• ٧ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٥ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التضرع.. العبادة القصوى

د. عمرو خالد

التضرع.. العبادة القصوى
◄التضرع إلى الله من أهم العبادات التي تقرب من الله عزّ وجلّ... والتضرع هو المبالغة في الشعور بالفقر والحاجة إلى الله... التضرع أن تلجأ لباب الله تستغيث، تصرخ بقلبك وروحك وكيانك، تبكي ذليلاً بين يدي القادر المقتدر... تمد يديك بحاجتك لأبعد ما تستطيع، وتذرف الدموع... وتُنادي كل ذرَّة في جسدك وكل زفرة في روحك بالنجاة، ممن يملك طوق النجاة... الله... ما أجمل هذا الكلام لو أدركنا كل معانيه.. فتأمل معي معنى التضرع الحقيقي... التضرع هو العبادة القصوى عند الشدائد والمصائب والكوارث. فلو نظر الله إلينا في القيام هذه الليلة وكانت الأيدي كلها مرفوعة بخشوع.. يكون هناك أمل.. ولكن يجب أن نتعلمها أوّلاً، ونشعر بمعناها. هل تدري أنّ التضرُّع هو عبادة التائه الحيران.. فلنتعلّم كيف نتذلّل على باب الله ونقول له: يا رب.. يا رب، فلْنَقُلها كما يقولها من تكسَّرت مركبته في عرض البحر ولم يبق بين يديه إلا لوحٌ خشبي يذوب من ملح البحر ويوشك أن يتحلل.. أسمعت صوته كيف يصرخ بين الأمواج، بعيداً عن الناس، وعيناه إلى السماء وقلبه ينخلع مع كل مرّة يقول فيها: يا رب... يا رب...؟ هذا هو التضرع...   آيات وتضرع... قال الله عزّ وجلّ: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام/ 42-43). إنّهم كانوا يعملون حين يؤخذون بالمصائب، فهل نكون مثلهم؟! فإن لم نتضرَّع اليوم، فمتى نتضرَّع يا أمّة الإسلام؟ علينا أن نتضرع في كل وقت وحين... ولننظر إلى حالنا، وما أصاب أمتنا من حروب وويلات.... (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣)قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) (الأنعام/ 64). الله!... انظر إلى كلام الله الجميل.. ننجو مما نتضرَّع إلى الله منه، ومن كل كرب. ولن نكون بإذن الله كأهل هذه الآية: حين أنقذهم الله – عزّ وجلّ – أشركوا به.. وسنظل على إيماننا بالله تعالى. (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) (الأعراف/ 94)، (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (الأعراف/ 97-98). وفي هذه الآية عقوبة من لا يريد أن يقف متضرّعاً على باب الله.. أحبَّتي.. إن أخذَ الله الناسَ على غفلتهم ليس أمراً سهلاً علينا تحمّله.. ولا ينقذُنا منه إلا ما أنقذ مَن كان مِن قبلنا.. إنّه التضرع.. إنّه القانون: الشرط وجوابه. (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) (المؤمنون/ 75-76). أجل، الجميع ينتظر معجزة.. فلا يكلِّف نفسه حتى بالدعاء، الجميع ينتظر السعادة والراحة على حساب الآخرين.. على حساب من يُقَتَّلون في أوطانٍ عدة. ترى الله يأخذنا بالعذاب.. والعذاب.. والأكثرون للأسف، لا يتحرك فيهم ساكنٌ للرجوع إلى الله والتضرع إليه. علينا بالعودة إلى الله.. لأنّ الله تعالى يرسل إلينا بالمصائب لنعود ونتضرَّع إليه، فإن لم نفعل تصبح البلوى أقسى وأشد... أحياناً، ننسى العبادة فيدعونا الله إليها.. فحذار أن تصيبك مصيبة ثمّ لا تتضرع إلى الله.. فلا تيأس ولا تنهار، فهناك دائماً أمل بالله، أمل فيمن يملك هذا الكون، ما عليه ومَن عليه.. من بيده الأسباب يغيِّرها كما بين الكاف والنون في: (كُنْ فَيَكُونُ) (النحل/ 40).   التضرع إلى الله عبادة الأنبياء: وللنظر إلى سيدنا يونس في بطن الحوت: سيدنا يونس الذي حُبس في ظلماتٍ ثلاث.. ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت. إلا أنّه لم يستسلم ونادى متضرِّعاً من أعماق قلبه: (لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء/ 88). فانظرَ كيف استجاب له الرحمن الرحيم، وأنجاه من الغَمْ (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الأنبياء/ 88). ونظر رسول الله (ص) يوم بدر إلىجيش المشركين وهم يومئذ كثيرون وكذلك أسلحتهم، ونظر إلى جيش المسلمين وعددهم وأسلحتهم أقلّ.. فماذا فعل يا تُرى؟ رفع كلتا يديه وبدأ يدعو حتى سقط رداؤه وظهر بياض إبطيه.. وهو يقول: "اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض". فقال له الصدِّيق: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنّه سينجز لك ما وعدك. [مسلم: 4563]. فهل رأيت ماذا فعل الرسول (ص) عندما أحس بالضعف؟ لقد تضرع إلى الله، ونحن اليوم بأمسِّ الحاجة إلى التضرع إلى الله ليفرِّج عنّا ما أهمّنا...   أهمية التضرُّع والدعاء في حياتنا اليومية: إنّ أفضل أحوال الإنسانَِ وأعظمها حالته عند ذكر الله – عزّ وجلّ – فبذلك تصفو نفسه، ويطمئن قلبه، وتندفع عنه وساوس الشيطان. أوَليس هذا ما يميزنا عن بقية الخلق؟ حالنا عند ذكرنا لله وتضرعنا إليه... فالتضرع لله يبعث فينا الأمل ويجعلنا في أعلى وأرقى المراتب في الدنيا والآخرة. وإذا أكثر الإنسان وزاد من تضرعه لله عزّ وجلّ، امتلأ قلبه نوراً، وحُجِبت عن بصيرته الظلمات. والإنسان أحوج ما يكون إلى الصلة بربه في هذا العصر.. عصر التفلُّت والانحلال الخُلقي، حيث حوّلت الشهواتُ – والعباذ بالله – حياةَ البشرية إلى جحيم لا يطاق، فظن الإنسان أن لهذه الشهوات نهاية يمكن أن يقف عندها فيسعد ويستريح. فلا حيلة لنا في هذا الزمن الصعب، أيها الشباب، إلا بالرجوع إلى الله، والوقوف على عتبة بابه والتضرع إليه، فالتضرع إلى الله هو سبيل الأنبياء في كل وقتٍ وحين. ففي حديثٍ صحيح رواه الترمذي، يقول (ص): "عرض عليَّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً، قلت: لا يا رب ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً، فإذا جعت تضرّعت إليك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك". [الترمذي: 2347]. وفي حديث آخر: جاء أعرابي إلى النبي (ص) وقال: علِّمني صلاة الليل، فقال النبي (ص): "الصلاة مثنى مثنى وتشهّد في كل ركعتين وتخشع، وتضرع وتمسكن، وتذرع، وقنع يديك، يقول: ترفعهما إلى ربك، مستقبلاً ببطونهما وجهك، وتقول: يا رب، يا رب، ومن لم يفعل ذلك، فهو كذا وكذا". [الترمذي: 385]. وسئل النبي (ص): أيِّ الناس أشد بلاء؟ فقال (ص): "أشد الناس بلاء: الأنبياء ثمّ الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان دينه صلباً زيد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة يبتلى على قدر دينه". [الترمذي: 2398]. فلست وحدك مَن ابتُلي.. فلقد ابتلي الأنبياء من قبل وكانوا أشد الناس بلاء وصبروا وتضرعوا إلى الله... واقرأ هذه الجملة مرة أخرى: "يُبتلى الرجل على قدر دينه" أظنك من الآن سترضى بقضاء الله وسوف تصبر... وتقف على بابه تتذلل إليه وتتضرع...   الإعراض عن باب الله من التكبّر... أحبتي الكرام، بعد كل هذا تصوَّروا أنّه لا يزال هناك شبابٌ يشاهدون القنوات الفضائية التي لا تعرض إلا الإباحية..، ويرسلون بالنكت عبر الإنترنت، وترى الفتيات هائمات في سماع الأغاني.. ألا يشعر هؤلاء بأنّ الخطر أصبح قريباً؟ ألا يشعرون بأنّ الموت قد يفاجئهم في أي لحظة؟ إخوتي.. شباناً وشابات، ارجعوا إلى الله، ذوقوا حلاوة الإيمان في قلوبكم، المسوا تغييراً في أنفسكم، فيغير الله حالنا، ويرفع ما نزل بنا من ضيق وألم وحروب. صدّقوني إن ما يحصل اليوم في العالم بسببنا. بسبب الطيش، بسبب الجهل، بسبب الإعراض عن باب الله، بسبب التكبُّر والتجبُّر، فإلى متى؟! إلى متى يا إخوتي سنظل هائمين في بحر التيه والضياع؟ أما آن لنا أن نعود؟ أما آن لنا أن نرجع؟ بلى والله.. لا سبيل إلى إعلاء شأن الأُمة إلا بالرجوع إلى الله. قال الله عزّ وجلّ: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا...) (الرعد/ 11).   التضرُّع هو الحل: إنّ الله يحب أن يسمع أصوات عباده متضرعة... ولذلك ترى هنالك حالات كونية وزمنية عديدة تنزل بنا حتى نتضرع إليه سبحانه وتعالى منها: كسوف الشمس.. وتوقف المطر.. ويوم عرفة.. أحبتي الكرام فلنجعل أيامنا كلها عرفة ندعوه سبحانه وتعالى بقلب صادق خاشعٍ متذللٍ لعله – عزّ وجلّ – يرحمنا وينجينا. تضرَّعوا إلى الله.. تضرعوا إلى الله.. تضرعوا إلى الله ينجيكم.►   المصدر: كتاب حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم

ارسال التعليق

Top