• ٣ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ثمرة العلم بالأسماء والصفات

د. ناصر بن مسفر الزهراني

ثمرة العلم بالأسماء والصفات
◄يقول الشيخ عمر الأشقر: "إنّ العلم بأسماء الله وصفاته هو العاصم من الزلل، والمقيل من العثرة والفاتح لباب الأمل، والمعين على الصبر، والواقي من الخمول والكسل.

إنّ النفوس قد تهفوا إلى مقارفة الفواحش والذنوب، فتذكر أنّ الله يراها ويبصرها، وتذكر وقوفها بين يدي الله فترعوي وتجانب المعصية.

ويقع الإنسان في الذنب والمعصية، ثمّ يذكر سعة رحمة الله، فلا يتمادى في الخطيئة، ولا يوغل في طريقة الهاوية، بل يعود إلى الله ربه التواب الرحيم قارعاً بابه، فيجد الله تواباً رحيماً.

وتتناوش العبد المصائب والمكاره، فلا يجزع ولا يهلع، ويلجأ إلى الحصن الحصين، والركن الركين، ويقابل المكاره بنفس راضية.

ويقارع الأشرار فيجدِّون في منع الرزق عنه، وقصم العمر منه، ويعلم الفارس في مجال الصراع أنّ الأرزاق والأعمار بيد الله".

يقول ابن القيم -رحمه الله- : "فعلم العبد بتفرُّد الرب تعالى بالضرر والنفع، والعطاء والمنع، والخلق والرزق، والإحياء والإماتة، يثمر له عبودية التوكل عليه باطناً، ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً.

وعلمنا بسمعه وبصره وعلمه يقضي بأنّه لا يخفى عليه مثقال ذرّة في السماوات ولا في الأرض، وأنّه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يثمر للعبد حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كلِّ ما لا يرضي الله، ويجعل تعليق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه، فيثمر له ذلك الحياء باطناً، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح.

ومعرفة العبد بغنى الرب وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته توجب له سعة الرجاء، وتثمر له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه.

ومعرفة العبد بجلال الله وعظمته وعزّته تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة، وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعاً من العبودية الظاهرة هي موجباتها.

وكذلك علمه بكماله وجماله وصفاته العلى يوجد له محبة خاصة، بمنزلة أنواع العبودية، فرجعت العبودية كلّها إلى مقتضى الأسماء والصفات".

ويقول في موضع آخر عن تأثير العلم بأسماء الله وصفاته وأوامره وأفعاله في نفوس العباد: "إنّ أحد أسرار القرآن العظام هو تحديثه عن رب العباد حديثاً يجلي فيه القرآن الرب لعباده عبر صفاته، فتارة يتجلّى الرب عبر آيات الكتاب في جلباب الهيبة والعظمة والجلال، فتخضع الأعناق، وتنكسر النفوس، وتخشع الأصوات، ويذوب الكبر، كما يذوب الملح في الملح.

وتارة يتجلّى في صفات الجمال والكمال، وهو كمال الأسماء، وجمال الصفات، وجمال الأفعال الدالِّ على كمال الذات، فيستنفذ حبّه من قلب العبد قوة الحب كلّها، بحسب ما عرفه من صفات جماله، ونعوت كماله، فيصبح فؤاد العبد فارغاً إلا من محبته، فإذا أراد منه الغير أن يعلق تلك المحبة به أبى قلبه وأحشاؤه ذلك كلّ الإبداء كما قيل:

يراد من القلب نسيانكم *** وتأبى الطباع على الناقل

فتبقى المحبة طباعاً لا تكلفاً.

وإذا تجلّى بصفات الرحمة والبر واللطف والإحسان انبعثت قوة الرجاء من العبد، وانبسط أمله، وقوي طمعه، وسار إلى ربه وحادي الرجاء يحدو ركاب سيره، وكلما قوي الرجاء جدَّ في العمل، كما أنّ الباذر كلّما قوي طمعه في المغلِّ غلَّق أرضه بالبذر، وإذا ضعف رجاؤه قصَّ في البذر.

وإذا تجلى بصفات العدل والانتقام والغضب والسّخط والعقوبة انقمعت النفس الأمّارة، وبطلت أو ضعفت قواها من الشهوة والغضب واللهو واللعب والحرص على المحرمات، وانقبضت أعنّة رعونتها، فأحضرت المطيّة حظّها من الخوف والخشية والحذر.

وإذا تجلّى بصفات الأمر والنهي، والعهد والوصية، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وشرع الشرائع، انبعثت منها قوة الامتثال والتنفيذ لأوامره، والتبليغ لها، والتواصي بها، وذكرها وتذكيرها، والتصديق بالخبر، والامتثال للطلب، والاجتناب للنهي.

وإذا تجلّى بصفات السمع والبصر والعلم انبعثت من العبد قوة الحياء، فيستحي من ربّه أن يراه على ما يكره، أو يخفي في سريرته ما يمقته عليه، فتبقى حركاته وأقواله وخواطره موزونة بميزان الشرع غير مهملة ولا مرسلة تحت حكم الطبيعة والهوى.

وإذا تجلّى بصفات الكفاية والحب والقيام بمصالح العباد، وسوق أرزاقهم إليهم، ودفع المصائب عنهم، ونصره لأوليائه وحمايته لهم ومعيته الخاصة لهم، انبعثت من العبد قوّة التوكّل عليه والتفويض إليه، والرضا به، وبكلِّ ما يجريه على عبده ويقيمه فيه مما يرضى به هو سبحانه.

والتوكُّل معنى يلتئم من علم العبد بكفاية الله وحسن اختياره لعبده وثقته به، ورضاه بما يفعله به، ويختاره له.

وإذا تجلّى بصفات العز والكبرياء أعطت نفسه المطمئنة ما وصلت إليه من الذل لعظمته، والانكسار لعزته، والخضوع لكبريائه، وخشوع القلب والجوارح له، فتعلوه السكينة والوقار في قلبه ولسانه وجوارحه وسمته، ويذهب طيشه وقوّته وحدّته.

وجماع ذلك: أنّه سبحانه يتعرّف إلى العبد بصفات إلهيته تارة، وبصفات ربوبية تارة، فيوجب له شهود صفات الإلهية المحبّة الخاصة، والشوق إلى لقائه، والأنس والفرح به، والسرور بخدمته، والمنافسة في قربه واللهج بذكره، والفرار من الخلق إليه، ويصير هو وحده همّه دون ما سواه، ويوجب له شهود صفات الربوبية التوكُّل عليه، والافتقار إليه، والاستعانة به، والذل والخضوع والانكسار له.

وكمال ذلك أن يشهد ربوبيته في ألوهيته، وألوهيته في ربوبيته، وحمده في ملكه، وعزّه في عفوه، وحكمته في قضائه وقدره، ونعمته في بلائه، وعطاءه في منه، وبرّه ولطفه وإحسانه ورحمته في قيّوميّته، وعدله في انتقامه، وجوده وكرمه في مغفرته وستره وتجوّزه.

ويشهد حكمته ونعمته في أمره ونهيه، وعزّه في رضاه وغضبه، وحلمه في إمهاله، وكرمه في إقباله، وغناه في إعراضه.

وأنت إذا تدبرت القرآن وأجرته من التحريف، وأن تقضي عليه بآراء المتكلمين، وأفكار المتكلفين، أشهدك ملكاً قيّوماً فوق سماواته على عرشه يدبّر أمر عباده، يأمر وينهى، ويرسل الرسل، وينزل الكتب، ويرضى ويغضب، ويثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعزُّ ويذلّ، ويخفض ويرفع، يرى من فوق سبع ويسمع، ويعلم السر والعلانية، وفعّال لما يريد، موصوف بكلِّ كمال، منزّه عن كلِّ عيب، لا تتحرك ذرّة فما فوقها إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، ليس لعباده دون وليٌّ ولا شفيع".►

 

المصدر: كتاب اللهُ.. أهلُ الثناءِ والمجدِ

ارسال التعليق

Top