◄من الآداب المعنوية الهامة للعبادات – ولاسيّما التي يطغى فيها طابع الذِّكر كالصلاة – أدب الطمأنينة. وأداء الصلاة أو أي عبادة أخرى بحال الطمأنينة يعني أن يؤدِّيها العابد وهو في حالٍ من سكينة القلب واطمئنان البال.
وهذا يعني أن يكون قلب الإنسان هادئاً مطمئناً غير مضطربٍ لأي سببٍ من الأسباب، وساكناً غير متزلزلٍ بأي عاملٍ من العوامل. أمّا لماذا يعتبر هذا الأدب في غاية الأهمية وما هي فائدته بالنسبة للعبادة؟
لنجيب عن هذا السؤال علينا أن ندرك أوّلاً أنّ القلب هو مركز التأثُّر في الإنسان وهو المستهدف من العبادة، فهو المقصود منها وهو الذي تروم العبادة تغييره وتشكيله على صورة العبودية وجعله منفعلاً بها ومتحداً بحقيقتها. فإذا ما تمّ للقلب هذا الأمر وأصبح عابداً حقيقياً وتمكّنت العبادة منه، غدا جميع وجود الإنسان عابداً لله تعالى.
فإنّ القلب هو أمير البدن وهو مركز الباطن أيضاً وصورة الباطن تتشكّل بحسب حقيقة القلب وصورته، والجوارح الخارجية للإنسان إنما تتحرّك بإمرة القلب وبحسبه.
عن أمير المؤمنين عليّ (ع) قال: "... إنّ الله تعالى ما فرض الإيمان على جارحة من جوارح الإنسان إلّا وقد وُكِلَتْ بغير ما وُكِلَت به الأخرى فمنها قلبه الذي يعقل به ويفقه ويفهم ويحلّ ويعقد ويريد وهو أمير البدن وإمام الجسد الذي لا تُورَدُ الجوارح ولا تصدر إلّا عن رأيه وأمره ونهيه...".
وعلى ضوء هذه الحقيقة، يمكن لنا أن نفهم إحدى علل تكرار العبادات كالصلاة اليومية مثلاً، حيث إنّ تكرارها وترديد أذكارها وإعادة أورادها يهدف إلى زيادة أثرها في قلب الإنسان وتعميقه فينفعل بها ويتحد بروح العبادة ويسري هذا الأمر إلى كلّ باطنه ثمّ إلى أعضائه الخارجية، وإلى هذا المعنى أشار الإمام الصادق (ع): "فاجعل قلبك قبلةً للسانك لا تُحرِّكه إلّا بإشارة القلب وموافقة العقل ورضا الإيمان".
فإذا كان هذا هو الواقع، فيمكن لنا أن نستنتج أهمية كون القلب في حالٍ من الطمأنينة عند العبادة، لأنّ القلب المتزلزل المضطرب لا يمكن له أن ينفعل بالعبادة مهما بلغت وعظمت.
ويمكننا لتوضيح الصورة أن نُشبِّه القلب المتزلزل بالأرض المهتزّة والمتزلزلة التي نريد أن نشيد فيها بنياناً، فهل يمكننا ذلك في هذه الحال من الاضطراب والاهتزاز؟ أم أنّ جميع جهود البناء وكلّ الموارد والمواد التي سنستثمرها سوف تذهب سدىً وكأنّها هباءٌ منثور؟ إنّ الحل الوحيد لهذه المشكلة يكمن في البحث عن أرضٍ ثابتةٍ صلبةٍ تثمر فيها جهودنا بنياناً مرصوصاً.
والأمر سيّان بالنسبة للقلب، فلكي ينفعل ويتأثّر بالعبادة وتؤتي فيه العبادة أكلها لابدّ من أن يكون ساكناً، هادئاً ومطمئناً فينتقل هذا الأثر بالتدريج وعلى أثر تكرار العبادة من القلب إلى الجوارح ويظهر عليها.
ومثالٌ على ذلك، ترديد الذِّكر الشريف: "لا إله إلّا الله"، فإذا قاله إنسانٌ مع سكينةٍ في قلبه وباطمئنانٍ من لبّه وراح يُعلِّم القلب هذا الذِّكر الشريف، حينئذ يتعلَّمه القلب ويتكلَّم به شيئاً فشيئاً ويلهج به، ثمّ يعقب ذلك أن يتبع اللسان الظاهر القلب في ذكره وينقاد خلفه في ترديده.
أمّا إذا ردَّد الإنسان نفس هذا الذِّكر الشريف بلا سكونٍ في القلب ولا طمأنينةٍ منه ومع عجلةٍ واضطراب وتشتُّتٍ، فلن يحصل منه أيّ تأثيرٍ فيه ولن يتجاوز الذِّكر حدّ اللسان والسمع الظاهريين إلى اللسان والسمع الباطنيين الإنسانيين، ولا تتحقق حقيقته في باطن القلب، ولا يصير صورةً كماليةً له غير ممكنة الزوال.
ومن هنا يتضح لنا أهمية أدب الطمأنينة في تحقيق العبادات لأهدافها ولا سيّما الصلاة. ►
المصدر: كتاب روح العبادة (الأداب المعنوية للعبادات)/ سلسلة المعارف التعليمية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق