• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

السفر إلى الله سبحانه وتعالى

السفر إلى الله سبحانه وتعالى

◄حقيقة أن يكون الإنسان حياً، تظهر من خلال تعلق قلبه بما يحقق له النفع، لأنّ هذا القلب ينزع دائماً للبحث عن أسباب سعادته بشوق، ويندفع لتحقيق رغباته بفيض من مشاعره... ولكن متى استطاع هذا الإنسان أن يحصل على ما يعتقد أن فيه سعادته يكتشف أنّه لم يصل إلى ما يرجوه من الطمأنينة وقرة العين. وتتراءى له غاية أخرى، فيجد ويجتهد ليحصل عليها وهكذا...

فإذا كانت النفس البشرية سقيمة، وإذا كان القلب مريضاً يفتقد إلى الرشد، فإنّه يتيه فيما يظنه أسباب سعادته، ويبالغ في مرور مياهها الآجنة، فيشرب ثمّ يشرب دون أن يرتوي. جاء في الحديث: "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى إليهما ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب".

أمّا إذا كانت النفس البشرية سليمة راشدة، فإنّها تنتقل من طلب ما لا يغني إلى ما هو أسمى وأرفع درجة، فتنتقل مثلاً من حب الشهوات إلى حب المال، ومن حب المال إلى حب الفضل وتحصيل الكرامة، ومن ذلك إلى طلب العلم، إلى أن تجد أن لا شيء من ذلك يروي ظمأ النفس ويطفئ هيامها فتشتد بطلبها للمحبوب الأوحد الذي هو سبب كلّ خير.

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) (النور/ 39-40)، هذه الآيات الكريمة تبيّن أنّ أصحاب الأهواء والنفوس السقيمة يتخبطون في ظلمات الشهوات التي تهطل عليهم (كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة/ 19-20).

فالشهوات لها عواقب وخيمة وأثار قاتله تظهر آثارها في الدنيا قبل الآخرة ولكنهم يعمون أعينهم عنها ويصمون آذانهم، والله سبحانه محيط بهم.

أمّا أهل البصيرة أو أُولو الألباب فإنّهم سرعان ما ينتقلون إلى طلب ما هو حقّ وخير، وتتعلق قلوبهم بالله سبحانه وتعالى: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ) (النور/ 37).

إنّ قراءة متأنية لواقع المجتمعات والأفراد تبيّن أنّ أهل الدنيا تتعلق قلوبهم بما سوى الله من علائق الدنيا، والذين آمنوا لا تتعلق قلوبهم إلّا بالله لأنّه علّة الخير كلّه. قال سبحانه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ...) (البقرة/ 165).

فإذا عرف أهل البصيرة أنّ الله هو أصل الخيرات وعلة المنافع والمرتجى لتحصيل السعادة، تركوا ما سواه، وهجروا كلّ العلائق الفانية وشدوا الرحال، وانطلقوا في رحلة السفر إلى الله.

-         ما هو السفر إلى الله؟

عندما يكتشف الإنسان المتبصر أنّ كلَّ ما في هذه الدنيا لا يحقق له المطلوب من السعادة والاطمئنان، ولا يلبي حنينه وهيامه، يبدأ بالبحث عما هو جدير بقلبه فلا يجد إلّا الله سبحانه وتعالى، فكما أنّ هدف المحب هو الوصول إلى محبوبه والوصال معه، وكما أنّ هدف العاشق الذوبان في معشوقه، كذلك تكون الحالة مع العاشقين لله سبحانه، وإذا كان عنوان الحب والعشق هو العطاء والفناء في المحبوب والمعشوق، فإنّ أكثر ما تتجلى محبة العاشقين لله في سوح الجهاد وذلك أنّ المجاهد في سبيل الله أبعد ما يكون عن النفاق والرياء وكلّ ما يفسد صفاء القلب، فهو ينتظر لقاءه بمحبوبه في أيّة لحظة، ولذا فإنّك تجد أنّ حماسة الثوريين المجاهدين لا تبرد إذا غادر ساحات الجهاد، فهم يعودون من ساحات الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر حتى يصلوا إلى الهدف ويصلوا إلى الحبيب... ومتى أثقلت على قلوبهم أعباء الحياة الدنيا وشعروا أنّ علائق الدنيا الفانية بدأت تستأثر بشغافها، وأنّ حبيبهم بات كأنّه غريب عن وجودهم دخل الهم والحزن إلى تلك القلوب التي لم تكد تنسى طعم حبّها الصادق لله فتضرعت في سرها وما هو أخفى... فإذا برحمة الرحيم قريبة منها وإذا بها تتذكر، فتصرف وجهها عن كلّ ما خلا الله سبحانه وتعالى، وتهاجر من جديد إليه، وخير مكان تعشقه أصول أرواحهم هو ساحات الجهاد حيث تكون قريبة من الآخرة وبعيدة عن الدنيا... قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف/ 201).

إنّ الخطوة الأولى في طريق السفر إلى الله هي معرفة الله، إذ كيف يسافر العباد لطلب محبوبهم إذا كانوا لا يعرفونه، ولا يعرفون الطريق التي توصل إليه؟ قال ابن ميثم البحراني: "المراد بالمعرفة، المعرفة التامة التي هي غاية العارف في مراتب السلوك وأوليتها في العقل لكونها علّة غائية، وبيّنٌ الترتيب بأنّ المعرفة تزداد بالعبادة وتَلقي الأوامر بالقبول، فيستعد السالك أوّلاً بسببها للتصديق بوجوده يقيناً، ثمّ لتوحيده، ثمّ للإخلاص له، لنفي ما عداه عنه، فيغرق في تيار بحار العظمة، وكلّ كمال لما قبلها، إلى أن تتم المعرفة المطلوبة له بحسب ما في وسعه، وبكمال المعرفة يتم الدين وينتهي السفر إلى الله تعالى".

-         عقبات في الطريق:

والطريق إلى الله رغم أنّه قريب المسافة، كما ورد في الدعاء "وإنّ الراحل إليك قريب المسافة" وهذا يعني أنّ الرحلة قد تكون قصيرة إذا انكشفت للإنسان آليات السفر. إلّا أنّ هذا الطريق قد يكون محفوفاً بالمزالق والعقبات، لأنّ الشيطان دأبه اعتراض سبيل الإنسان وتثبيطه وردّه، ووسائل الشيطان كثيرة وكلّها معدودة في شهوات الحياة الدنيا الفانية، وقد جاء في رواية ضرّار بن حمزة الضبابي وقد سأله معاوية عن أمير المؤمنين (ع) قال: "لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وهو قائم في محرابه، قابض على لحيته، يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ويقول: يا دنيا يا دنيا إليك عني، أبي تعرضت أم إليّ تشوّقت، لا حان حينك، هيهات، غري غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير، فآه من قلة الزاد وطول الطريق وبعد السفر، وعظيم المورد، يقول ابن ميثم البحراني عند ذكره لهذا الحديث: وهذا صريح موضح لإثبات ملكة العفة له، وقمع الشهوة بالكلية".

وبهذا يرسم أمير المؤمنين (ع) للسالكين إلى الله الطريق الواضح، حتى يتمكنوا من تحرير أنفسهم من استعمال الشيطان لهذا البدن، ويصلوا إلى الحرّية والانعتاق من عبودية غير الله، ليمتلكوا حرّية الاستجابة لنداء الروح الباحثة عن الله سبحانه وتعالى من دون عناء.

-         ترويض النفس:

إذاً، لإزاحة العقبات من طريق السفر، ينبغي بداية إزالة علائق النفس الأمارة بالسوء من كلّ عُلقة غير علقتها بالله، وفي هذا المجال لا يستطيع الإنسان السالك أن يعبر إلى ساحة الأنس بالله سبحانه إلّا بمعونة الله والإتكال على تسديده وحسن توفيقه.

-         زاد المسافرين:

يتبيّن من كلّ ما مر أنّ السفر طويل، وهو بحاجة إلى الزاد، فسواء في مرحلة تعمير البدن، أو النفس، أو ترويضهما، أو الانطلاق بهما في السفر، كلّ ذلك يحتاج إلى الزاد، فما هو هذا الزاد؟ وما الذي ينبغي على العبد أن يتزود به؟ وما الذي يعين العبد على التزود؟

-         ما هو الزاد:

الزاد لغة: طعام المسافر

اصطلاحاً: هو ما يتزود به المسافر إلى الله للصبر على تكاليف الطريق، حتى يلقى الله تعالى وهو حافظ لإسلامه ودينه.

والزّاد للراحل إلى الله هو غذائه الروحي الذي يشتريه عند حضوره قلباً وجسداً في دور وبيوت العبادة.

فنحن نحتاج إلى الغذاء الروحي، والغذاء الروحي هو التقوى، ففي القرآن الكريم (... وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ) (البقرة/ 197)، وقد قال الإمام الصادق (ع): "لما أشرف أمير المؤمنين على القبول قال: يا أهل التربة، يا أهل الغربة، أمّا الدور فقد سكنت وأمّا الأزواج فقد نكحت وأمّا الأموال فقد قسمت لهذا خبر ما عندما فما خبر ما عندكم؟ ثمّ التفت إلى أصحابه فقال: لو أذن لهم بالكلام لأخبروكم أنّ خير الزاد التقوى".

-         من أين نحصل على التقوى؟

من أين تكتسب التقوى؟

تكتسب التقوى بطرق كثيرة، فقد ذكر القرآن الكريم، الكثير من الآيات التي تهدي العباد إلى تحصيل التقوى، قال تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة/ 177).

هذه الآية الكريمة وأمثالها ترسم لنا طريقاً واضحاً لسلوك سبيل التقوى الذي هو سبيل السفر إلى الله، ومن الآيات الكريمة التي تؤكد وتوضح طريق التقوى نجد أيضاً قوله تعالى: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (آل عمران/ 76)، (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة/ 36)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة/ 123)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 21)، (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 179)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183)، (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام/ 153).

هذه الآيات الكريمة تبيّن لنا العديد من القواعد التي تساعدنا في تحصيل التقوى التي تشكل الزاد الحقيقي للسفر، وباختصار، فإنّ اتباع التكاليف الشرعية التي يفصّلها الفقهاء في مدوناتهم الفقهية تعتبر التفسير العملي، لتفسير هذه الآيات وغيرها من الآيات الأحاديث التي تتناول موضوع التقوى والذي هو خريطة الطريق والخطوات الإجرائية لتحصيل ملكة التقوى والتزود للسفر الطويل إلى الله.

-         الدعاء والمناجاة:

لعلّ أقصر الطرق وأهم الطرق إلى الله سبحانه وتعالى هو طريق الدعاء والمناجاة، ومناجاة الله هي النعمة الإلهية الكبرى التي وهبها الله لعباده حيث إذن لهم أن يخاطبوه رغم عظمته سبحانه وحقارتهم بين يديه.

والدعاء ضروري لطلب العون والمدد الإلهي قال تعالى: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) (الفرقان/ 77).

ولكن هنا ليس المطلوب الدعاء فقط، إنّما المطلوب هو المناجاة...

فالدعاء هو طلب الداني مع العالي، أنا داني والمولى عزّوجلّ عالي، وطلب الداني من العالي دعاء، ولكن الدعاء قد يصدر مني برغبتة، وقد يصدر مني باستثقال، قد يصدر مني بإكراه، وقد يصدر مني لحاجة دنيوية... وقد حثّ الله سبحانه وتعالى عباده على دعائه لطلب حتى أحقر الأشياء، وذلك حتى تعتاد النفس على مسألة الطلب إلى الله والتوجه إليه بالسؤال. فعن جابر بن عبدالله عن النبيّ (ص) في حديث طويل: "... أنّ الله يجب أن يسمع دعاءك..." "والله سبحانه يحب أن يُسأل لأنّه يحب صوت عبده المؤمن".

وقد يطلب العبد المحب لله الأمر، وهو لا يقصده، بل يقصد الاستئناس بمناجاة الله، فإذا انتقل إلى مرحلة المناجاة فقد ذاق طعم الخلوة بمحبوبة، وهذه حال يعقوب (ع)، فالحاجة التي في نفس يعقوب (ع) من بكائه كانت أنسه بسؤال مولاه، فهو مع ما هو عليه من مقام النبوة لا يشغله حبه لولده عن حب الله، إلّا أن يكون حزنه وكلفه لله سبحانه وتعالى والأنس بجواره، فالمناجاة إذن ليست طلب من الداني للعالي، بل هي حديث المحب لمحبوبه، وحديث العاشق لمعشوقه. يقول أمير المؤمنين (ع): "... وأشعر قلوبهم تواضع اخبات السكينة، وفتح لهم أبواباً ذللاً إلى تماجيده"، وعن الإمام زين العابدين (ع): "اللّهمّ إني أسألك خوف العالمين، وخشوع العابدين، [...] وذكر المخبتين واخبات المستقيمين".

فإذا كنت ترى أنّ الله عالٍ وأنت دانٍ، فقد تطلب منه حياء أو لحاجة، فهذا هو الدعاء، أمّا إذا كنت تراه محبوبك ومعشوقك الذي تقدم عليه والذي تنفتح عليه، والذي ترغب أن تتحدث معه فحينئذ تأتي المناجاة...

المناجاة حديث المحب مع محبوبه، وحديث بين العاشق ومعشوقه... وليست طلب المناجاة ومحادثة، وهذا ما يركز عليه زين العابدين (ع)، والمطلوب هو المناجاة التي تكون من القلب، ومن منزل القرب إلى الله سبحانه.

لذلك فإنّ المناجاة أقصر الطرق إلى الله وأقصر الطرق إلى التقوى... وإذا حصلت على المناجاة يعني أنّك جلست في ظلال الليل... جلست بينك وبين نفسك بحب ورغبة أن تتحدث مع الله... أن تتكلّم مع الله... أن تخاطب الله... أن تبث همومك وأحزانك وما في قلبك إلى المحبوب الأوّل وهو الله.

هذا هو الطريق السريع الذي يوصلك إلى التقوى، يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): "ركعة لي في دنياكم أحب إليَّ من الجنة وما فيها".

نحن نعشق الجنة لأنّها حور وولدان ونعيم وقصور وخمور، ولك عليّاً (ع) يقول بلسان حاله: أنا كلّ هذا ليس مهماً عندي، كلّ هذا أمور مادّية، أنا الذي يهمني هو لقاء الحبيب، لقاء المعشوق، يهمني الحديث القلبي بيني وبين محبوبي، هذا الذي يهمني، وليس الذي يهمني المظاهر الدنيوية، ركعة لي في دنياكم أعيش فيها مع معشوقي ومحبوبي أحبّ إليّ من الجنة وما فيها.

إذن المهم هو المناجاة

انظروا إلى آسيا... زوجة فرعون

كانت لديها كلّ وسائل الراحة من خدم وحشم وأموال ومجوهرات وكلّ ما تطلب... إلّا إنّها بقيت تائقة إلى السفر إلى المحبوب... بقيت مجاهدة من أجل موقع العنديّة... قالت: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (التحريم/ 11).

ابنِ لي بيتا عندك في الجنّة، وهذا هو مقام العندية، يعني أنّ الإنسان الذي وصل إلى مقعد الصدق، وصل إلى حقيقة الهدف...

(فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (القمر/ 55).

أسباب المودة مع فرعون بالنسبة للمرأة المادّية متوفرة إلّا أنّ آسيا بنت مزاحم كانت تختلف... فقد ذاقت عندما آمنت بنبيّ الله موسى (ع)، وعندما شعرت بعظيم منّة الله عليها، إذ أتاح لها نعمة تربية نبيّ الله (ص)، ولذلك زهدت بمقعد ملك الدنيا في قصر فرعون، وتاقت نفسها إلى ما هو أبقى، إلى: مقعد صدق عند مليلك مقتدر.

-         الليل هو الوقت الأمثل للسفر:

قيام الليل شعار الصالحين، فالليل أفضل وقت للخلوة مع الحبيب، للحديث معه من دون مشاغبة وإزعاج أحد...

الليل هو دليل معرفة العبد ربّه، وشوقه إلى لقاء معشوقه....

وفي صيام شهر رمضان، زاد للمتقين... ومنكر الصيام كافر لأنّه فريضة ثابتة في الكتاب والسنة والاجتماع وفي الكتاب الكريم: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) (البقرة/ 183).

والخاسر الخائب مَن أدركه شهر رمضان فلم يستدرك فيه أمره، ويصلح فيه ما بينه وبين ربّه، ويجدد العهد معه.

وإذا وطّن العبد نفسه على هذه الطاعات فعلت فعلها الحسن في النفس، وفجّرت فيها الخير والقوّة والعزة والغيرة، فلا يذل إلّا الله، ولا يطيع أحداً في معصية الله، ولا يأنس إلى أحد إلّا إلى الله.

-         وسائل العون على التزوّد:

مما يعين على التزوّد بالتقوى أمور:

الأوّل: خلو القلب من غير الله، فالقلب مملكة لله وحده لا شريك له والقلب حرم الله فكيف يدخل إلى حرم الله غيره ومن دون إذنه؟؟؟...

الثاني: مصاحبة حزب الله، الجماعة المؤمنة التي بايعت وتابعت وأعلنت الانتماء والولاء لله وحده، متناسية الولاءات والانتماءات الأخرى المبنية على العرق واللون واللغة والحدود الجغرافية... تلك الأُمّة التي تريد برهنة حبّها لله بأجلى الصور... أمّا إذا لم توجد هذه الجماعة الصالحة فالأولى العزلة، كما قال تعالى: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة/ 22).

الثالث: محطات التزوّد بالزاد... وهذه المحطات تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

أ‌) محطات زمانية: مثلاً أشهر التعبد الثلاث رمضان، شعبان، رجب، والمناسبات الإسلامية التي تربي التقوى وتقرب المحب من محبوبه، كعاشوراء الحسين (ع) ومواليد الأئمة، والمناسبات الإسلامية الأخرى مثل الإسراء والمعراج... إلخ.

ب‌) محطات مكانية: مزارات الأئمة، المساجد، المآتم، الحسينيات، مقار الجمعيات الأصيلة؛ بيوت رؤيتها تذكرك بالله، المقابر، قبور الشهداء والعلماء... إلخ.

ت‌) هذه الأمكنة تعتبر محطات تزوّد بالتقوى، تزوّد بالورع، تزوّد بالحب، ومحطات تخلي عن الرذائل، محطات براءة من الظلم والاستكبار، محطات تربية للذات.

ث‌) محطات وجدانية: هي المحطات الوجدانية التي ترى فيها نفسك مقبلة على الله، محطات الخلوة معه والانفتاح العاطفي عليه، محطات الاعتراف بين يديه بالتقصير، محطات غسل النفس بالبكاء والدموع لإزالة وسخ الذنوب والعصيان. ►

 

المصدر: كتاب الحب والجمال

ارسال التعليق

Top