يتوافد الحجّاج عشيَّة عيد الأضحى إلى صعيد عرفات لأداء أهمّ ركن من أركان مناسك الحجّ، وهو الوقوف في عرفة، والذي قال فيه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «الحجّ عرفة»، حيث یبدأ الحجّاج ليلاً بالتوجّه إلى عرفات من مشعر منى، بعدما یتموا عمرة التمتّع من الطواف حول البيت الحرام، والسعي مع بداية شعائر الحجّ. وبعد الوقوف في عرفة، ينفر الحجَّاج للمبيت في منطقة مزدلفة، وهو ما يعرف بـ«النفرة»، وهناك، يبدأون بجمع الحصى، ليتوجّهوا بعدها إلى منى لرمي الجمرات. وفي اليوم الأوّل من عيد الأضحى، يقدِّم الحجّاج الأضاحي، ويبدأون بشعيرة رمي الجمرات، ثمّ يستكملون ما بقي من شعائر الطواف والسعي.
هذه الأيّام هي أيّام الحجّ المبارك؛ الأيّام التي ينتظر فيها الحجّاج الوقوف على جبل عرفات؛ يقفون عليه جميعاً، عربيّهم وعجميّهم، أسودهم وأبيضهم، فقيرهم وغنيّهم.. يقفون في تلك الصحراء الواسعة، تلبيةً لدعوة الله سبحانه، وامتثالاً لأمره.. يقفون ليشهدوا له بأنّه واحد أحد، فرد صمد، لا شريك له ولا مثيل.. يقفون وهم يوحّدونه ولا يشركون به أحداً، سواء كان من الدول الصغرى أو العظمى، سواء كان ملكاً أو رئيساً، يقفون ليشهدوا أنّهم في خطّ رسوله يسيرون، الإسلام دينهم وعقيدتهم وشريعتهم ومنهجهم في الحياة، الإسلام سياستهم عندما يريدون التحرّك في ميدان السياسة، واجتماعهم في ميدان الاجتماع، واقتصادهم في ميدان الاقتصاد. تلك هي الروح التي يريد الله لها أن تعيش أجواء الحجّ؛ الروح التي جاءت مهاجرةً عن كلّ خصوصيّتها ومواقعها، وعن كلّ الحسابات الحميمة التي كانت تعيشها.
والسؤال هنا: ما هي الروح اليوم التي من خلالها نتعامل مع قضايانا، ونحن نشاهد الكثير ممّن يبتعدون عن ميادين الحجّ وغاياته ومعانيه ومقاصده، من النواحي الإنسانية والاجتماعية والفكرية؟ فالاجتماع اليوم عند البعض، هو على نشر الفوضى والفتنة، وتغليب لغة الأحقاد والعصبيات، وتقديم الحسابات الشخصية والفئوية، وكلّ ذلك لا ينسجم بتاتاً مع روحية عبادة الحجّ، ولا مع الوقوف الحقيقي بين يدي الخالق عزّوجلّ.
لابدّ لنا، والحال هذه، من أن نهيّئ كلّ المناخات التي تعيد الحياة إلى كلّ القيم والمفاهيم الإسلامية الأصيلة، وأن نحرّكها في كلّ تفاصيل حياتنا، وأن تحكم كلّ أوضاعنا وعلاقتنا مع أنفُسنا والمحيط من حولنا، عبر الانفتاح على خطّ الله وتعاليمه السمحاء، بكلّ جرأة ووعي وعقلانية.. إنّها وقفة الحياة أمام الله تعالى، تستلهمه وتستهديه في كلّ ما يشغلها في واقعها، لحظة تحاول استلهام كلّ الصواب على مستوى الفكر والعقل والروح والشعور، وتحقيق كلّ اتصال مع الله ينعكس خيراً على الذات الفردية والجماعية، بما يخدم وجودها وحاضرها ومستقبلها.
فقال الله تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ) (البقرة/ 198).. فمن أعمال الحجّ أن يقف الناس في عرفات من الزوال إلى الغروب وقفةً خاشعةً فيها الكثير من العبادة والتأمّل والنفاذ إلى أعماق الروح في لحظة صفاء ونقاء.. إنّها وقفة الحياة أمام الله، تستلهمه وتستهديه، وتفتح قلبها أمامه في آلامها وآمالها، من أجل أن يلهمها الصواب في ما تفكّر، ويهديها الصراط المستقيم، ويجعل لها من أمرها يسراً، فيكشف عنها آلامها، ويحقّق لها أحلامها.. إنّ الوقوف في عرفات، تماماً كما لو أنّ الإنسان يعيش في رحلة طويلة تجهده، وتتعبه وتكلّفه الكثير من الخسائر، وتواجهه بالكثير ممّا يقوم به من أعمال ومشاريع.. فيشعر بالحاجة إلى وقفة يتخفّف فيها من متاعبه، ويراجع فيها حساباته، ويعرف فيها ماذا بقي له من الرحلة وما مضى منها، ليبدأ من موقع التجدّد الروحي الذي يملأ كيانه في رحلة جديدة واعية لكلّ أوضاع الحاضر والمستقبل.
إذاً، يوم عرفة هو يوم التأمّل المنفتح على كلّ جوانب الرحمة الإلهيّة؛ هو يوم تصفية القلوب والعقول من كلّ الأدران والأمراض الروحية والأخلاقية والفكرية، استعداداً لتلقّي مغفرته ورحمته وبركاته، إنّه يوم الشهادة لله، والإقرار بالعبودية الخالصة لوجهه، والتي يعكسها الإنسان سلوكاً وموقفاً فاعلاً في حركته في الحياة، بحيث يشعر بأنّ الله تعالى أكبر من كلّ شي، منه وإليه كلّ شيء.مقالات ذات صلة
ارسال التعليق