أسرة البلاغ
التنشئة والتربية:
وُلِدَ محمّد (ص) وعاش طفولته الطاهرة برعاية جدّه عبدالمطّلب. وكانت عادة قريش، إذا وَلَدَ لهم مولود بحثوا عن مرضعة، فكان أوّل لبن تناوله من المرضعات بعد رضاع أُمّه هو لبن ثويبة مولاة (جارية مملوكة) عمّه أبي لهب، ثمّ راح جدّه يبحث عن المرضعات، ويجدّ في إرساله إلى البادية ليتربّى في أحضانها لينشأ فصيح اللِّسان، قويّ المِراس.
وكانت المرضعات كلّما سمعنَ أنّه يتيم أعرضنَ عن رضاعه، ولم يقبلْنَ به، فقد كنّ يرغبن في المال الوافر والعطاء. وشاء الله أن تكون المربية التي تحظى بشرف احتضانه ورعايته هي (حليمة بنت أبي ذؤيب السعدي) زوجة الحارث بن عبدالعُزّى بن رفاعة السعدي. تسلّمه الحارث من جدِّه عبدالمطّلب، وسلّمه إلى حليمة السعدية لينشأ في حضنها، ويدرج بين أبنائها: عبدالله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وحذافة بنت الحارث التي عرفت باسم (الشيماء)، هذه الشيماء التي كانت تحنو على رسول الله (ص) في طفولته وتحتضنه وتعتني به اعتناء المربِّية والحاضنة الرّؤوفة به.
وحين بلغ محمّد الرابعة (وقيل الخامسة أو السادسة) من عمره، عادت به حليمة إلى أُمّه وجدّه، صبياً لا كالصبيان، وناشئاً لا كالناشئة؛ فقد نشأ وعاش طفولته في كنف تلك المربية الحنون، ثمّ في رعاية أُمّه وجدّه. عاش لا كما يعيش الصغار من أصحابه وأترابه، عاش ورعاية الله تحوطه، ولطف المربِّي يغمر جوانب حياته وهو يُعدُّ ويُربّى، إعداداً وتربية إلهية خاصّة، لذلك كان يقول (ص): "أدّبني ربِّي فأحسنَ تَأديبي"[1].
لقد وُلِدَ ونشأ وشبّ مطهّراً مبرّأً من الذنوب والمعاصي وعادات الجاهلية وعقائدها وسلكوها، وعُرِفَ عنه النفور من الأوثان، والتأمّل في ملكوت السماوات والأرض، ثمّ الخَلْوَة والإنفراد والتعبّد في مرحلة الشباب.
وهذا الصبيّ اليتيم، كانت حياته مليئة بالمعاناة والفقد والفراق، فحين أبصر نور مكّة لم يبصر أباه عبدالله، الذي توفِّي في سفره ولم يرجع، وحين غدا صبيّاً يمرح في ظلال أُمّه الحنون شاء الله سبحانه أن يعوِّضه عن حنان الأمومة، حنانه ورعايته الفريدة، عندما توفّيت آمنة وهو لم يتجاوز السادسة من عمره الشريف.
فَقَدَ أُمّه، عندما كان يصحبها في سفر إلى المدينة المنوّرة لزيارة أخواله بني عدي ابن النجار ليتعرّف عليهم، فقد مرضت وتوفيت في طريق العودة إلى مكّة في قرية تُدعى (الأبواء)[2] بين مكّة والمدينة، فاحتضنته (أُمّ أيمن، بركة الحبشية) الخادمة التي صحبتهم في رحلة الوداع هذه، وداع أُمّه الحبيبة آمنة، وسلّمته إلى جدّه عبدالمطّلب، ليفيض عليه العناية والرعاية والكفالة الحسنة، ولم يفارقه حتى حال الموت بينهما، والنّبيّ لم يتجاوز الثامنة من عمره، فكفله عمّه أبو طالب الذي رافقه في صباه وشبابه، وفي دعوته ومحنته وصراعه من أجل الحقّ ونشر دعوة الإسلام، وتثبيت معالم الشريعة.
نما وترعرع محمّد (ص) في بيت عمّه أبي طالب، حتّى كبر وبلغ الخامسة والعشرين من عمره المبارك فتزوّج خديجة.
وكانت فاطمة بنت أسد زوجة أبي طالب (أُمّ الإمام عليّ) تفيض عليه من حبِّها وحنانها ما عوّضه فقد أُمّه آمنة.
وقد عبّر عن ذلك، يوم وفاتها، بقوله (ص): "اليوم ماتت أمِّي، إنّها كانت أمِّي إن كانت لتُجيعُ صبيانَها وتُشْبِعُني، وتُشعِثُهُم وتُدهِنني، وكانت أُمِّي"[3].
الزّواج الخالد:
وُلِد محمّد (ص) في بيت من أرفع بيوت العرب شأناً، وأعلاها مجداً، وأكثرها عزّة ومنعة، فكبر (ص) وترعرع وشبّ وشبّت معه آمال الحياة كلّها.
وها هو محمّد في ريعان الشباب، وقمة الفتوّة وعنفوان الرجولة؛ إنّه شاب من أكثر شباب قريش فتوّةً وجمالاً، وأعلاها شرفاً ونسباً، وهو بعد ذلك، يمتاز عن سائر شباب قريش بشرف نفسه، وكمال خلقه، ونضج شخصيّته، فقد شاء الله أن يربّي محمّداً (ص) ويعدّه، ويؤهّله لحمل الرسالة والاضطلاع بتبليغ الأمانة.
لقد اُحيط محمّد برعاية إلهيّة خاصّة، أهّلته وفق قدر ربّاني لما ينتظره من عظم المسؤولية، وما يمكِّنه من حمل الرسالة، ونشر الدعوة: نسبه، أرض مولده، طفولته، تربيته، زواجه، وكلّ شيء في حياته.
وها هو (ص) يبلغ من الشباب وعلى وجه التحديد سنّ الخامسة والعشرين من عمره الشريف، فكان ولابدّ له من الاقتران بامرأة تناسب إنسانيّته، وتتجاوب مع عظيم أهدافه، وترتفع إلى مستوى حياته، بما ينتظرها من جهاد، وبذل وصبر، ولم يكن في دنيا محمّد (ص) من امرأة تصلح لهذه المهمّة غير خديجة (رض)، وشاء الله ذلك، فيتّجه قلب خديجة نحو محمّد (ص)، ويتعلّق بشخصه الكريم، وتطلب هي الزّواج منه، فيقبل (ص) ذلك الطّلب، ويقترن بخديجة (رض).
تزوّج رسول الله (ص) خديجة[4]، وهو لمّا يزل في الخامسة والعشرين من عمره الشريف.
وبعد أن تمّ الزّواج المبارك انتقل رسول الله (ص) إلى دار خديجة؛ تلك الدار التي ما زالت مَعْلَماً شاخصاً ولساناً ناطقاً يحكي أحداث الدعوة والجهاد وصبر رسول الله (ص) ومعاناته.
تحدّث ابن جرير الطبري عن هذا المَعْلَم والبيت المبارك فقال:
"وكان منزل خديجة يومئذٍ المنزل الذي يعرف بها اليوم، فيقال منزل خديجة، فاشتراه معاوية فيما ذكر، فجعله مسجداً يصلِّي فيه الناس، وبناه على الذي هو عليه اليوم، لم يُغيّر، وأمّا الحجر الذي على باب البيت عن يسار من يدخل البيت، فإنّ رسول الله (ص) كان يجلس تحته، ويستتر به من الرّمي إذا جاءه من دار أبي لهب ودار عدي بن حمراء الثقفي خلف دار ابن علقمة، والحجر ذراع وشبر في ذراع"[5].
وهكذا تكوّنت الأُسرة، واجتمعت الأركان فشُيِّد بيت النبوّة من الزّوجة (الطّاهرة) أُمّ المؤمنين الكبرى، خديجة بنت خويلد، والزّوج الرّسول محمّد (ص) ذي الخلق العظيم، الذي سمّته قريش أيّام جاهليتها بـ(الصّادق الأمين).
كانت هذه الأُسرة المثالية واحة الفضيلة في صحراء الجاهلية، وبحبوحة السعادة في دنيا الشقاء آنذاك؛ يغمرها الحبّ، ويشدّ أواصرها الإخلاص.
أحبّ رسول الله محمّد (ص) خديجة (رض) وأحبّته، وأخلص لها وأخلصت له، فلم يكن يرى في الدُّنيا مِنَ النِّساء مَن تُعادِلْ خديجة، فهي أوّل مَن آمنت برسالته، وصدّقت دعوته، وبذلت مالها وثروتها الطائلة في سبيل الله تعالى، ومن أجل نشر الدعوة الإسلامية؛ فتحمّلت مع رسول الله (ص) عذاب قريش ومقاطعتها وحصارها. وكان هذا الإخلاص الفريد، والإيمان الصادق، والحب المخلص من خديجة، حريّاً بأن يقابله رسول الله (ص) بما يستحقّ من الحبّ والإخلاص والتكريم، وبلغ من حبِّه لها، وعظيم مكانتها في نفسه الطاهرة، أنّ هذا الحبّ والوفاء لم يفارق رسول الله (ص) حتى بعد موتها، ولم تستطع أي من زوجاته أن تحتلّ مكانتها في نفسه؛ فقد رُوي عنه (ص) أنّه كان إذا ذبح الشاة يقول:
"(أرسلوا إلى أصدقاء خديجة) فتسأله عائشة في ذلك فيقول: (إنِّي لأحبّ حبيبها)"[6].
ويُروى أنّ امرأة جاءته (ص) وهو في حجرة عائشة، فاستقبلها واحتفى بها، وأسرع في قضاء حاجتها، فتعجّبت عائشة من ذلك، فقال لها رسول الله (ص):
"إنّها كانت تأتينا في حياة خديجة".
وجرت مرّة محاورة بين رسول الله (ص)، وزوجته عائشة، حين شعرت بالغيرة تملأ قلبها من كثرة ذكره لخديجة، وتعلّق حبّه بها، فقالت له:
"ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين، قد أبْدَلَكَ الله خيراً منها، فآلمَ النّبيّ (ص) هذا القول: وردّ عليها قائلاً: "ما أبدلني الله خيراً منها، كانت أُمّ العيال، وربّة البيت، آمنت بي حين كذّبني الناس، وواستني بمالِها حين حرمني الناس، ورُزِقتُ منها الولد وحُرِمتُ من غيرها)"[7].
وخديجة بنت خويلد حَريّة بهذا القدر والمقام عند رسول الله (ص)، بعد أن حازت المقام الرفيع والدرجة السامية عند ربّها، فهي المرأة التي حباها ربّ العالمين، وبشّرها بالخلد والنعيم، فقد رُويَ:
"أنّ جبريل أتى رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله! هذه خديجة، قد أتت معها إناء فيه أدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربِّها، ومنِّي، وبشِّرها ببيت في الجنّة من قصب[8] لا صخب فيه ولا نصب"[9].
ولذا قال فيها رسول الله (ص):
"أفضل نساء أهل الجنّة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون"[10].
الوحي والبعثة:
الوحي في اللّغة هو الكلام الخفي، وهو الإشارة السريعة، أو هو إلقاء ما يريد الموحي إلقاءه لدى الطرف الآخر، من إعلام وأوامر وإرشادات... إلخ، سواء عن طريق الإشارة، أو الكتابة، أو الرمز، أو المحادثة.
وقد اتّخذت كلمة (الوحي) معنىً اصطلاحياً قرآنيّاً كغيرها من الكلمات العربية، التي نُقِلَت من استعمالها العام إلى استعمالها الشرعي الخاص، فأصبح لفظ (الوحي) اسماً لِما يُلقى للأنبياء والرسل من كلام الله وقوله سبحانه.
قال الشيخ المفيد:
"أصل الوحي هو الكلام الخفيّ، ثمّ قد يُطلق على كلّ شيء قصد به إلى إفهام المخاطَب على الستر له عن غيره، والتخصيص له به دون مَن سواه، وإذا أضيف إلى الله تعالى كان فيما يخص به الرّسل (ع) خاصة دون مَن سواهم على عُرف الإسلام، وشريعة النّبيّ"[11].
ولقد كان الوحي الإلهي منذ بزوغ أنواره على سطح هذه الأرض، وإلى يومنا هذا، وسيبقى كذلك يشكِّل لدى الجاهليين مشكلة فكرية واعتقادية صعبة الفهم، عسيرة الاستيعاب.
أمّا بالنسبة للفكر الإيماني فليست ظاهرة الوحي لديه في حقيقتها إلّا التعبير عن استمرار العناية الإلهيّة الرحيمة، وتتابع الألطاف الربّانية الهادية، رحمة بالإنسان الضال المنحرف، وإنقاذاً له، إذ لم يشأ الله سبحانه أن يخلق الإنسان ويتركه مهملاً بلا توجيه، وضائعاً بلا رعاية على هذه الأرض، بل جعل الله الوحي إلى الإنسان وسيلة لتعريفه بنفسه، بربِّه، وعالمه، وسبيلاً إلى هدايته، لتنظيم حياته، وبيان طريقة تعامله مع أبناء نوعه، وكيفيّة توجّهه إلى خالقه.
وهكذا شاء لطف الله بعباده، وقضت إرادته الحكيمة أن يختار أفراداً مخصوصين ومؤهّلين للاتصال بالألطاف الربّانية بعد أن يهيئهم الله بلطفه، فيوفِّر لهم الاستعداد الروحي، والتكامل النفسي، والنضج العقلي، والسمو الذاتي، ليكونوا مؤهّلين لحمل الرسالة وتبليغ الأمانة، وتمثيل الإرادة الربّانية على هذه الأرض:
(اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (الحج/ 75).
(وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ) (الأنعام/ 124).
وإذن لابدّ للنّبيّ من بلوغ نوع من الاستعداد، والتكامل الروحي الذي يهيِّئه لتلقِّي الفيض والمعرفة الإلهية، ويرفعه إلى درجة التجرّد عن هذا العالم المادِّي، والتعلّق بالله سبحانه.
وهاتان الصفتان: التجرّد والتعلّق، هما الوسيلتان الروحيتان لتمكين النبيّ من اختراق المألوف من عالم الشهادة، عالم الحسّ، والاتصال بعالم الغيب في حالة الوحي، حيث يتم تعطيل ارتباط الذات الواعية بالعالم المادي، ويحصل الانفصام الكلِّي عنه، لترتفع القوى الروحية والعقلية المتسامية إلى درجةٍ تجعل الذات النّبويّة في حالة روحية مستعدة لاستقبال وما يُلقى إليها من العالم العلوي ووعيه وإدراكه.
وهكذا تكون الذات النبويّة في حالة تلقِّي الوحي مطلّة على عالم التجليات العلوية، ومشدودة إلى إفاضة الأنوار القدسية، ومقتربة من حظائر القدس، وعالم الجلال، عبر انفصال مؤقّت عن عالم الشهادة – عالم الحس والمادّة – واختراق للمألوف من قوانينها.
وبالتأمل في النصوص والمفاهيم القرآنية والروايات التي تحدّثت عن الوحي والنبوّة نستطيع أن نشخِّص حالتين لتلقِّي الوحي من عالم القدس والجلال، وهما:
أ- التلقّي المباشر الذي عبّر عنه الإمام جعفر الصادق بقوله:
"ذلك إذا لم يكن بينه وبين الله أحد".
ب- التلقّي عن طريق ملك الوحي – جبريل (ع) – حيث يتنزّل الأمر والوحي إلى عالم الملائكة التي تتلقّى من مكنون العلم في حظائر القدس ومحفوظ المعرفة والإرادة الإلهيّة، المُفاضة مِن لَدُنِ علّام الغيوب، ليتم نقله وتبليغه إلى النّبيّ الكريم محمّد (ص).
وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذا اللّون من الإيصال والتلقّي، فقال:
(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (الشعراء/ 193-194).
(وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (الشورى/ 51).
وهكذا يُلقَى الوحيُ مِن لَدُنِ الذات الإلهيّة إلى عالم الملائكة ليهبطَ به جبريل على عالم الإنسان القائم في شخص النبيّ، وهو في حالة الإنسلال من عالم المادّة وانكشاف حجابها وانطلاق الوعي إلى عالم الروح الملائكي، فيتلقّى من الملَك ما يُوحى إليه من أمر ربّه.
على أنّ هذا الانتقال من عالم القدس إلى عالم الخُلق الملائكي، هو انتقال نوعي وذاتي، وليس انتقالاً زمانياً، أو مكانياً.
وهكذا كان الكلام الإلهي إلى الرسول الأعظم يأتي وحياً، أي إلقاءً مباشراً في نفس النّبيّ، أو من وراء حجاب، أو بواسطة ملك مرسل.
وهذا ما يقتضيه منطق السنن الكونية المسيطرة على الطبيعة الإنسانية:
(وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ[12] أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (الشورى: 51).
ولا يدري أحد كيف يتم ذلك، فالكون عوالمه غريبة، وعالمنا ليس إلّا واحداً من تلك العوالم، ولكلِّ عالم قوانينه وأنظمته الخاصّة به، ولا ندري كيف تجري العوالم الأخرى، فهي أيضاً لها قوانينها وطبيعتها الخاصّة بها.
إلّا أنّنا نجد في وصف الإمام عليّ (ص) للعالم الملائكي، وعلاقته بالله من جهة، وبعالمنا من جهة أخرى ما يكشف لنا بعض جوانب الغموض، ويجلِّي بعض معالم الحقيقة.
قال (ع):
"(وبينَ فَجواتِ تلكَ الفُروجِ زجل المسبِّحين منهم في حظائِر القُدس، وسُتُراتِ الحُجُبِ، وسُرادِقاتِ المجدِ، ووراءَ ذلك الرّجيج الذي تَسْتَكُّ منهُ الأسماعُ سُبحاتُ نورٍ تَردَعُ الأبصارَ عَن بلوغِها، فَتَقِفُ خاسِئَةً على حُدودِها...).
إلى أن قال: (جعلهم اللهُ فيما هنالك أهلَ الأمانةِ على وحيهِ، وحَمَّلَهُم إلى المرسلين ودائعَ أمْرِهِ ونَهْيِهِ وعَصَمَهُم مِن رَيْبِ الشُّبُهاتِ)"[13].
تلقِّي الأنبياء (عليهم السلام):
يتلقّى الأنبياءُ والرّسل (ع) ما يريدُ الله سبحانه أن يُلقِيَهُ إليهم من أوامرَ ومعارفٍ وإرشاداتٍ وتشريعاتٍ بطرق ووسائل يمكن استقراؤها وحصرها في ما يلي:
أ- بواسطة الإلقاء في نفس النّبيّ، ووضوح المعنى لديه، كما يحصل في التسديد والتوجيهات العامّة للرسول (ص).
وقد ورد على لسانه (ص) ما يؤكّد هذه الحقيقة، ويكشف عن هذه الكيفية، كقوله:
"يا أيُّها النّاس! إنّه قد نَفَثَ في رَوْعي روحُ القُدسِ، أنّه لن تموتَ نفسٌ حتّى تستوفيَ في رِزقَها"[14].
وهذه الحالة من الوحي والتعليم، هي عبارة عن إيضاح وتسديد، ولكن مع علم النّبيّ أنّ الذي يلقي في نفسه هو روح القدس.
ب- الوحي المباشر، ويتمّ بواسطة الكلمة الإلهيّة التي يسمعها النّبيّ صوتاً، ويعيها معنىً، وليس بينهما أحد، وتحصل هذه الحالة من الوحي عن طريق إلقاء الكلمة الإلهيّة بلا واسطة ملك، إنّما يسمع النّبيّ وهو في وضعه المتهيِّئ لاستقبال الكلمة المُلقاة إليه، كما يسمع الأصوات الأخرى، ولكن عن طريق خلق أصوات ومعانٍ، وعبارات في وعي النّبيّ بصورة تتناسب وطبيعته الإنسانية، وتتفق مع استعداده الذاتي.
وقد تحدّث الإمام جعفر الصادق (ع) عن هذه الكيفية العليا من كيفات الحي فقال:
" كان رسول الله إذا أتاهُ الوحيُ من الله وبينهما جبرئيلُ (ع) يقول: (هو ذا جبرئيل، وقال لي جبرئيل)، وإذا أتاه الوحي وليس بينهما جبرئيل تصيبه تلك السّبْتَةُ ويغشاهُ منه ما يغشاهُ لثقلِ الوحي عليه منَ الله عزّ وجلّ"[15].
ج- الوحي بواسطة تكليم الملك جبرئيل (ع) للنبيّ واستماعه إلى ذلك كما يستمع لأيٍّ من الأصوات البشرية المعتادة، قال تعالى:
(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (الشعراء/ 193-194).
د- الإيحاء إلى النّبيّ بواسطة الرؤيا في المنام، كما في رؤيا إبراهيم (ع):
(قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) (الصّافات/ 102).
وكما في رؤيا الرسول (ص) التي تحدّت عنها القرآن بقوله:
(وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) (الإسراء/ 60).
(لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ) (الفتح/ 27).
الإعداد للنّبوّة:
أعدّ الله نبيّه محمّداً (ص) وهيّأه لحمل الرسالة، وأداء الأمانة الكبرى لإنقاذ البشرية، وحين بلغ الأربعين سنة من عمره الشريف، اختاره الله سبحانه نبيّاً ورسولاً وهادياً للبشرية جمعاء. وكانت بداية الوحي، وقبل أن يأتيه جبريل (ع) في غار حِراء[16]، أنّ رسول الله (ص) كان يرى في المنام الرّؤيا الصّادقة، وهي درجة من درجات الوحي، كما كان يذهب إلى غار حِراء يخلو فيه ويتعبّد.
فقد روي عن محمّد بن كعب وعائشة:
أنّ أوّل ما بُدِئَ به رسول الله (ص) من الوحي، الرّؤيا الصّادقة، وكان يَرى الرّؤيا فتأتيه مثل فلق الصبح، ثمّ حُبِّبَ إليه الخلاءُ، (فكان يخلو بغار حِراء)[17].
إنّ المتأمِّل في تلك الرواية يستطيع أن يفهم منها حقائق أساسية تتعلّق بالوحي والنّبوّة:
1- إنّ النّبيّ كان يُهيَّأُ من قِبَل الله تعالى لتلقِّي الوحي بتوجيهه عن طريق الإلهام والإلقاء في نفسه، والإنكشاف له من خلال الرّؤيا الصّادقة، ولم يُفاجأ به، كما تُصوِّرُ بعضُ الأخبار ذلك.
وواضح أنّ رؤيا الأنبياء هي درجة من درجات الوحي، ولكنّها أقل مستوىً من التكليم بواسطة جبريل (ع).
2- تحبيب الخلوة له من قبل الله تعالى، لينقطع عن عالم الحس والشهادة، ويستغرق في التأمّل والتعالي نحو عالم الغيب والملكوت الأعلى، والاتّجاه إلى الله سبحانه، وليكون مُهَيّأً لتلقِّي الفيض الإلهي والوحي الربّاني. وبذا فلم يكن النّبيّ (ص) ليذهب إلى غار حِراء ذهاباً عفوياً غيرَ مُوَجّهٍ، ولا حكمة فيه ولا انتظار؛ فالرّوايات تُصرِّح بأنّ النبي (ص) كان ينقطع في كلّ عام شهراً كاملاً في هذا الغار، للخَلْوة والانفراد. كما كان يذهب في بعض الأيّام للخَلْوة والتأمّل هناك، وليس معقولاً أن يتمّ كلّ ذلك بصورة عفويّة، أو بدافع شخصي من الرسول، بل كان توجيهاً إلهيّاً، ومرحلة تأمّل وانتظاراً للوحي، وكان فيها على اتصال بعالم الملكوت الأعلى عن طريق الرؤيا والمنام.
نزول الوحي:
وفي سنة (610م) وهي السنة التي أراد الله سبحانه أن يبعث نبيّه محمّداً (ص) إلى الناس كافّة، كان النّبيّ قد ذهب في شهر رمضان من تلك السنة، إلى الغار ومعه أهله مجاورون، فأتاه جبريل (ع) فألقى إليه كلمة الوحي، وأبلغه بأنّه نبي هذه البشرية والمبعوث إليها.
وتفيد الروايات أنّ أوّل آيات قرأها جبريل على محمّد (ص) هي:
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق/ 1-5).
وتحدّث القسطلاني عن أوّل ما نزل من القرآن فقال:
"وقد رُويَ أنّ جبريل (ع) أوّل ما نزل بالقرآن على النّبيّ (ص) أمره بالاستعاذة، كما رواه الإمام أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس قال:
أوّل ما نزل جبريل على محمّد (ص) قال: يا محمّد استعِذْ، قال: (إستعِذْ بالسّميع العليمِ مِنَ الشّيطان الرّجيم)، ثمّ قال: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، ثمّ قال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)"[18].
بعد تلقِّيه ذلك البيان الإلهي، عاد النّبيّ إلى أهله، وهو يحمل كلمة الوحي، ومسؤولية حمل الأمانة التي كان ينتظر شرف التكليف بها، ويخلو زمناً في الغار لتلقِّيها.
وعاد فاضطجعَ في فراشه وتدثّر ليمنح نفسه قِسْطاً من الرّاحة والاسترخاء، فجاءه الوحي مرّة أخرى يأمره بالقيام، وترك الفراش والبدءِ بالدعوة والإنذار. جاء هذا الخطاب في قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)[19] (المدثر/ 1-7).
[1]- السيوطي، الجامع الصغير، ج1، ح310.
[2]- يذكر المؤرّخون أنّ النبي (ص) – بعد هجرته المباركة – استأذن الباري جلّ شأنه، أن يزور قبر أمّه، فأذن له، فزارها وجلس عند قبرها، فبكى، وبكى أصحابه ومن حوله من الناس، بكاءً شديداً. رواه مسلم، صحيح مسلم، دار إحياء التراث العربي، ط3، ج7، ص45 و46.
[3]- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص14.
[4]- ورد في بعض كتب السيرة أنّ رسول الله (ص) تزوّج خديجة وهي ليست عذراء أي أنّها كانت قد تزوّجت من قَبلُ غيره، وأنّ عمرها كان عند زواجها برسول الله (ص) أربعين عاماً، إلّا أنّه وردت روايات أخرى تخالف ذلك، قال ابن شهر آشوب في كتابه: "وروى أحمد البلاذري وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما، والمرتضى في الشافي، وأبو جعفر في التلخيص: أنّ النبي (ص) تزوّج بها، وكانت عذراء".
ويؤكِّد ذلك ما ذكره في كتابي الأنوار والبدع: أنّ رقية وزينب كانتا ابنتي هالة أخت خديجة، لا ابنتيها، كما نسب بعض كتب السيرة رقية وزينب إلى خديجة بزعمهم أنّها ولدتهما من زواجها السابق عن زواجها برسول الله (ص).
أمّا بخصوص عمرها حين زواجها برسول الله (ص) فهناك روايات متعدِّدة، منها أنّ عمرها كان (25) سنة وآخر (28) سنة، وثالث (30) سنة، ورابع (35) سنة، وخامس (40) سنة، وسادس (45) سنة... إلخ.
ونقل مؤلّف كتاب "كشف الغمّة" من كتاب "معالم العترة النّبويّة" لأبي محمّد عبدالعزيز الجنابذي الحنبلي، أنّه روى عن ابن حمّاد وعن ابن عباس أنّ رسول الله (ص) تزوّج خديجة عن اثنتي عشرة أوقية ذهباً وهي ابنة ثماني وعشرين سنة.
[5]- الطبري، تاريخ الطبري، مطبعة الاستقامة في القاهرة سنة 1358هـ، ج2، ص36.
[6]- العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة، دار إحياء التراث العربي – بيروت، ج4، ص283.
[7]- العسقلاني، الإصابة، ج4، ص283، الشبلنجي، إسعاف الراغبين المطبوع على هامش نور الأبصار، ص96. وما يقرب من ذلك في مسند أحمد، ج6، ص150. ابن الأثير، أسد الغابة، ط دار إحياء التراث العربي، ج5، ص438 و439.
[8]- قصب: ذهب.
[9]- البخاري، صحيح البخاري، ط دار إحياء التراث العربي، ج5، ص48، مسند أحمد ابن حنبل، ج6، ص117، ابن ماجة، سنن ابن ماجة، ط دار إحياء التراث العربي – بيروت، ج1، ص643، ابن الأثير، أسد الغابة، ج5، ص438.
[10]- الحاكم، مستدرك الصحيحين، ط دار المعرفة – بيروت، ج3، ص157 وص185، ابن الأثير، أسد الغابة، ج5، ص437، ابن عبدالبر، الاستيعاب في معرفة الأصحاب المطبوع في حاشية كتاب الإصابة، ط دار إحياء التراث العربي – بيروت، ج4، ص284.
[11]- الشيخ عباس القمي، سفينة البحار، ط دار المرتضى – بيروت، ج2، ص638.
[12]- إنّ الحالتين اللّتين يُحلّم بهما الأنبياء – التكليم وحياً أو من وراء حجاب – تتم بلا واسطة ملك بل عن طريق الكلمة الإلهيّة المباشرة.
[13]- الإمام عليّ (ع)، نهج البلاغة، شرح محمّد عبده، المطبعة الرحمانية – مصر، ج1، ص183. يقصد بالفروج: الفواصل والأبعاد. الرّجيج: اختلاط أصوات المسبِّحين.
[14]- الكليني، الكافي، ط دار الكتب الإسلامية، ج5، ص80.
[15]- المجلسي، بحار الأنوار، ط مؤسسة الوفاء – بيروت، ج18، ص271، نقلاً عن المحاسن، السَّبْتَةُ: حالة تشبه النوم.
[16]- وهو كهف صغير في أعلى جبل حراء في الشمال الشرقي من مكّة.
[17]- الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ط مؤسسة الأعلمي – بيروت، ج20، ص327.
[18]- القسطلاني/ المواهب اللّدنيّة.
[19]- يبدو من سياق سورة المدّثر وأحداثها أنّ هذه الآيات السبع هي التي نزلت فقط بعد الآيات الخمس الأولى من سورة العلق؛ لأنّ بعض الآيات الأخرى من السورة فيها تهديد للمشركين الذين أعرضوا عن الدعوة، كقوله تعالى: (ذَرني وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً)، وبالتالي فهي نزلت بعد ذلك.
ارسال التعليق