◄الأخلاق الطبية عبارة عن قيم تفرزها معالم معاناة الإنسان وآلامه، الجسدية والنفسية، وانعكاساتها على الآخرين في إطار تحسس وجداني تنتهي بقيم وممارسات.
إنّ أهم من البحث في قيم الأخلاق الطبية، هو البحث عن أساليب الكشف عنها لوضع قيم وأصول في ممارسات الأخلاق الطبية، من خلال دراسة تعابير المريض وآهاته ومعاناته، وأهله وذويه، مع مطابقة للقيم التي نتعبد بها، والتي وردت في النصوص الدينية، وأدبيات الفطرة البشرية السليمة، ومن ثمّ دراسة أحاسيس الكادر الطبي المحيط به من طبيب وممرض ومعالج طبيعي ومساعد وغيرهم، وأخيراً الرموز المنبعثة من أعماق المجتمع.
إنّ التعامل مع المريض ينبغي أن يكون تعاملاً كلياً، بمعنى العمل على مراعاة كل جوانب حياته النفسية والجسمية والاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية والعائلية وغيرها.
إذ من غير المنطقي أن تعمل على مراعاة مرضه الجسدي أو معالجته وتترك الجوانب الأخرى، أو تعمل على تخريب جوانب أخرى من حياته، والتي لابدّ وان تنعكس على واقعه الجسدي.
فالإنسان وحدة واحدة وكل لا يتجزأ، وان أي خلل يصيب أي جزء من أجزائه أو جانب من جوانب حياته، لابدّ وان يترك آثاره على الجوانب الأخرى. ومن البديهي ان تجسيد كل تلك الظواهر والآثار والنتائج لابدّ وان تمر عبر الجسد، والجسد بدوره يعكسها إلى مواضع ومواطن أخرى.
لذلك فإنّ التعامل مع الجسد البشري لا يخص الطبيب فقط وانما يرتبط بكل ظواهر الحياة.
والبحث في الأخلاق الطبية لا يخص الطبيب الجسماني فقط، وانما يرتبط بكل إنسان. ومن البديهي إن أي اعاقة يتعرض لها المريض لابدّ وان تؤدي إلى آلام ومؤثرات تصيبه. ومما لا شك فيه انّ العمل على إزالة هذه الآلام وتخفيفها يدخل في إطار الطبيعة البشرية.
والمريض كذلك لابدّ وأن يتحسس الجوانب الأخلاقية في الطب من خلال إحتكاك المباشر بالجهاز الطبي، من أطباء وممرضين ومعالجين طبيعين ومساعدين وعاملين وغيرهم. لذلك فإن إمكانية بلورة عناصر هذه الأخلاق من المريض والكتابة عنها والبحث فيها، لابدّ وان تكون إضافة لبقية الامكانات والتي ترفع هذا البحث لمصاف البحوث الأساسية في الدراسات الطبية، وقد تكون رابطاً بين معالجي الجسد ومعالجي الجوانب الأخرى من حياة الإنسان، لكي يشفى المعوّق لمواصلة حياته الطبيعية، دون معاناة كبيرة (دون إمكانية القول بعدم المعاناة إطلاقاً)، وايجاد الأجواء المساعدة للاعتماد على نفسه جهد الامكان، من قبل الأفراد المحيطين به، والذين هم في تماس مباشر معه كالأطباء خاصة، وذويه والمحبين له، وإيجاد أجهزة متخصصة تواصل مهمة الطبيب في علاجه وتشخيصه، كجهاز التمريض والعلاج الطبيعي والتأصيل والرعاية بالإضافة إلى تظافر جهود أجهزة إدارية وشعبية أخرى تكمّل مهمات هذه الجهات المتخصصة. لذلك فإن قيم الأخلاق الطبية تمتد إلى كل هذه العناصر، والتي تكمّل مهمة الطبيب.
إنّ بعض الذين هم على تماسٍ مع المرضى والمعوّقين منهم، خاصة من الجهاز الطبي وغيره، يحبون وظائفهم فقط، لذلك فإنهم يجهدون لإعطاء صورة صحيحة وكاملة عن أدائهم في نطاق وظائفهم، دون إكتراث حقيقي بالمريض. وآخرون يحبون مرضاهم ارتباطاً بوظائفهم ويجهدون ليؤدوا لهم بكل ما يملكون من جهد وطاقة وحب واخلاص وتفانٍ وإنسانية ودين، والذين لا يحبون وظائفهم ولا يحبون مرضاهم، فهؤلاء عالة على الخدمة في مجالات التعامل مع المريض.
إنّ الفطرة البشرية، والدوافع الإنسانية للبشر، والتي لا يمكن أن تختلف عن التعاليم السماوية كانت ولا تزال مصدراً أساسياً لمفردات القيم الاخلاقية، ودوافع للممارسات الخيرة التي لا زالت تغطي الجسد الاجتماعي، وتنفذ إلى كل ذرات وجوده. لقد واجهتني حالات عديدة رأيت فيها بأم عيني ملامح هذه الفطرة البشرية وكل روافدها من خلال تعامل مباشر مع أطباء وممرضات ومعالجين طبيعين ومؤهلين وغيرهم، منذ أن أصبحت في رعاية الجهاز الطبي البريطاني بكل أجهزته، دون أي تمييز بين مواطن واجنبي، مسلم وغير مسلم، وأبيض وأصفر، ودون الاكتراث بالحالات الشاذة النادرة التي لا يخلو منها أي مجتمع، مع العلم إن عناصر منها قد لا تبالي بالدين ولا تأخذ بقيمه، وإنما تندفع بقيم الفطرة البشرية السليمة، والتي أرى انّ الأخذ بها والتطبع عليها هي خطوة أساسية ومهمة للإيمان. فالإيمان ظاهرة يكتشفها العقل، وينميها العمل، وان تثبيت الإيمان يأتي نتيجة قناعة، والقناعة ليست سهلة.
إذن فنحن أمام مبدأين، هما مبدأ الالتزام، ومبدأ الأخلاق، يقابلهما عدم الالتزام واللاأخلاقية. وهنا بودي الإشارة إلى العلاقة العضوية القويمة الشاملة بين الالتزام والأخلاق. والأخلاق ليس ما نقيسه من مقاييس معينة للسلوك الحسن، وإنما هي اتجاه فكري عملي إنساني يهدف إلى خدمة البشرية.►
*باحث اسلامي راحل، أستاذ في جامعة وهران بالجزائر
ارسال التعليق