• ٧ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٥ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مفاتيح التسلّح بالدُّعاء

عمار كاظم

مفاتيح التسلّح بالدُّعاء

من منطلق كون الإسلام دين الإنسانية، فهو لا يدع شأناً من شؤون الحياة إلّا ويبرمج له وينظمه، سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي.. ويواكب حياة المؤمن بمناهجه، لكي تبقى آمنة مطمئنة مستقرة: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28). ملاحظاً في ذلك الطبيعة البشرية، والفطرة الإنسانية، فيسايرها، ويرافقها لكي يمنع عنها تأثيرات القوى الشريرة.. ولتكون بمأمن من آثارها السيئة، مثل القلق، والاضطراب.. والدُّعاء يعتبر من الوظائف الروحية في الإسلام، التي تسعى لتقوية العلائق بالله العظيم لتصفو النفس من المشاكل.. بل هو من أهم الوظائف الروحية في هذا الدين العظيم. ولا يمكن اعتباره مجرد عبادة، إنّما هو استمداد من القوّي العزيز لحلّ أزمات الحياة، والتغلب على مشاكل الدهر، إنّه أملٌ يحيي القلب، ويبعث على الحيوية والنشاط. والدُّعاء يشكل لائحة بأهمّ مفاهيم الإسلام، وأصوله ومعتقداته، والمؤمن الذي يلتزم تلاوة الأدعية، ويمارس قراءتها دائماً، يكون عادةً مثقفاً بثقافات إسلامية متنوعة. وقد كان للإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)، قسط وافر، ومجهود كبير في مجال تهذيب النفوس وتقويمها، وتربيتها من خلال الأدعية العظيمة المأثورة عنه، والمثبتة في الصحيفة السجادية وغيره من كتب الأدعية والتراث. فقد استطاع هذا الإمام العظيم، بما أوتي من بلاغةٍ فريدة، وقدرةٍ فائقة على أساليب التعبير العربي وذهنية ربانية تتفتق عن أروع المعاني، وأدقها في تصوير صلة الإنسان بربه، ووجده بخالقه وتعلقه بمبدئه ومعاده، وتجسيد ما يعبر عنه ذلك من قيم خلقية وحقوق وواجبات، ل قد استطاع الإمام علي بن الحسين، بما أوتي من هذه المواهب، أن ينشر من خلال الدُّعاء، جواً روحياً في المجتمع الإسلامي، يساهم في تثبيت الإنسان المسلم، عندما تعصف به المغريات وشدِّهُ إلى ربّه حينما تجرّه الأرض إليها، وتأكيد ما نشأ عليه من قيم روحية..

في القرآن منهج متكامل للدُّعاء، يحتوي على الأساليب المتينة، والمحتويات العظيمة، والدقة في اختيار الأدعية التي ينبغي أن يتعلمها المؤمن ويرددها.. فقد ورد الأمر بالدُّعاء، والتأكيد عليه، وصرح القرآن بضمان الاستجابة من قبل الله عزّوجلّ لتشجيع الناس وحثهم على ممارسته والإكثار منه. قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر/ 60). ويأمر نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسوق الناس باتجاه الله عن طريق الدُّعاء: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة/ 186). ويعتبر الدُّعاء تذكراً متبادلاً بين الخالق والمخلوق، وعلاقة وثيقة بين العبد وربّه، فالعبد الذي لا يغفل عن ذكر الله بالدُّعاء، يذكر الله بالرحمة والمغفرة، وكشف الكربات وحلّ الأزمات: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ...) (البقرة/ 152). (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ...) (الكهف/ 24). (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ) (آل عمران/ 41). (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) (النساء/ 103). كلّ ذلك إشارة إلى أنّ الدُّعاء غذاء روحي، ومهدّىء يبعد الوساوس عن النفوس، ويزيح عنها قهر الحوادث باتصالها بخالق الكون، وربّ السماوات والأرض، ولولا دُّعاء الإنسان، ومناجاته مع الله عزّوجلّ، لانقطعت الصلة بينه وبين السماء، فالذي لا يدعو، ولا يناجي الله سبحانه، يكون قد أعرض عن الله، وجزاؤه: إعراضُ الله عنه: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ) (الفرقان/ 77). ومعنى ذلك أنّه يبقى من غير أملٍ، لا يجد ملجأً يأوي إليه، أو قوةً يستند إليها، وتظل نفسه تائهة قلقة تتعلق بأسباب واهية لا تغني عن الله شيئاً. يحكي لنا القرآن الكريم عن النبيّ يونس (عليه السلام) حين صار في بطن الحوت، وأطبقت عليه ظلماتٌ ثلاث: ظلمة الليل، وظلمة قاع البحر، وظلمة بطن الحوت، لم يجد أية قوةٍ قادرةً على انقاذه وإسعافه من هذه الورطة، سوى الاتصال بالله سبحانه، بالدُّعاء والتضرع إليه، وقد كان اليأس من الفرج والنجاة في تلك الساعات الحرجة القاسية يعتصر قلبه، ويضيق عليه، ووجد الأبواب كلّها مغلقة دونه، سوى باب واحد، وهو باب الله تعالى. ويقول القرآن الكريم عنه: إنّه لو لم يكن على ارتباط وثيق - في تلك الأزمة الشديدة - مع الله سبحانه لكان محكوماً عليه باللبث في مكانه إلى يوم القيامة، ولكن الأمر الذي عجل له بالخلاص والنجاة، هو دعاؤه واتصاله بالله عزّوجلّ: (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (الصافات/ 143-144). وما من نبيٍّ من أنبياء الله، إلّا وتسلّح بالدُّعاء في كلّ أحواله، خاصة للثبات والصمود في وجه الملمّات والمصاعب، وفي حالات الشدة والعسر والضيق، وفي ساعات الخوف والاضطراب وهجوم الأحزان على النفس...

نقرأ في القرآن الكريم نماذج من أدعيتهم التي كانوا يرددونها في الشدائد، ويستمدون العون من الله تعالى من خلالها، ويستلهمون القوة والعزم منها: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (الأنبياء/ 83). (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) (القمر/ 10). (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) (الأنبياء/ 89). (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الأنبياء/ 90). وهكذا، نجد القرآن حافلاً بأدعية الأنبياء. وفي القرآن منهج خاص بالدُّعاء، لا يمكن أن يستغني عنه المؤمن في حياته، لأنّه العلاج الأنجع لمشاكله وآلامه. وقد كان للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام)، دور كبير في تعليم الأُمّة أساليب الدُّعاء، وطرائقه، وآدابه، ومحتوياته، ومضامينه، وترويضهم على ممارسته في كلّ حال، بشكل لا ينقطع معه المؤمن عن الدُّعاء أبداً. وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا تعجزوا عن الدُّعاء فإنّه لن يهلك مع الدُّعاء أحد».

وعن جابر (رضى الله عنه) يرفعه: «لقد بارك الله للرجل في حاجةٍ أكثر الدعاء فيها، أُعطيها أو مُنِعها». وعن أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام): «ادفعوا أمواجَ البلاء بالدُّعاء». وعن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله». وعن الإمام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام): «سلاح المؤمن الدعاء، وهو عماد الدين ونور السماوات والأرض».

وعنه (عليه السلام) أيضاً: «جعل في يديك مفاتيح خزائنه، بما أذن لك فيه من مسألته، فما شئت استفتحت بالدُّعاء أبواب نعمته، واستمطرت شآبيب رحمته، فلا يقنِطنَّكَ إبطاء إجابته، فإنّ العطية على قدر النيّة، وربما أُخِّرَت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجرٍ السائل، وأجزل لعطاء الآمل، وربما سألت الشيء فلا تُؤتاه، وأُوتيت خيراً منه عاجلاً أو آجلاً، أو صُرفَ عنك بما هو خير لك. فلربّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أُوتيته».

لقد فتح الله لنا الباب، فلنكن ملحّين على الله، نتوسَّل إليه بالدُّعاء والأعمال الصّالحات، لتغيير واقعنا إلى الأحسن، ولا يكون هذا إلّا بوضوح الهدف، وصفاء النيَّة، ونقاء السَّريرة والإخلاص. لنكن جديرين بالأمانة التي أوكلها الله إلينا، فلا نختار إلّا ما ينسجم مع الفطرة؛ فطرة الله التي فطر الناس عليها. لنكن جديرين بصقل هذه الفطرة وتنقيتها، وإزالة ما يعلق بها من أدران الدُّنيا وشوائبها، ولنكن كما قضى الله وقدَّر، خلفاء له على هذه الأرض، نسير وفق هديه، وفي خطِّ رضاه، لنعمر الأرض بالخير والعدل والحقّ.

ارسال التعليق

Top