فالمؤمن قد يخطئ لكن عليه إذا أخطأ أن يثوب إلى رشده، وإذا زلقت قدمه فكبا أن ينهض من كبوته، وأن يزيح ما علق به من إثم، ثمّ يستأنف طريقه إلى غايته المنشودة، لهذا يلتمس الله للمخطىء عذراً على خطيئته ويحرضه على طلب المغفرة المؤدي إلى محاسبة النفس ومراقبة الله التي تحيي موات الضمير.
وكفارة الخطيئة في الإسلام لا تحتاج إلى اعتراف لرجال الدين، كما انّ الخطيئة لا تبقى معلقة على رأس الفرد لا مخلص منها ولا فرار.
فباستطاعة أي إنسان في الإسلام أن يتوجه إلى ربه مباشرة، نادماً طالباً المغفرة ليفتح الله بابه ويمنحه رحمته وعفوه. قال الله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) (النساء/ 110).
ويذكر الله صفات المؤمنين الذين يستحقون مغفرته بقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) (آل عمران/ 135-136).
والمغفرة يمنحها الله لكل من تاب وأناب إليه مهما اقترف من آثام: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزّمر/ 53).
وقد قيل انّه ما في القرآن أعظم فرجاً لنفسية المؤمن من هذه الآية لأنّها تفتح باب الرجاء على مصراعيه.
والإسلام يجعل فرصة التطهر والتخلص من الآثام ممزوجة بالتزوّد من الخير، فيجعل عمل الخير تكفيراً للإثم، وفي ذلك ما فيه من الحث على عمل الخير، قال الله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) (هود/ 114).
ويقول الله تعالى إنّ الحسنات تؤدي إلى المغفرة:
(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة/ 102).
ويقول رسول الله (ص) في هذا المعنى: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها".
فإيمان الإنسان بأنّ الله يغفر الذنوب جميعاً.. وانّه إذا استغفره غفر له.. من ضمن وسائل العلاج النفسي المستحدثة التي لم يستعن بها الطب إلا في العصر الحديث.
فقد قرر علماء النفس – وعلى رأسهم (فرويد) مؤسس مدرسة التحليل النفسي أنّ كافة الأمراض النفسية ترجح إلى الكبت الذي يسبب عقداً نفسية لا شفاء منها إلّا بما يسمونه التحليل النفسي الذي يتم بأن يجلس الإنسان في عيادة الطبيب النفساني ويعترف أمامه بأخطائه... وهذا الاعتراف يقول عنه الأطباء انّه صفة منطقية نفسية سلوكية تكشف عن أخطاء المريض فيراها ويشعر بها، فتحدث مهادنة بين النفس والضمير... فيسامح الضمير... وإذا ما تسامح الضمير واستشعر الإنسان العفو منه والصفاء بينه وبين النفس... زالت العقدة النفسية. هذا، والعقد النفسية ليست وهماً... فكثيراً ما تسبب هذه العقد الصداع واضطرابات القلب وأمراض الضغط العالي وغيرها من الأمراض... وإذا كان علاجها هو الاعتراف بالخطأ أمام الطبيب ليتسامح الضمير... فأي فرق بين الاعتراف أمام الله وأمام الطبيب، وأي فرق بين غفران الله وتسامح الضمير".
ونظرية الاعتراف بالذنب أمام الله هي نظرية قرآنية لها آثارها المفيدة في النفس الإنسانية.
فالقرآن ذكر مثالاً عن الاعتراف بالظلم بما صدر عن النبيّ (ذي النون) وكان فائدة هذا الاعتراف النجاة من الحزن والكرب وهو في جوف الحوت: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الأنبياء/ 87-88).
انظر إلى قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) فهو إيحاء قوي للمؤمنين للأخذ بهذا الهدي الذي فيه النجاة لهم مما يشعرون به من الحرج والضيق من جراء تبكيت الضمير عند اقتراف الظلم والذنوب. هذا ما يحمله هذا الاعتراف من النفحات الإلهية التي ترفع عن الإنسان الكوارث والآفات الطارئة.
كما أنّ القرآن ضرب مثلاً آخر عن الاعتراف بالذنب بما صدر عن آدم وحواء عند مخالفتهما أمر الله بما جعله الله أمثولة للمؤمنين إذ قالا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف/ 23).
فائدة الاستغفار: والقرآن يجعل الاستغفار من الذنب والإقلاع عنه وسيلة لنيل رحمة الله، ونيل الخيرات والعطايا في الحياة الدنيا قال الله تعالى: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) (هود/ 3).
ففي هذه الآية دلالة على أنّ المقبل على عبادة الله يبقى في الدنيا منتظم الحال مرفه البال.
ويقول سبحانه فيما جاء عن لسان نبيه هود: ويقول سبحانه فيما جاء على لسان نبيه نوح: (يَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) (هود/ 52).
ويقول سبحانه فيما جاء على لسان نبيه نوح: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) (نوح/ 10-12).
ويخاطب الله نبيه محمّداً (ص): (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الأنفال/ 33).
كان بعض صحابة الرسول (ص) يقول بعد وفاته: كان لنا أمانان ذهب أحدهما وهو وجود الرسول بيننا وبقي الاستغفار معنا فإن ذهب هلكنا.►
المصدر: كتاب رُوح الدِّين الإسلامي
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق