• ١ أيلول/سبتمبر ٢٠٢٤ | ٢٦ صفر ١٤٤٦ هـ
البلاغ

كل هذا البياض لنا..

تحسين يقين

كل هذا البياض لنا..

هذا البياض، وتلك المشاعر: كل وتاريخه الشخصي مع الثلج..!
- ما بالي أرى وجوه الناس أشرقت، والأطفال الذين اندفعوا كالطيور زاهدين بطعام الإفطار!
- كنا هكذا يا عزيزي..
كنا بحاجة له كي يخلصنا قليلا من بعض الهموم، ربما ليعمّق المعاني، فخبز وشاي وزيت وزعتر ونار فاكهة الشتاء يكفي لنشعر بالسرور..
مدفأة الحطب كانت البطلة اليوم وشاركها البطولة الزيت والزعتر وتطلي العنب مع الطحينية، وانضم الشاي بالزعتمانة، ما أجمل أرضنا وهي تمنحنا أطيب المذاقات..مونولوج طويل مع الموقد..وذكريات الطفولة..
أول مرة شاهدت الثلج استغربت أنه غطى كل الأرض الواسعة..نظرت إلى بياضه، كله أبيض بمستوى واحد من البياض..لم أملّ من النظر إليه..وأحببت "النفش" رأيته كالقطن..وحين لمسته وجدته حنونا في ملمسه..
كل هذا البياض جميل، رغم أنه لون واحد..
حين تكرر المشهد ثانية، كنا أصلب عودا، فانطلقنا إلى اللعب به، وما هي دقائق إلا "وكرفشنا"، تجمدت أصابعنا..فعدت إلى كانون النار في البيت..أحاول إرجاع أصابعي سيرتها الأولى..
وفي كل عام كنا ننتظر الثلج..كنا في قريتنا نبتهج، كأنه مهرجان..كانت الدنيا "تنفش"، تلقي بقطنها الناعم، فنركض، ولا أدري لماذا كنا نركض ونرقص جماعات وأفراد..في حين كان كبار السن يبتسمون لنا، وينضمون للعب معنا.. واللعبة المشهورة هي حرب الثلج..إضافة إلى رجل الثلج..ولقلة السيارات في بلدنا كنا نبنيه وسط الشارع..كان رجل الثلج كبيرا لكثرة الثلج في السبعينيات..ولما كبرنا لم نعد نبني رجل الثلج حتى جاء الأطفال..
كل هذا البياض ضروري لنسمو، لنقتبس بعض مشاعر الطفولة البريئة، فكلنا والثلج سواء، ثمة مساواة جميلة مع الطبيعة، فيما بيننا ومعها..
نلتقي نحن الكبار فنتبادل التهاني بعيد الثلج..لقد أشرقت الوجوه، وراح كل كبير وصغير يروي مشاهداته بفرح وسرور..فكل هذا البياض ضروري لنفرح هنا..
وفي هذا البياض، لا مجال للخروج من البيت، أنت والعائلة معا، تقتربون من موقد النار طلبا للدفء، فنكتشف جميعا أننا واحد، وأن دفء الأسرة أمر عظيم، فقد سطا إيقاع الحياة المعاصرة، والانترنت والفضائيات على حوار الأسرة وتواصلها في تفاصيل الاهتمامات والهموم والمشاعر والأفكار..فالآن وقت للعودة قليلا إلى الحوار الدافئ، حيث يسعد الطفل/ة بأبيه وأبيها وأمهما..ويسعد الكبار: كبر الأطفال وهم يدركون المعاني..جميل هو الاستماع، فيهمس الوالدان لبعضهما: يجب أن نجالس الأطفال دائما..
 وفي كامل البياض، هنا يصير وقت للاستماع والحديث، وقص الحكايات و"الخرافيّات" من "جبينة" إلى الشاطر حسن..نعيد ما روت لنا الأمهات والجدات..ندخل القصص والحكايات، العالم توقف من ذلك الزمان حتى الآن..وما زالت جبينة هي جبينة، تغامر في الخروج لقطف ثمار الدوم، والشاطر حسن ما زال يعيد حكايته، ونص نصيص مكانه..والغولة هي الغولة..
في كل هذا البياض، ثمة بقع سوداء ورمادية في الحياة، لا تلائم هذا البراءة، ولا تلائم أيادي الغدر، لعلنا نعرّج على حكايات البلاد..نعيد الرواية، والروايات، حتى يعرف الأبناء الحكاية..ففلسطين حكاية الحكايات..فهنا متسع لنروي الحكايات الشفوية التي استمعنا لها من الكبار الذين لجأوا من هناك، ولم يبق لهم إلا ترداد الحكايات..قهذا ضروري ليتكامل ما يتعلموه من تاريخ عام، مع تاريخ تفاصيل البلاد التي كانت فلجأت البلاد وأصحابها..
وهذا البياض ضروري، لتأمل كيف تمضي السنين في حياتنا كأفراد وحياتنا كجماعات وشعب، لا تناقض بين الفرد هنا وجماعته، والشعب موحد لهم في مشاعر وأفكار الحياة، فمن فصل إلى آخر سيكون دوما هناك شادي الذي روت عنه فيروز غناء، إنه شادي الثلج..الذي ركض وراء المجهول، وراء المغامرة، وراء الحروب، غير عابئ برجاء صاحبته الصغيرة، لتكون الحكاية كما أراد..
"من زمان أنا وصغيرة، كان في صبي يجي من الأحراش، ألعب أنا وياه، كان اسمه شادي..
أنا وشادي غنينا سوا، لعبنا على الثلج،ركضنا بالهوا، كتبنا على الأحجار قصص صغار، ولوحنا الهوا...
ويوم من الأيام ولعت الدني، ناس ضد ناس علقوا بهالدني، وصار القتال يقرب على التلال، والدني دني.. وعلقت على اطراف الوادي، شادي ركض يتفرج، خفت وصرت اندهله، وينك رايح يا شادي، اندهله ما يسمعني، ويبعد يبعد بالوادي، ومن يومتها ما عدت شفته، ضاع شادي...
والثلج اجه وراح الثلج، عشرين مره اجه وراح الثلج، وانا صرت اكبر وشادي بعده صغير، عميلعب عالثلج..."..
كثيرا ما وقفت عند هذه الأغنية، وربما اليوم يكون هذا البياض ضروري لتأمل الأغنية..وشادي..وإلام يرمز شادي..والعشرون عاما التي مضت: هل هي العشرون عاما بين الحربين..؟ أم هي عشرون أخرى عادية جدا، إذا ما قرأنا القصة بشكل عادي..لكن غير العادي في القصة الغنائية أن الطفلة بعد العشرين سنة التي مضت كبرت، لكن شادي بقي صغيرا "عم يلعب بالتلج"..هل من رمز هنا للبراءة الإنسانية المغتالة؟ هل من رمز لقصص الحكايات الشعبية، جبينة، فرط رمان..!
لا يمرّ هذا البياض دون تذكر أغاني الثلج، والميلاد العظيم، ميلاد المحبة..وكثيرا ما افتقدنا الثلج في ليلة الميلاد..:
"تلج تلج عم بتشتي الدنيي تلج، والنجمات حيرانين وزهور الطرقات بردانيين..
تلج تلج عم بتشتي الدنيي تلج، والغيمات تعبانين عالتلة خيمات مضويين..
ومغارة سهرانه فيها طفل صغير، بعيونو الحلياني حب كتير كتير..
تلج تلج عم بتشتي الدنيي تلج، كل قلب كل مرج زهر فيه الحب متل التلج..
و جاي رعيان من بعيد، هون يا رعيان العيد..
تلج تلج شتي خير و حب و تلج، على كل قلب و على كل مرج، ألفة و خير و حب متل التلج..."
لفيروز نصيب كبير من الثلج..وهذا البياض ضروري لتذكر الأغاني والحياة والميلاد والمحبة والبراءة..
إنها رواية الميلاد ببساطة الأغنية، لعلنا نتعلم البساطة، عمق البساطة..من الشعر الغنائي الجميل ومن الحياة بعيدا عن تعقيدات الكلام..
هل بقي من براءة في هذا العصر؟ أتراها تسكن الحكايات والأغاني؟ أهي تظهر كذكرى ورمز مع البياض..
- كيف يذوب هذا البياض ولا نرى الحليب!
- يذوب ماء..
- لكنه أبيض..أين يذهب الأبيض..
ومن يومها وأنا أحاول تفسير بياض الثلج الذي يصبح بلان لون حين يذوب..
كل وذكرياته، وبياضه وألوانه وأسئلته البسيطة والمركبة..لكن في النهاية سيجمعنا الثلج على الموقد واللعب به والحديث عنه والغناء..
هذا بعض بياض الثلج..
- وللثلج أن يعود حتى نغني..فكيف سنغني للثلج إن لم يأت..؟
- نحن نغني له حتى يأتي..حتى يظل يأتي..

ارسال التعليق

Top