• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التجارة مع الله في رمضان

محمود حسين عيسى

التجارة مع الله في رمضان

    أهلّ علينا شهر فضيل، يحمل من الخيرات الكثير والكثير، إنّه شهر رمضان، شهر الصوم، شهر القرآن، فقد أمرنا الله سبحانه بصومه.. يقول سبحانه: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة/ 185).

    شهر الرحمة.. تُفتح فيه أبواب الجنة، وتُغلق فيه أبواب النار، قال رسول الله (ص): "إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة وغلّقت أبواب النار وصفدت الشياطين".    إنّه شهر كريم اختصّ الله سبحانه نفسه بالإثابة على صومه، ففي الحديث القدسي الصحيح: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنّه لي وأنا أجزي به".

    

    - تجارة رابحة:

    والمؤمن الحصيف، الكيّس، الفطن، هو من يفطن إلى الاستفادة القصوى من ثواب الله في كلّ زمان ومكان بصفة عامة، وفي شهر رمضان بصفة خاصة، فالمؤمن الفطن دائم التجارة مع الله سبحانه عملاً بقوله: جلّ شأنه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (الصف/ 10-13).

    وإن كان ثواب الأعمال في رمضان ليس كثوابها في غيره، فحري بكل مؤمن أن يحرص على الأعمال الصالحات، بل وعلى إتقانها حتى يفوز بالثواب العظيم، والأجر الجزيل من صاحب النعم الجواد الكريم، رب العرش العظيم، مالك الملك.

    

    - خطة عمل:

    كيف نتاجر مع الله في هذا الشهر الكريم؟!

    ضع لنفسك خطة عمل تتصف بالتدرج في العبادات، وتتصف بالمرونة أيضاً، بمعنى أن تقود نفسك، ولا تشق عليها وتجهدها في بداية الشهر، فتملّ وتتفلت منك في أوسطه، ولا تطيعك في آخره، فتخسر خسراناً مبيناً، حيث تحرم الثواب العظيم في ليلة هي خير من ألف شهر.

    ولنتصور سوياً ما تشتمل عليه هذه الخطة:

    أوّلاً: المعرفة

    يجب على كل مسلم مكلف بالصيام أن يعرف حقيقة وفرائض الصوم وأحكامه وشروطه:

    مشروعية الصيام: لقد فرض الله عزّ وجلّ الصيام على المسلمين كما فرضه على الأُمم السابقة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183).

    والفرض هو صوم شهر رمضان من كل عام هجري، ويحدد بداية الشهر برؤية الهلال، ويحدد يوم الصوم بطلوع الفجر الصادق حتى غروب الشمس.

    والصيام فرض على كل مسلم (ذكراً كان أم أنثى) بشرط: أن يكون بالغاً، عاقلاً، قادراً على الصوم (لا يعجزه مرض، أو سفر، أو حيض أو نفاس للمرأة).

    فرائض الصوم: النية، والإمساك عن الطعام والشراب، والجماع، وتعمُّد القَيء.

    ما يفطر به الصائم: ما وصل عمداً إلى الجوف والرأس، والحُقْنَة في أحد السبيلين، والقيء عمداً، والوَطءُ عمداً في الفَرْج، والإنزال عن مباشرة، والحيض، والنِّفاس، والجنون، والرِّدة.

    ما يستحب للصائم: تعجيل الفطر، وتأخير السُّحور، وترك الهُجْرِ من الكلام.

    - آداب الصيام.. ومنها:

    غضّ البصر: فهو بريد الزّنا، والنظرة سهم مسموم من سهام الشيطان يوجهها لقلب المسلم، لا لعظامه ولا لحمه، ولا لفكره ولكن لقلبه.

    حفظ اللسان عن الفحش، والجفاء، والنميمة، والجدال، والنفاق وشغُله بذكر الله والطاعات، إنّ اللسان مورد المهلكات كما أخبر بذلك رسول الله (ص) معاذ بن جبل حين سأله: أوَ مؤاخذون بما نتكلم يا رسول الله؟ قال: "ثكلتك أمّك يا معاذ، وهل يكب الناس على مناخرهم يوم القيامة إلا حصائد ألسنتهم".

    كفّ السمع عن السماع المحرّم: مثل: الغيبة.. حتى لا يكون مع الذين قال الله فيهم: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) (المائدة/ 42)، وليعرف المسلم أنّه مسؤول عن سمعه وبصره وفؤاده، يقول تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) (الإسراء/ 36).

    كفُّ بقية الحواس والجوارح عن الآثام: بما في ذلك شهوة البطن التي تدفع المسلم عند الإفطار إلى ملء بطنه، وفي هذا شرّ كبير له قد يحرمه أجر الصلاة في جماعة، وقد يحرمه أجر صلاة القيام.

    أن يكون قلبه معلّقاً بين الخوف والرجاء في رحمة الله وقبول الصوم.

    ثانياً: التسلح بالإرادة

    إنّ الإرادة القوية لا تبنى بالتمني، ولا بالكلام، وإنما تبنى بالأفعال، والصمود وتحدي الصعاب، ومواجهة المشكلات، فمن يأخذ نفسه بالحزم، ويعمل بجد على إكسابها إرادة صلبة قوية، عليه بالدخول الفعلي في مواجهة معها، وتعويدها الصبر على كبائر الأعمال، وتجنيبها سفاسف الأمور، والصوم يعد من أقوى الأسلحة التي يستعملها المسلم في تقوية إرادته، حيث التحدي الأكبر لشهوة البطن، والفرج، والتحدي الأكبر لقهر الشيطان بتحمل الجوع والعطش، وتجنب الشهوة والغريزة، وكف الأذى والبطش، والكلام، والنظر.. كل ذلك قربة، وطاعة وعبادة لله سبحانه وتعالى.

    وسبحان الله الذي أكرم أمة الإسلام بأفضل الصيام وأوسطه، حيث يقوّي الإرادة ويُعوِّد المسلم الصبر كما قال رسول الله (ص): "الصوم نصف الصبر والصبر نصف الإيمان".

    ثالثاً: العمل الصالح المتواصل

    إنّ العمل الصالح خلال شهر رمضان سواء كان عملاً تكتسب منه رزقك، أو عملاً يدخل في نطاق المعاملات أو العبادات.. كل ذلك العمل يتطلب من صاحبه الإتقان والتقى، كي يقبل عند الله سبحانه وتعالى.. يقول سبحانه: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة/ 27).

    ومن صور العمل الصالح في رمضان:

    إطعام الطعام: قال (ص): "مَن فطر صائماً كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء".

    السعي على قضاء مصالح الناس:

    فالسعي في مصالح الناس وقضاء حوائجهم أفضل من بعض العبادات كما أخبرنا رسول الله (ص)، فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً جاء إلى رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله، أي الناس أحب إلى الله؟ قال: "أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عزّ وجلّ سرور تدخله على مسلم، تكشف عنه كربة أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخٍ في حاجة أحب لي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً".

ارسال التعليق

Top