إن علم النفس خلال مسيرة تاريخه ليس الطويل يدين بشكل مباشر ونوعي للاسهامات التي قدمتها العديد من المدارس والاتجاهات الفكرية النفسية،فعلماء النفس يدينون بالولاء للمنعطفات التاريخية للاهتمام بما يدور "دا خل الدماغ" مما قدمته مدرسة الجشطالت "الصياغية" فيما يتعلق بدراسة الادراك في العقد الثالث والرابع والخامس من القرن الماضي وكذلك اسهامات علم النفس الفيزيائي على يد "فخنر" ولعل الشئ المميز لهذه الفترة هو التركيز على تأثير الخبرة السابقة والدافعية والخلفية الاجتماعية على الادراك، وهذه كلها عوامل تتعرض للمعالجة المعلوماتية "داخل" الدماغ، وهكذا بمرور الزمن وازدياد الخبرات أصبح التخصص الدقيق يتجه نحو دراسة الادراك وتفاعله مع متغيرات معينة أخرى في الشخصية ومع محددات الموقف وكيفية حدوث التحريفات أو "التشويهات" للمعلومات وارتباطها بالقيم الاجتماعية للفرد.
يقول علماء النفس ان الفروق الفردية في الخبرات قد تثير استعدادات وقتية مختلفة وهذه حقيقة مهمة تساعد على فهم عملية حدوث التفاعل السلوكي بين الاشخاص فما يحدث من سلوك شخصي متبادل يثير ردود افعال تئاثر بطريقة انتقائية في معارف المشاركين في هذا التفاعل السلوكي وتساعده على ضبط ما يستجد من سلوك متبادل فيما بعد. ان انتقاءنا للمنبهات الخارجية لا يحدث بشكل عشوائي وانما هناك تنظيمات معرفية متعلمة خاصة بكل فرد تجعله يدرك المنبه بطريقة تختلف عن الافراد الاخرين، هذه التنظيمات المعرفية تمثل الخبرة السابقة للفرد وتنظيم حالاته الانفعالية وتختلف الخبرة السابقة مع الحقيقة الموضوعية للمنبهات حتى يصبح الادراك دالة للتنظيمات المعرفية السابقة او دالة لما يحدث"داخل"الدماغ. وهكذا اثبت علماء النفس ان هناك تنظيماً معيناً للشخصية يؤثر على كيفية استقبال الدماغ للمعلومات ومعالجته لها، وهكذا ظهر اهتمام جديد بما يدور "داخل"دماغ الانسان اثناء استلامه للمعلومات، فالشخصية هنا هي العامل الداخلي الذي يؤثر على التعامل مع المعلومات، وفي نفس الوقت برزت محاولات علماء النفس في دراسة التفكير وتحديد الاستراتيجيات المثلى التي يمكن استخدامها اثناء هذه العملية، وتتعلق تلك الاستراتيجيات بكيفية استخدام الفرد للمعلومات للوصول الى حل سريع وفعال لمعضلة معينة.
إن حل المسألة (اية مسألة كانت، إجتماعية، رياضية، مشكلة.. إلخ) يتطلب معالجة معينة للمنبهات الداخلة ولا يمكن له أن يحدث من دون تلك المعالجة وهنا بدأ الاهتمام بكيفية قيام الدماغ بالتفاعل مع المعلومات يأخذ منحى جدياً وعميقاً، فقد إتضح انه لا يمكن فهم العمليات العقلية المعرفية الاساسية مثل الذاكرة والتعلم والانتباه والادراك والتفكير من دون فهم طبيعة ما يحدث داخل الدماغ وبناء على ذلك فأن الصورة العقلية تعد مكون مهم لافكار كثير من الناس، حيث يذكر العلماء والروائيون والشعراء والكتاب انهم بدأوا أعمالهم من خلال صور في عقولهم وتبلورت على شكل أفكار حتى عدها البعض من علماء النفس المعرفي بانها التصور العقلي وفي ذلك تأكيد تجريبي وتوضيح للتجارب بصورة مقنِعة تماماً ان الافراد يقومون بتكوين صور عقلية. ويبدو أن مثل هذه الصور العقلية مفيدة للاجابة عن نوع معين من الاسئلة حول موضوع ما أو شئ أو فكرة ما، حتى عد هذا الوصف غير ذو فائدة كبيرة لانه يعتمد فقط على التصور اللفظي، لذا فأن التصور العقلي يختلف عن تكوين الصور التي يصفها الافراد في وضوحها بقدر كبير، ولكن يبدو أن التفكير يكون ذو اشكال متنوعة مثل شكل الكلمات أو صور عقلية أو يتخذ أسلوب آخر، وهذه لا يمكن لاحد أن يلاحظها حتى علماء النفس لا يستطيعوا الملاحظة المباشرة لأفكار أي فرد، إلا انهم يستطيعون أن يعالجوا هذه المشكلة بطريقة غير مباشرة.
إننا أحيانا نصف أن أفكارنا لا تبدو كاملة أو بمعنى أدق إنها مبتورة ولا تأتي متسلسلة على وفق ما نريد، لأن تكون الأفكار يمر بعدة مراحل حتى تتراكم الفكرة وتتشكل وتكتمل وتصبح بالصورة التي يفهمها الاخرون وتشترك عمليات تكوين الافكار بآلية الذاكرة واستخدام التذكر وعليه تتغذى العمليات التي تكُون سلاسل التفكير من الخبرات السابقة المتراكمة في الذاكرة واذا ما حصل اضطراب جزئي في تسلسل الافكار يعود سببه الى ضعف استدعاء المعلومات من الخزين الذي اكتسب المعلومات وازاء ذلك فأن فقدان واضطراب تسلسل الافكار هو اضطراب في ترميز المعلومات، ففي العام (1976) أوضحت دراسات لوريا Luria ودراسات فرح (1988) Farah ان الخلل في اضطراب الذاكرة اللفظية سببه خلل أو تلف في النصف الايسر من الدماغ بينما الخلل في اضطراب الذاكرة البصرية سببه خلل أو تلف في النصف الايمن من الدماغ وتؤيد هذه النتائج نظرية الترميز الثنائي للذاكرة، فهناك نظام خاص بترميز المعلومات البصرية ومعالجتها، ونظام آخر لترميز المعلومات اللفظية ومعالجتها.
ان كل الناس تستخدم آلية التفكير بنسب متفاوتة، فالبعض يقسو على دماغة بكثرة الانشغالات واستخدامه حتى كاد يتعبه، والبعض الآخر يكون إستخدامه معتدلاً للحد الذي لا يكلفه أكثر مما يجب والبعض الآخر ظل استخدامه لهذه الالية بشكل لا يرقى الى العمق واكتفى بالشكل السطحي لمعالجة المعلومات، فلا يوجد تشغيل فعال له، ويرتبط ذلك بنمط الشخصية وشدة الانفعالات التي تحرك تشغيل الدماغ للمعلومات وحتى اكتساب المعلومات وطريقة خزنها، ففي دراسة اجراها العالم كريستيانسون في العام (1992) حيث قام بفحص معظم الدراسات السابقة في التمييز بين الاثارة الانفعالية وعلاقتها بالذاكرة وتأثيرها على مجرى التفكير، وبعد ان وجد ان الدراسات السابقة في التمييز بين الاثارة الفسيولوجية العامة وبين كل من الاثارة والتنبيه الانفعالي والاثارة الخاصة بالمعلومات، وجد انها فشلت في استرجاع المعلومات وتذكرها الا انه اعاد فحص اثار الاحداث الانفعالية السلبية في الذاكرة وارتباطها في عمليات تكوين سلاسل التفكير المترابطة أو تعثرها لذا فالمواد أو المعلومات أو المدركات التي جرى ترميزها في ظروف اثارة انفعالية عالية اقل عرضة للنسيان من المعلومات التي ترميزها ضمن ظروف طبيعية وازاء ذلك ذكر كريستيانسون بعض المتغيرات :
- نوع الاثارة أو التنبيه
- نوع الحدث أو الواقعة
- مستوى النشاط
- الفاصل الزمني الذي يفصل بين الحدث وبين التذكر
- نوع المعلومات
توصل علماء النفس الى أن الفروق الفردية في الادراك والتفكير وفي طريقة خزن واستدعاء المعلومات على شكل افكار تثير استعدادات مختلفة وهذه من بعض الحقائق الاساسية التي تساعدنا على فهم كيفية حدوث التفاعل بيننا، فمنظومة الذاكرة والتفكير السلوكية تنموعند الانسان منذ الطفولة وتتسع في المدركات وتعبر عن نفسها في شكل العمليات المعرفية ومنها التخيل واتساع افق التفكير وتساعد البعض في منحهم قدرات اضافية في التفكير الرمزي واطلاق طاقات ابداعية لا تتو فر لدى البعض الاخر من البشر، حتى ان بعض علماء النفس عدوا الاستخدام الامثل للتفكير هو دالة للابداع وتنمية للذاكرة بحيث يصبح الفرد يتمتع بمرونة اكثر في التفكير وتعليم قدراته التي بوساطتها يستطيع ان يسبر غور القضايا الفلسفية والعلمية بشكل اكثر عمقاً. يعد التفكير والمعلومات التي يخزنها خزنا عميقا في الدماغ واسترجاعها عند الحاجة عملية معرفية ثرية تمنح الشخص المبدع احيانا كثيرة مخزنا ضخما من المعلومات التي تفجرها قدراته وامكاناته العقلية ولنا من الامثلة عبر التاريخ الكثير من المفكرين المبدعين الذين جمعوا عدة قدرات فائقة في تشغيل المعلومات داخل الدماغ بعد ان قضوا عددا من السنوات في جمع المعلومات وتكوين مهارات اساسية تحفز الاثارة في التفكير وقد اثبتت الدراسات المعملية العلمية ان العامل المشترك بين المبدعين جميعا هو اداء العمل العقلي المرتكز على قدرتي الادراك والتفكير، ومهما كان هذا العمل شاقا، فالارادة القوية تحرك مخزن ذاكرة الدماغ الملئ بالمعلومات وتنتج طريقة عصف الدماغ Brain storming كطريقة فعالة في التاثير على قدرة التفكير وتنمية الابداع الفكري.
*باحث إجتماعي وسيكولوجي
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق