولده في كلمته، ويرشده إلى ما يجهله من أمر دينه ودنياه..►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق