منذ أن أمر الوحي بالتعارف في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُم عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُم﴾ (الحجرات/ 13). والدعوة إلى التعارف بين بني الإنسان لا تتجه نحو (الاستحباب) في التعارف الشكليّ، وإنما إلى (الوجوب) في الحاجة الأساسية للتكامل من خلال الآخر.
تعارف من أجل ماذا؟
تعارف من أجل استكمال الإنسانية بالآخر سواءٌ أكان الآخر "أخاً في الدين" أو "نظيراً في الخَلق". تعارف من أجل الاستزادة من العلوم والمعارف.. فمائدتُنا المعرفية -مهما تنوّعت- لا تشمل كلّ الأطباق، ولذلك كانت الدعوة إلى "طلب العلم ولو في الصين". تعارف من أجل المداولة في المشاكل والعقبات والحلول والمقاربات. تعارف من أجل التواصي (بالحقّ) و(بالصبر) و(بالمرحمة) في زمن تتقطّع فيه الأواصر وينحصر التواصل في العوالم الافتراضية. تعارف من أجل الاغتناء بالخبرات والثقافات والتجارب والبرامج والمشاريع. تعارف ليس لإلغاء (التعدُّدية) أو الانصهار في البوتقة الواحدة، بل هو تعارف لتعزيز معنى (التعدُّدية) بما هي إثراء وتلوُّن وتنوُّع ومشارب وأذواق.. إنّه تعارف يحرص على (التعدُّد) بما هو اتساع وارتفاع لا (التوحُّد) بما هو انحصار وانحسار! للتكامل مع الآخر، لا الانصهار فيه أو استنساخه.
وبالتالي، فكلما تقدّمت الخُطى، اقتربت الأفكار واجتمعت الاتجاهات وتلاقت المسارات نحو نقطة واحدة هي رأس الزاوية، وبهذا فإنّ معنى أن نتحد، أن نتوحّد، أن نتطابق، أن نلتقي في المسير ونسير معاً نحو نقطة واحدة. والوحدة بهذا التصوُّر تعني إلغاء الآخرين، وإبطال الاتجاهات، واجتماع الجميع على منهج واحد، وكان من متطلبات هذا (التصوّر) أن تتحد مناهج الفكر، وخطط السير، وأساليب العمل، لتثبيت عقيدة واحدة وإلغاء الأفكار الأخرى، وإرساء أيديولوجية حاكمة على كلّ شيء تفصِّل القضايا والأشياء على أساس مقاساتها الثابتة التي لا تقبل التجديد والتغيير.
إنّ التصور الحديث للوحدة الذي خلصت إليه تجارب الإنسانية، وانتهت إليه أفكار البشرية، هو عكس النظرة السابقة، أي كلّما تقدمت الإنسانية في مسيرتها، توزّعت في الأفهام أو تنوّعت في الاتجاهات، وتعدّدت في الرؤى، والوحدة الصحيحة، والمجتمع القوي، والدولة المنيعة، التي كلما تقدمت كانت أكثر استيعاباً للرؤى المختلفة، وأكثر انفتاحاً على الاجتهادات والأفكار المستجدة، وكان مجال التعايش والتآلف و(التعارف) أوسع.
التعارف في عَرَفة أو (عرفات) هو من هذا المنطلق، ذلك أنّ الاجتماع الكبير على رُبى أو صعيد عرفات لا يلبث أن ينفضّ بـ(الإفاضة) من عرفات، وتتوزّع الروافد من جديد، أي أنّهم بحسب النظرية الحديثة يتجهون من رأس الزاوية باتجاه ذراعيها المفتوحين. وبكلمة، فإنّ اللقاء والتعارف يحقق أو يوجد القواسم المشتركة، والأهداف الموحّدة، والقضايا المصيرية، والتوافق على المواقف الأساسية.
وهذا هو نفسه ما أراده النبيّ (ص) في خطبة الوداع من حجّة الوداع حينما اختار (عرفات) ليلقي فيها خطبته التي تجمعُ على (الهدف) لكنها لا تحصر (الأساليب)، ذلك أنّ الأهداف (الإسلامية) ثابتة، ولكن الأساليب (توصّلية) متغيرة. و(عرفات) جامعة على الهدف لكنها لا تلغي ثقافات الشعوب وما في أيدي الناس من تراث وثقافات وأعراف وتقاليد وفنون وآداب. (عرفات) مع التعددية، لكنها ضدّ التناحر والتناقض والتضارب والنزاعات الفئوية المسببة للفشل وإذهاب الريح سُدى.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق