• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العبادة تقربنا من الله عزّ وجلّ

العبادة تقربنا من الله عزّ وجلّ

◄إنّ صنوف العبادة من صلاة، وصوم، وزكاة، وحج من شأنها أن تقرب المؤمن من الله سبحانه وتعالى، لأنّها تخلق جوّاً يتذكر فيه المؤمن ربه، ويخلو فيه من شواغل الدنيا ليستحضر جلاله وعظمته.

وفي استحضار المؤمن لجلال الله وعظمته يتطلع إلى أن يكون على نحو ما من صفاته. وهنا إذا كانت العبادات فرصاً للتوجه إلى الله والاتصال به، فإنّها حتماً يجب أن تستتبع التقرب من الله، والتقرب منه سبحانه وتعالى ليس تقرباً مكانياً، وإنما في محاولة الاتصاف بصفاته جلت قدرته، وإن لم يبلغ هذا الاتصاف تلك الدرجة التي لصفات المولى عزّ وجلّ.

يجب أن يوجد الله بصفاته في حياة الإنسان، وليس في عزلة وانفصال عنها. يجب أن يسعى العابد المؤمن كلّ لحظة ليحقق في ذاته ما عليه الله جلّ وعلا من صفات: العلم، والقدرة، والحياة، والشدّة، والرحمة، والخلق والإبداع، والغنى... إلى آخر تلك الصفات التي يتصف بها.

وليس معنى: أن يوجد الله بصفاته في حياة الإنسان، أن يتحد الله مع الإنسان، أو يتحد الإنسان مَع الله – كما هو رأي بعض غلاة الصوفية – وإنما على معنى: أن يتفاعل الإنسان العابد، بصفات الله في حياته، فيحصلها، ويكون له درجة من مستواها يتفاعل بها.

فيسعى إلى تحصيل العلم، وبقدر ما يحصل العلم ويكسب من المعرفة بالوجود وخصائصه.. حتى الله سبحانه وتعالى، بقدر ما يكون قربه من الله.

ويسعى إلى تحصيل القدرة والاستطاعة: قدرة البدن، واستطاعة العقل والتفكير، وقدرة السيطرة على شهوة النفس، واستطاعة التدبير في الحياة، وأيضاً بقدر ما يحصل من ذلك، بقدر ما يتقرب إلى الله.

ويسعى إلى تحصيل الحياة للنفس، كنفس إنسانية. وهي حياة الكرامة والبعد عن المذلة والمهانة، وحياة الممارسة للحرية الفردية، التي يبدو أوّل مظهر لها.

ويسعى إلى تحصيل الغنى، وهو غنى النفس عن طريق القناعة والاكتفاء بسد الحاجة عند المقدرة على تجاوزها، فغنى المولى سبحانه وتعالى ليس غنى مال، وولد. وإنما هو غنى عدم حاجة إلى الغير في وجوده وبقائه. والتقرب إلى الله الغني لا يكون بجمع المال، وإنما بالزهد فيه. ولا بكثرة الأولاد، وإنما بعدم الحاجة إليهم، وبقدر ما يستغني المؤمن العابد عن غيره من أصحاب المال أو الجاه، أو السلطة.. بقدر ما يقترب من غنى الله وعدم حاجته إلى الغير، عداه.

ويسعى في عمله إلى الخلق والإبداع فيه. يسعى إلى أن يتقنه، وأن يكون ذا نوعيّة فيه. يقيس عمله بالإجادة والاتقان، وليس بالكم والكثرة والعمل المتقن هو العمل المثمر. فالذي يقوم بإرشاد النّاس يكون عمله متقناً إذا أثر فيمن يرشدهم، والذي يعلم التلاميذ أو الطلاب يكون عمله ذا طابع في الخالقية إذا وجه تلاميذه وطلابه توجيهاً سليماً، وعن طريق (القدوة الحسنة) قبل طريق التلقين أو الالقاء.

وبقدر ما يتقن العمل ويجيده، بقدر ما يقترب من خالقية الله وإبداعه.

ويسعى أن يكون ذا رحمة مع المؤمنين حقّاً، في الوقت الذي يكون فيه ذا شدة مع خصوم الإيمان وأعداء الإنسانية، ممن يتخذ بعضهم بعضاً وثناً يقدس لفترة، ثمّ يزول وتزول قداسته، فيتجهون إلى تنصيب غيره وثناً آخر... وهكذا: تدور حياتهم حول إقامة الأوثان، وعبادتهم لزمن مؤقت.

وبقدر ما يحسن المؤمن إلى المؤمنين ويرحمهم، وبقدر ما يقف موقف الصلابة من الكافرين المعاندين... بقدر ما يقترب من الله الرحمن الرحيم، الجبّار المهيمن.

فإذا انعزلت عبادة الإنسان لله عن محاولة الاتصاف بصفاته، وعن فاعليته في حياته الفكرية والسلوكية... فإنّ عبادته يخف وزنها، وينعدم – أو يكاد – أثرها.

ويقول القرآن الكريم: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ) (التوبة/ 54).

فيصف المنافقين بأنّ عبادتهم وتقربهم إلى الله غير مجز وغير مثمر، فاقدامهم على الصلاة وهم كسالى، وانفاقهم المال وهم كارهون للانفاق، يدل على "الانعزالية" في حياتهم بين عبادة الله وفاعلية هذه العبادة في حياة المؤمن حقاً، ولذا هم كافرون بالله وبرسوله في حقيقة أمرهم.

ويقول الله في كتابه الكريم أيضاً: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت/ 45).

ويؤكد أنّ شأن العبادة أن تتأتى بآثارها، فالصلاة وهي نوع من العبادة لابدّ أن تستتبع نتائجها من ترك الفحشاء والمنكر... من ترك الجرائم الاجتماعية والأخلاقية التي تؤذي وتسبب الضرر للآخرين. وإذا لم تستتبع هذه النتائج فيدل أمرها على "انعزالية" في أدائها، وبالتالي على عدم فاعلية الله المعبود في وجود الإنسان وحياته، وتصبح عندئذ رسماً وشكلاً وهيئة، دون أن تكون لها روح وأثر.

انّ امارة ضعف المسلمين هي هذه "الانعزالية" في عبادتهم لله جلّ شأنه، ولذا فشأنهم شأن الضعفاء الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات.

ويوم يكونون أقوياء في البدن والعقل، وحريصين على كسب العلم والمعرفة، ومتقنين لعملهم، ومتبعين سبيل الهداية في سلوكهم، ويوم يكونون كذلك أصفياء النفوس بعضهم لبعض، ومتآخين على محبةٍ في الله.. يكونون حقاً في عبادتهم لله على درجة من القرب تؤهلهم لأن يصبحوا (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران/ 110).

والمؤمن القوي هو القريب من الله في تمثله لصفات الباري، والمؤمن الضعيف هو الذي تبعد الشقة بينه وبين الله فيما له من صفات. ►

 

المصدر: كتاب الدين والدولة (من توجيه القرآن الكريم)

ارسال التعليق

Top