• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

صمود الإمام الحسين «عليه السلام» وصلابته

عمار كاظم

صمود الإمام الحسين «عليه السلام» وصلابته

تُعدّ واقعة الطف من أكثر المعارك جدلاً في التاريخ الإسلامي، فقد كان لنتائج وتفاصيل المعركة آثار سياسية ونفسية وعقائدية لا تزال موضع جدل إلى الوقت الحاضر، حيث تُعدّ هذه المعركة أبرز حادثة من بين سلسلة من الوقائع التي كان لها دور محوري في صياغة طبيعة العلاقة بين الطوائف عبر التاريخ، وأصبحت معركة كربلاء وتفاصيلها الدقيقة رمزاً مهماً، ومن أهم مرتكزاتهم الثقافية، وأصبح يوم (10) محرّم ـ يوم وقوع المعركة ـ رمزاً «لثورة المظلوم على الظالم، ويوم انتصار الدم على السيف». وقد أظهرت هذه المعركة صوراً إنسانية متعدّدة، وتجسّدت فيها كلّ النظريات النفسية والاجتماعية بأسمى معانيها، إلّا أنّه من المؤسف أنّ البعض ركّز على الجانب المأساوي بالمعركة وتجاهل الصور المشـرقة المتعدّدة في هذه الملحمة.

نزل الركب الحسيني أرض كربلاء في الثاني من المحرّم سنة إحدى وستين للهجرة. وقد عبّر الإمام الحسين - عليه السلام - عن معرفته العميقة بالأرض وبالتاريخ؛ حيث قال - عليه السلام -: «انزلوا، هاهنا مناخ ركابنا، هاهنا تُسفك دماؤنا، هاهنا والله تُهتك حريمنا، هاهنا والله تُقتل رجالنا، هاهنا والله تُذبح أطفالنا، هاهنا والله تُزار قبورنا، وبهذه التربة وعدني جدّي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم-، ولا خُلف لقوله». ثمّ نزل عن فرسه، وضُربت خيمة لأهله وبنيه، وضرب عشيرته خيامهم من حول خيمته، ثمّ بقيّة الأنصار. وأقبل الحرّ بن يزيد حتى نزل حذاء الحسين - عليه السلام - في ألف فارس، ثمّ كتب إلى عبيدالله بن زياد يُخبره أنّ الحسين نزل بأرض كربلاء. ومن طريق ما سبق نجد الإمام الحسين - عليه السلام - كان عارفاً مسبقاً بأنّه مقتول لا محالة، وهذا وعد إلهيّ على لسان رسوله الكريم - صلى الله عليه وآله وسلم-، إلّا أنّه نزل برباطة جأش عالية، ولم تهتزّ إرادته بالبقاء، بل على العكس، أظهر رِضاه بقضاء الله وقدره؛ وهذا يدلل على ثباته وضبطه لنفسه، فلمّا كان من الغد قدِمت الجيوش وتوحّدت، فصارت خمسة آلاف فارس، حتى وصل عدد الجيش الذي استنفر لقتال الحسين - عليه السلام - إلى ثلاثين ألفاً ما بين فارس وراجل. ومع أنّ الحسين - عليه السلام - كان يرى أعداد الجيش تتزايد إلى هذا العدد الذي يفوق عدد رجاله مئات المرّات، إلّا أنّه بقيَ على ثباته ورباطة جأشه، ولم يُسجّل التاريخ العسكري بأنّ هنالك قائداً عسكرياً يرى جيوشاً تتفوق عليه بالعدّة والعدد إلّا وخالجت نفسه إمّا الهزيمة أو الانسحاب أو الاستسلام، إلّا الإمام الحسين - عليه السلام - بقيَ صامداً في مقدّمة جيشه، صابراً محتسباً يَعِدُ أصحابه بالجنّة، ويُخيّرهم بين البقاء معه أو تركه بقوله: «هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً»؛ ونتيجة هذه الصلابة والثبات الانفعالي الذي اتسم به الإمام الحسين - عليه السلام -، نجد انعكاسه الواضح على أصحابه، فقد كانوا يطلبون الموت ويترجونه وهم سعداء، وكان جوابهم على طلب مغادرتهم أرض المعركة أن قال زهير بن القين: «والله، لوددت أنّي قُتلت ثمّ نُشـرت، ثمّ قُتلت، حتى أُقتل كذا ألف قتلة، وأنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفُس هؤلاء الفتية من أهل بيتك». وتكلّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً في وجه واحد، فقالوا: «والله لا نفارقك، وأنفُسنا لك الفداء، نقيك بنحورنا، وجباهنا وأيدينا، فإذا نحن قُتلنا كنّا وفينا وقضينا ما علينا». فهل سجّل التاريخ عبر قرونه موقفاً كهذا؟! بل أراد - عليه السلام - أن تنعكس هذه القوّة النفسية والصلابة والثبات على أهل بيته (عليهم السلام).

وهكذا هنالك عشرات الشواهد بمثل ما تقدّم من أمثلة سابقة، تؤكّد أنّ الإمام الحسين - عليه السلام - قدّم دروساً وعِبراً كشاهد على التاريخ، بأنّ الإنسان المؤمن تكون درجة التحمّل لديه عالية جدّاً ـ وتسمّى عتبة التحمّل ـ في مواجهة المواقف الصعبة، من غير أن يستسلم أو يُهزم، وذلك لثباته الانفعالي وقوّة شخصيته دفاعاً عن مبادئه وقيمه، فكانت صرخة الحسين - عليه السلام -: «هيهات منّا الذلَّة، يأبى اللهُ لنا ذلك ورسولُهُ والمؤمِنون»، وقوله - عليه السلام -: «لا والله، لا أُعطيكُم بيدي إعطاءَ الذّليل، ولا أفِرُّ فِرارَ العَبيد». شعاراً لكلّ الأحرار والثائرين بالعالم، وهل هناك ما يمثّل الثبات أكثر من كونه عارفاً بأنّه مقتول لا محالة، وهو يزرع اليأس في قلوب أعدائه بعدم استسلامه، حيث يقول - عليه السلام -: «لو لم يكُن في الدُّنيا مَلجأ ولا مَأوى لَمَا بايَعتُ يزيد». بل ذهب أبعد من ذلك ليجعل من الموت في سبيل الله سعادة: «إنّي لا أرى الموتَ إلّا سعادةً، والحياةَ مع الظالمين إلّا بَرَماً». وهو بذلك قطع كلّ سُبل الرجوع عمّا أتى إليه، ولو كان دونه الموت.

وهكذا، تبقى الثورة الكبرى الأُولى في العالم التي أثّرت وما زال تأثيرها باقياً، وسوف يبقى أيضاً، هي الثورة الحسينية، والتي قادها الإمام الحسين - عليه السلام - قبل حوالي (1378سنة)، هي الثورة الوحيدة التي يفتخر البشر بالانتماء إليها قلباً وقالباً، وما زالت الثورة الوحيدة في التاريخ التي يُعيد مئات الملايين من البشر إحياء ذكراها كلّ عام، وهي الثورة الوحيدة التي ما زال أعداؤها يحاربونها بكلّ دموية وقسوة وبشتّى الحُجج. كذلك هي الثورة الوحيدة التي جمعت البشر بمختلف اتجاهاتهم حولها، وفي نفس الوقت جمعت أعداءها ومن مختلف الاتجاهات والأهواء. كما أنّها الثورة الكبرى التي تحمل تراثاً فكرياً وجهادياً هو من الضخ امة بحيث لا تحمله أيّ ثورة أُخرى، كما أنّها الثورة الوحيدة التي تكون قيادتها وأنصارها بمثل قدسية وروحانية الإمام الحسين - عليه السلام - وأتباعه.

ارسال التعليق

Top