• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

صفاء النفس

صفاء النفس
◄إنّ صفاء النفس وشفافيّتها يشكلان أهم عنصرين للإحلام المريحة الصادقة، ولكنّ الناس تتلوّث نفوسهم – عادة – باجتراح المعاصي، واتباع سبل الغي، والجنوح للحرام، والميل للهوى.. فتشوب نفوسهم شوائب وأكدار مما يمتنع معها تلقي الإلهام من الله تعالى.

من هنا، فإنّنا بحاجة إلى تربية دائمة للنفس، وترويض لها على الخير، لتكون مؤهلة لاستقبال بشارة الله، وإلهام السماء.

وتطهير النفس لا يتأتى إلّا باجتناب الشهوات، والملذات الممنوعة، والذنوب المهلكة.. فمن الذنوب ما يقف حاجزاً دون الالتقاء بروح السماء ويغلق أبواب الفهم على الإنسان (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين/ 14).

لذا وجب علينا – عقلاً وشرعاً – أن نكابد بشدّة، لعزل أنفسنا عن الشر، بعد أن أحطنا به، من كلّ حدب وصوب، وأن نقلع عن ممارسة الفعل القبيح، والقول القبيح، اللذين ينهى عنهما الدين، كالكذب والغيبة، والحقد على الناس، والإفتراء والخوض في الباطل، والمكر... وما إلى ذلك، فقد اتّجه العالم بنا – في هذا الزمن – إلى خواء في الأخلاق والقيم والمثل...

إنّنا بحاجة للنفس الصقيلة، النقية، أكثر من حاجتنا للحلم الصادق، أما لو كانت النفس محمّلة بأثقال الآثام، محجوبة بكدر الذنوب، فلا تنفعها الأحلام في شيء.

والنفس الشفافة تؤدي دوراً كبيراً في حياة الإنسان، في نومه ويقظته، وإذا كان للنفس هذا الأثر الفعّال في تصوير الحقائق، وتجسيد الوقائع للإنسان في حال نومه، من خلال الرؤى الصادقة، فالأجدر والأولى أن يكون لها أثر في تبيان الحقائق في حال اليقظة..

وهي كذلك بالفعل.. فالنفس البشرية تمتلك قدرة عجيبة على اكتشاف الحقائق، ورؤية المستور، وإدراك ما لا تدركه الأعضاء والجوارح.. ولكن تختلف نفوس الناس من شخص لآخر، باختلاف درجة صفاء نفوسهم وطهارتها، فمن كانت نفسه أكثر نقاءً وصفاءً كان أبعد وأعمقَ نظراً، وأقوى على استكشاف الحقيقة.. بخلاف من ضَعُفَت نفسه، وهانت، وتدنّت في الموبقات.. فهو يكون أضعف بصيرةً، بل فاقداً للبصيرة، ومعدوم الرؤية، تكتنف الظلماتُ قلبه.

قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) (النور/ 40).

إنّه نور النفس الذي يستطيع أن يرى به ما لا تراه العين، يستطيع أن يميّز بين الخير والشر، والصحيح والسقيم، والحقّ والباطل.

ويقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا...) (الأنفال/ 29).

إنّ هذه الشفافية في النفس، يصطلح عليها العلم الحديث بـ(العقل الباطن) أو (الحاسة السادسة) لأنّ هناك إرشاداً وتوجيهاً ذاتياً تقوم بهما النفس، للتعريف على مواطن الصحة والسلامة، أو مواطن السوء والانحراف.. وتقوم النفس بعملية قراءة ما بين السطور.

أما في نصوص الدين الحنيف، فيعبّر عنها بتعابير مختلفة، منها: (الفرقان) كما سبق في الآية الكريمة، والفرقان هو المرشد الباطني الذي ينير الدرب في ظلمات هذه الحياة.

يشرح الطبرسي نوّر الله ضريحه، كلمة الفرقان بهذا الشكل (يجعل لكم هداية ونوراً في قلوبكم تفرّقون بها بين الحقّ والباطل).

ومنها: بعد النظر، كما ورد في وصف ضرار بن ضمرة لعليّ أمير المؤمنين (ع) (كان والله بعيد المدى...) فلا يمتلك بعد النظر إلّا مَن يمتلك نفساً شفافة لينظر بعيداً ويكتشف المستقبل بنظرته الثاقبة، كما كانت الحال في أصدق صورها مع الرسول وأهل بيته الكرام.

وربما عبّر عنها بكلمة (النور) لأنّ الإنسان تمتنع عليه الرؤية والحركة في الظلمة (ظلمة الحياة) إلّا بنور من الله عزّ وجلّ.

قال سبحانه: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا...) (الأنعام/ 122).

والمراد بالميت هنا (الكافر) الجاحد لآيات الله، والمعرض عن الدين، مثله مثل الميت لا ينفع أحداً ولا ينتفع منه أحد، وإن كان حاملاً لكفاءات عالية، وقدرات واسعة كما لو كان – مثلاً – عالماً غزير العلم، وعظيماً في أعين الناس، إلّا أنّه يبقى عاجزاً في نفسه من استكشاف الطريق الصحيح، وهو بالتالي ضالّ يعيش ظلمة الكفر والضلالة. بخلاف المؤمن الذي يحمل نفساً بصيرة، ذات رؤية بعيدة وواضحة، عميقة وكاشفة.

قال تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) (البقرة/ 257).

وقال: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ) (الرعد/ 16). ►

 

المصدر: كتاب رحلة إلى أعماق النفس

ارسال التعليق

Top