• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحياة الطيبة والعمل الصالح

الحياة الطيبة والعمل الصالح
◄الحياة الطيبة تشمل في الدنيا: الرزق الحلال.. التوفيق للطاعة والرضا بالقضاء
معادلة قرآنية يقول الله تعالى في طرفها الأوّل: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) (النحل/ 97)، فتكون النتيجة طرفها الثاني: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل/ 97).
العمل الصالح ينقسم إلى قسمين: واجب ونافلة، أما الواجب فلا يستطيع الإنسان الزيادة فيه أو النقصان، وإنما يكون بالتنافس في النوافل، حيث تتفاوت همم الصالحين في التقرب إلى الله فيها، وبالتالي تكون الحياة الطيبة بالزيادة والنقصان طبقاً لما يتقرب به العبد إلى ربه من هذه النوافل بعد أداء ما أوجبه عليه، كماً وكيفاً.
والعمل الصالح بشكل عام تتعدد أشكاله، فأعلاه كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" وما تقتضيه، وأدناه إماطة الأذى عن الطريق، وما بينهما الكثير من هذه الأعمال الصالحة، والميدان مفتوح لتنافس الجميع.

- أقوال العلماء:
تنوعت أقوال العلماء في مكان الحياة الطيبة هل هي في الدنيا أم الآخرة؟ وإن كان أكثرهم يرجح الدنيا، وكذلك تنوعت أقوالهم في معنى الحياة الطيبة، وتجتمع هذه الأقوال فيما قاله الإمام القرطبي في تفسيره: (وفي الحياة الطيبة أقوال:
الأوّل: أنها الرزق الحلال.
الثاني: القناعة.
الثالث: توفيقه إلى الطاعات، فإنّها تؤديه إلى رضوان الله.
الرابع: السعادة.
الخامس: حلاوة الطاعة.
السادس: الجنة، وقال الحسن لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة.
السابع: المعرفة بالله، وصدق المقام بين يدي الله.
الثامن: الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق.
التاسع: الرضا بالقضاء).

- عيش المؤمن وعيش الكافر:
یقول الرازي أنّ الحياة الطيبة تكون في الدنيا بعقد مقارنة بين عيش المؤمن وعيش الكافر، فيقول: "اعلم أن عيش المؤمن في الدنيا أطيب من عيش الكافر لوجوه:
الأوّل: أنّه لما عرف أن رزقه إنما حصل بتدبير الله تعالى، وعرف أنّه تعالى محسن كريم لا يفعل إلا الصواب، كان راضياً بكل ما قضاه وقدره، وعلم أن مصلحته في ذلك، أما الجاهل فلا يعرف هذه الأصول فكان أبداً في الحزن والشقاء.
وثانيها: أنّ المؤمن أبداً يستحضر في عقله أنواع المصائب والمحن ويقدر وقوعها، وعلى تقدير وقوعها يرضى بها، لأنّ الرضا بقضاء الله تعالى واجب، فعند وقوعها لا يستعظمها، بخلاف الجاهل، فإنّه يكون غافلاً عن تلك المعارف، فعند وقوع المصائب يعظم تأثيرها في قلبه.
وثالثها: أن قلب المؤمن منشرح بنور معرفة الله تعالى، والقلب إذا كان مملوءاً من هذه المعارف لم يتسع للأحزان الواقعة بسبب أحوال الدنيا، أما قلب الجاهل فإنّه خالٍ من معرفة الله تعالى، فلا جَرّمَ يصير مملوءاً بالأحزان الواقعة بسبب مصائب الدنيا.
ورابعها: أنّ المؤمن عارف أن خيرات الحياة الجسمانية خسيسة، فلا يعظم فرحه بوجدانها، وغمه بفقدانها، أما الجاهل فإنّه لا يعرف سعادة أخرى تغايرها، فلا جرم يعظم فرحه بوجدانها وغمه بفقدانها.
وخامسها: أنّ المؤمن يعلم أن خيرات الدنيا واجبة التغير، سريعة التقلب، فلولا تغيرها وانقلابها لم تصل من غيره إليه.

- نشاط النفوس ونبلها:
يرى ابن عطية الأندلسي أن: (طيب الحياة اللازم للصالحين إنما هو بنشاط نفوسهم ونبلها، وقوة رجائهم، والرجاء للنفس أمر ملذ، فبهذا تطيب حياتهم، وبأنّهم احتقروا الدنيا فزالت همومها عنهم، فإن انضات إلى هذا مال حلال، وصحة أو قناعة فذلك كمال، وإلا فالطيب فيما ذكرناه راتب).

- هل المال شرط؟
كثيرون يعتقدون أنّ المال شرط السعادة والحياة الطيبة، وكثيرون أيضاً لا يتصورون أنّ السعادة يمكن أن تحدث من غير مال، لذلك فهم يهلكون أنفسهم من أجل المال، ويبيعون قيمهم ومبادئهم من أجل المال، ويقتلون النفس التي حرم الله من أجل المال.. ويرد سيد قطب على هؤلاء بقوله: "العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في هذه الأرض، لا يهم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمال، فقد تكون به، وقد لا يكون معها، وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تطيب بها الحياة في حدود الكفاية: فيها الاتصال بالله، والثقة به، والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه، وفيها الصحة والهدوء والرضا والبركة، وسكن البيوت ومودات القلوب، وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير، وآثاره في الحياة، وليس المال إلا عنصراً واحداً يكفي منه القليل، حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند الله".

- الفرح بفضل الله:
من الحياة الطيبة الفرح المقيد بما يرضي الله ويحبه، الفرح الذي لا يُطغي صاحبه وينسبه فضل الله عليه، إذ يقول تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس/ 58).
وقوله تعالى: (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (آل عمران/ 170).
يقول الشيخ المراغي: "أي قل لهم ليفرحوا بفضل الله وبرحمته، أي إن كان شيء في الدنيا يستحق أن يفرح به فهو فضل الله ورحمته".
روى ابن مردويه مرفوعاً: "فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله".
وعن الحسن: "فضل الله الإيمان، ورحمته القرآن" (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)، أي أنّ الفرح بهما أفضل وأنفع مما يجمعونه من الذهب والفضة والأنعام والحرث والخيل المسومة وسائر خيرات الدنيا، لأنّه هو سبب السعادة في الدارين، وتلك سبب السعادة في الدنيا الزائلة فحسب، فقد نال المسلمون في العصور الأولى بسببه الملك الواسع والمال الكثير مع الصلاح والإصلاح مما لم يتسن لغيرهم من قبل ولا من بعد.
بعد أن جعلوا ديدنهم جمع المال ومتاع الدنيا، ووجهوا همتهم إليه، وتركوا هداية القرآن في إنفاقه، والشكر عليه، ذهبت دنياهم من أيديهم إلى أيدي أعدائهم).

- ما هو الفرح والسرور؟
يقول ابن القيم: "والفرح لذة تقع في القلب بإدراك المحبوب، ونيل المشتهى، فيتولد من إدراكه حالة تسمى الفرح والسرور، كما أنّ الحزن والغم من فقد المحبوب، فإذا فقده تولد من فقده حالة تسمى: الحزن والغم".
ويقول في موضع آخر: (الفرح أعلى أنواع نعيم القلب، ولذته وبهجته، والفرح والسرور نعيمه، والهم والحزن عذابه، والفرح بالشيء فوق الرضا به، فإنّ الرضا طمأنينة وسكون وانشراح، والفرح لذة وبهجة وسرور، فكل فرح راض، وليس كل راض فرحاً، ولهذا كان الفرح ضد الحزن، والرضا ضد السخط".

- فرحتان:
الفرح فرحتان، فرحة بالزائل من الدنيا، وفرحة بالباقي، وكل ما يتصل بالباقي الذي لا يزول فإن أثره باقٍ لا يزول، فإن حب الدنيا الزائلة وما فيها والفرح بها، يزول عندما يزول هذا الشيء، أما الفرح بما عند الله وبما أنزله من الكتاب، وما جاء به (ص) فإنّه لا ينقطع، يبدأ في الحياة الدنيا ويستمر حتى يغادر الإنسان هذه الحياة، فيتواصل في حياة البرزخ بما يجده من الفضل والنعيم في القبر، ثمّ يستمر يوم القيامة حين البعث عندما يرى صحائف أعماله نوراً يتلألأ، ثمّ يدخل الجنة، فتكون الفرحة الكبرى برؤية وجه العزيز الكريم، وبما يرى من نعيم دائم مقيم.
يقول ابن القيم: "ذكر سبحانه الأمر بالفرح بفضله وبرحمته عقيب قوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (يونس/ 57)، ولا شيء أحق أن يفرح العبد به من فضل الله ورحمته التي تتضمن الموعظة، وشفاء الصدور من أدوائها بالهدى والرحمة، فأخبر سبحانه أن ما أتى عباده من الموعظة – التي هي الأمر والنهي" المقرون بالترغيب والترهيب، وشفاء الصدور المتضمن لعافيتها من داء الجهل، والظلمة والغي، والسفه – وهو أشد ألماً لها من أدواء البدن، ولكنها لما ألفت هذه الأدواء لم تحس بألمها، وإنما يقوى إحساسها بها عند المفارقة للدنيا، فهناك يحضرها كل مؤلم محزن، وما أتاها من ربها الهدى الذي يتضمن ثلج الصدور باليقين، وطمأنينة القلب به، وسكون النفس إليه، وحياة الروح به، والرحمة التي تجلب لها كل خير ولذة، وتدفع عنها كل شر ومؤلم.
فذلك خير من كل ما يجمع الناس من أعراض الدنيا وزينتها، أي هذا هو الذي ينبغي أن يفرح به، ومن فرح به فقد فرح بأجل مفروح، لا ما يجمع أهل الدنيا منها، فإنّه ليس بموضع للفرح، لأنّه عرضة للآفات ووشيك الزوال، وخيم العاقبة، وهو طيف خيال زار الصب في المنام، ثمّ انقضى المنام، وولى الطيف، وأعقب مزاره الهجران.

- مؤشر الإيمان الصادق:
هذا الفرح بفضل الله ورحمته – الذي هو أحد المظاهر البارزة للحياة الطيبة لا يكون إلا لأولئك المؤمنين الصادقين الذين اشتروا الآخرة وباعوا الدنيا، فاختاروا بذلك التجارة التي تنجيهم من عذاب أليم، واختاروا الباقي على الزائل، فكان هذا الفرح مؤشراً دقيقاً لما في قلوبهم من إيمان، إذ إن فاقد الإيمان، أو ضعيفه لا يفرح إلا بما في الدنيا من الزخارف، ويزهد فيما عند الله من الباقي.►

ارسال التعليق

Top