• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الغش في الاختبارات.. جذور المشكلة والحل

الغش في الاختبارات.. جذور المشكلة والحل
◄الغش: هذا السلوك غير السويّ الذي نلحظهُ في مدارسنا... ما هو؟ وما هي جذوره الاجتماعية والمدرسية؟... وما مظاهره أو صيغه السلوكية؟.. وعوامله أو مُسبّباته المباشرة؟.. ثمّ كيف نعالجه لصالح التلميذ والمجتمع؟   ماهية الغش: يتمثل الغش في الاختباراتوأداء الواجبات المدرسية في حصول التلميذ على الإجابة المطلوبة لسؤال أو واجب تربوي من قرين أو كتاب أو مذكرة أو كتابة على مقعد أو ورقة أو جدار أو جزء من جسمه... لهدف تمرير متطلبات دراسية دون اعتبار يذكر لتعلم المادة أو شعور ذاتي بأهميّتها لحياته ومستقبله. والغش، بالإضافة لما يؤديه من ضعف في التحصيل المدرسي، هو سلوك غير خلقي، يتم عن نفس غير أمينة أو غير سويّة، وغير مؤهلة لا يصلح صاحبها في رأينا للقيام بالمسؤوليات الأسرية والاجتماعية المتوقعة منه في الحياة الراشدة العادية. فالغش نوع من الكذب والسرقة والتلوّن، وهذه الصفات معاً هي مؤشر للجبن والعجز والتواكل، والتي تعبر بالتالي عن شخصية متدنية في مواصفاتها الادراكية والخلقية والاجتماعية، غير قادرة عموماً على الموازنة والحكم بين الخير والشر.   جذور الغش الاجتماعية والمدرسية: المدرسة هي وليدة المجتمع ووكيلتهُ في تحقيق البقاء والتقدم. والمجتمع المدرسي هو بهذا عينة ممثلة للمجتمع الواسع الذي ينتمي إليه. فَتَركيبتهُ البشرية والثقافية هي تعبير وامتداد مباشران لمكونات المجتمع الأُم ولما يدور فيه. والحياة المدرسية سواء تَميّزت بالقوة أو الضعف هي أيضاً انعكاس مباشر للحياة الاجتماعية العامة. ومن هنا نستطيع الحكم على مدى نجاح المجتمع في تحقيق ذاته وأهدافه الوطنية وعلى قدراته الحقة (دون الشفوية الدعائية) في التقدم والعطاء، بالتعرّف على مدى كفاية نظامه التربوي، لكون كل منهما في الواقع مُنتجٌ للآخر ونتاج له. فالمجتمع القادر على سبيل المثال ينتج نظاماً تربوياً قادراً بنّاءً، والنظام التربوي البناء يزود المجتمع باستمرار بالأجيال المثقفة الواعية التي توجِّه سلوكها لتحقيق كل ما هو خيّر ونبيل لحياتها الأسرية والاجتماعية. والغش في الاختبارات وأداء الواجبات هو كبقية العادات الاجتماعية الأخرى سلوك غير موروث، يكتسبه التلميذ أو الطفل عادة من البيئة المحلية/ المدرسية، وهو بالتالي تعبير لما قد يدور فيهما من أنواع غش متنوعة أخرى. ويرجع السبب في كون الغش السائد في الحياة المدرسية تحصيلياً أو تربوياً في صيغته، لكون التربية تشكل البضاعة الرئيسية للمدرسة ومسؤوليتها الفطرية، حيث يأخذ الغش المدرسي من ذلك هويّته، فيبدو لنا بالصيغ المختلفة التي يتبنّاها بعض التلاميذ لهدف تمريراختباراتهم وواجباتهم المدرسية. ويتطور الغش حسب رأينا لدى التلاميذ في ثلاث مراحل متتابعة هي:   ·       مرحلة الغش البريء (00 – 12 سنة): وهي مرحلة تعلّم وتطوير المفاهيم بمختلف أنواعها من الطفل، بما في ذلك مفهوم ذاته. ويتّخذ تعلم المفاهيم الصيغ الحركية البحتة خلال السنتين الأولى من عمر الطفل، ثمّ المحسوسة الواقعية في عمر 3-7 سنة، متحولة خلال عمر 7-12 سنة للصيغ الحسيّة، التي تقوم لدرجة مُكثّفة على استخدام الحواس الخمس دون الحركة البحتة أو الواقع المباشر المحسوس. ونلحظ الطفل خلال هذه المرحلة لا يقوم بالغش بشكل واع مقصود، بل تلقائياً ليدرك مفهومه ووسائله، ونتائجه عليه وردود فعل الناس تجاهه. وإذا كُنا في المؤسسات التربوية العالية كالكليات والجامعات، لازلنا نركز حتى الآن على تخريج القوى العاملة التربوية للمدارس المتوسطة والثانوية، فإنّ الأمر أصبح مُلحاً للالتفات للتربية الأسرية ورياض الأطفال والمدارس الابتدائية، وتوفير الكوادر المؤهلة التي تحتاجها التربية الأساسية التي تحدث خلالها... هذه التربية التي تحسم سلباً أو إيجاباً في العادة هوية أي مجتمع متحضر (أو غير متحضر) وفكرة المنتج وشخصيته السوية... أن هوية المجتمع، أي مجتمع تتقرّر بهوية أجياله والتي بدورها تتبلور بحدودها ومواصفاتها العامة خلال الأثنتي عشرة سنة الأولى من العمر الزمني للفرد.   ·       مرحلة الغش الشخصي الضيّق (12 – 18 سنة): يبدأ أفراد التلاميذ مع المدرسة الاعدادية بمقاومة أي شيء لا يتصل مباشرة برغباتهم الشخصية، أو لا يرون فيه عائداً مباشراً يُذكر عليهم، وذلك نتيجة المرحلة الانتقالية غير المُستقرّة التي يعيشونها خلال هذه الفترة من العمر (12 – 18 سنة)، بينما تتطوّر معالم شخصياتهم وآمالهم الحياتية المقبلة لصيغها النهائية. وتُعرَفُ هذه المرحلة عادة بدور المراهقة أو مرحلة الشباب اليافع. والتلميذ المراهق، يهدف في الغالب من جرّاء تَبنّيه للغش في الاختبارات لتحقيق رغبة شخصية طارئة لديه، تتمثّل في إثبات ذكائه، أو شطارته على عمل ما يريد، أو برهنة ذاته لدى اقرانه "أو شلته"، أو لتمرير متطلبات المادة نتيجة لظروف استثنائية شخصية أو أُسرية أو اجتماعية عامة حرمته من التعلّم البناء للمادة الدراسية. ويَتّخذّ الغش عموماً خلال هذه المرحلة النزعة الوصولية المؤقتة والمُتحدّية: يغش التلميذ غالباً لتحقيق حاجة مرحلية نفسية أو تحصيلية لديه، دون كون الغش صفة أو عادة متأصلة لديه. والذي قد يحدث خلال هذه الفترة، هو ان تكرار المراهق لاستخدام الغش في الحصول على ما يريد أو يحتاج، ونَجاحهُ في ذلك والتشجيع الساذج لهذا النجاح، مصحوباً بعدم انتباه الأسرة والمدرسة لتصحيحه أو لفت الانتباه لخطورته وسوء عواقبه على شخصية التلميذ ومستقبله، تسمح كلها للغش بالتحوّل تدريجياً من الحالة المغامرة المؤقتة إلى عادة مُتكرّرة لها أهدافها وأسلوبها ونتائجها المنشودة كل مرّة لديه. أي يدخل اليافع المرحلة الثالثة الخَطِرَة لتطوّر الغش وهي غش العادة الناضجة أو الغش المقصود.   ·       مرحلة غش العادة الناضجة (18+ سنة): يصبح الغش لدى الشاب اليافع مع هذا العمر عادة متأصلة هادفة أو متخصّصة، حيث يتعدى استخدامه لها الاختبارات واداء الواجبات المدرسية، لمجالات متعددة أخرى اجتماعية واقتصادية وسياسية وإدارية، ووطنية قومية. وما المنحرفون أو الخارجون عن القانون الذين يظهرون للعيان رسمياً، وغيرهم الكثير الذين يعيثون في حياتنا اليومية فساداً، دون كشفهم أو الانتباه الجاد لخطورة وجودهم، سوى نتاج مباشر للغش الذي نما لديهم خلال المراحل المبكرة من تطوّرهم الشخصي، مُرْفَقاً بدورنا العابر كأولياء أمور ومربّين في تصحيحه والتغلّب عليه في حينه.   المظاهر السلوكية للغش: تتلخص أهم المظاهر السلوكية للغش في الاختبارات وأداء الواجبات المدرسية بالقائمة التالية: ·       نقل التلميذ للواجب اليومي من كراسة قرين له بشكل تلقائي بدون إدراك مواطن الصحة والضعف فيه أو محاولة تعلم ما يجده من مفاهيم ومبادئ وحلول. ·       نسخ التلميذ لإجابة السؤال الاختباري عن ورقة قرين له في الأمام أو الجنب.. ·       سؤال التلميذ لقرين له عن إجابة السؤال وأخذها شفوياً منه.. ·       إعداد التلميذ لإجابات بعض الأسئلة المتوقعة على ورقة صغيرة أو راحة يده أو ساقه أو وجه مقعده أو الحائط الذي بجانبه أو في كراسة يضعها تحت ورقة الإجابة، ثمّ قيامه بنقل الإجابة المطلوبة من المصدر الذي أعدّه. ·       فتح التلميذ للكتاب المقرّر أو المذكرة ونسخ الإجابة حرفياً منهما. ·       نقل التلميذ – في الحالات المتطرفة – للإجابة المطلوبة من مصدر خارج الغرفة الدراسية إما بواسطة قرين له أو بخروج التلميذ نفسه بحجة الحاجة للشرب أو الذهاب إلى الحمام. ·       انجاز التلميذ للواجب بشكل غير كامل كما يحدث في أعمال النسخ في اللغات، حيث يعمد التلميذ إلى كتابة أوّل الموضوع وفقرة من وسطه، ثمّ نهايته تخلصاً منه لكثرته غالباً.   أسباب مباشرة للغش: تبدو أهم الأسباب المباشرة لمشكلة الغش في الاختبارات وأداء الواجبات المدرسية مُتمثلة فيما يلي: ·       تكاسل التلميذ أو تواكله وعدم حافزيته العامة للتحصيل ولبذل الجهود الضرورية لنموه وتقدمه المدرسي. والتلميذ لا يُلامُ كثيراً بهذا الخصوص بقدر ما يلام من حوله من معلمين وأسرة ومجتمع محلي، بسبب ما يُلاحظ أحياناً على سلوكهم من تباطؤ واسترخاء وتهرّب. فالمعلم والإداري والأب والأُم وغيرهم الكثير من حياتنا اليومية الذين يؤيدون واجباتهم بتثاقل مرة، وعدم إكتراث مرات أخرى، لا يدركون في الغالب بأنهم يزرعون في التلميذ أو الطفل مثل هذه الميول. ولماذا يحاول هذا التلميذ نتيجتئذ غير ذلك، مادام النموذج الذي يقتدى به عادة ويَنْسجُ سلوكه وشخصيته على غراره يبدو بالصيغ التي يبدو عليها!؟ ·       عدم صلاحية الاختبارات وعدم هادفيتها التربوية. "فصعوبتها الواضحة أحياناً وعموميتها المتناهية أحياناً أخرى" يُؤدّي بها لما يُعرف عادة باختبارات التعجيز أو الانتقام أو المزاج الشخصي. يضع المعلم الاختبارات الصعبة ليُثبت للتلاميذ تفوّقه الشخصي وقدرته على غربلتهم والتحكم في مصائرهم، فيذعنون أكثر لسلطته ويمتثلون حرفياً لأوامره. وقد يَنْهجُ في مناسبات أخرى الصيغ العامة التي لا تُحدِدُّ مباشرة هوية الإجابة المطلوبة، بحيث مهما كانت نوعية هذه الإجابة أو كفايتها، فإنّ العلامة المستحقة لها تبقى بيد المعلم ليضعها حسب مزاجه أو ميوله الشخصية نحو التلاميذ... غُبْنٌ تربوي أعمى ما بعده غبن، وقتل فاضح لقيم التلميذ الغضّة والمواصفات الإنسانية السويّة النامية لديه! وفي أحوال ثالثة، يعود الخلل الذي يعتري اختبارات التحصيل لصعوبتها أو عدم وضوح المطلوب فيها، أو سلبية إدارتها أو تصحيحها أو تفسير نتائجها، لعدم كفاية المعلم التربوية التقييمية. في مثل هذه الحالات جميعاً، يميل التلاميذ الذين يَتوفّر لديهم استعداد مسبق للغش إلى الحصول على الإجابات المطلوبة به، حيث يعتبر النجاح بالغش لدى هؤلاء أفضل من لا شيء... من الرسوب أو عدم النجاح. ·       عدم دراسة التلميذ أو قراءته لمادة الاختبار كلياً أو جزئياً نتيجة لظروف أسرية، كما هي الحال في الزيارالت المتكررة، أو امتلاك الأسرة لأعمال تجارية أو زراعية أو صناعية حيث تفرض على التلميذ إشغال قسم كبير من وقته فيها، أو انفصال الوالدين نتيجة هجر أو زواج ثان أو طلاق، مما يقتضى منه استهلاك جزء من وقته في تدبير شؤون منزلية، أو الاعتناء بأخوته ورعايتهم. ·       انشغال التلميذ بمشكلة عاطفية (وخاصة في المرحلة الإعدادية وما بعدها) حيث تأخذ منه جل وقته واهتمامه، حارمة إياه من قراءة المادة والتحضير للاختبار أو القيام بالواجب المدرسي المطلوب. ·       ضغط الأسرة أو المعلم على التلميذ لمزيد من التحصيل دون مراعاة لقدرته الذاتية في هذا المجال. ·       تأثّر التلميذ بأحد أفراد أُسرته أو أقرانه، وتَبّنيه لعادة الغش دون إدراك أو وَعي ذاتي منه لمخاطرها ونتائجها السلبية على شخصيته بوجه عام. ·       صعوبة المادة الدراسية جزئياً أو كلياً. ·       تَحدّى سلطة المعلم أو تعليماته نتيجة لنوع معاملته أو صفة غير مستحبة فيه من قبل التلميذ. ·       تعدد متطلبات المادة، أو المواد الدراسية مجتمعة، مما يشجع التلميذ على اللجوء إلى أساليب غير تربوية لإنجازها كالنقل الحرفي لبعضها من كراسة أحد أقرانه أو التلاعب في انجازها كما هي الحال في اعمال النسخ لمواضيع المطالعة في اللغات، أو أيّة واجبات أخرى تتصّف بالروتينية في التنفيذ من قبل التلميذ، والتصحيح والتوجيه من قبل المعلم ذاته. ·       عدم قدرة التلميذ على تنظيم وقته واستعماله بشكل مفيد وبناء.   حلول علاجية مقترحة للتغلب على الغش: لا نعتقد – في الأحوال العادية للتربية – بوجود تلاميذ متفوقين أو عاديين في تحصيلهم، يَتّخذون من الغش وسيلة لنجاحهم أو تقدمهم المدرسي. ونرى بالمقابل بأن مجمل الذين يميلون لذلك أو يقومون به يَتركّزون في الغالب بمُتدني أو ضعفاء التحصيل الذين لا تتعدى نسبتهم عموماً الربع الأخير من مجموع أيّ فصل. ومن هنا نفترض بأنّ التغلّب على ضعف أو تدنّي التحصيل، سيؤدي للقضاء على أسباب الغش فياختباراته وواجباته، والتخلص بالتالي من الغش نفسه، حيث نقترح لهذه الاجراءات التالية: ·       تنظيم دورات تدريبية مكثفة وورش عمل تقييمية لمن يحتاج من المعلمين، بإدارة أفراد مختصين مؤهلين من إدارات التعليم المركزية أو كليات ومعاهد التربية. تتراوح هذه الدورات أو الورش بين يومين وخمسة أيام، وتهدف بالدرجة الأولى لتطوير ميول ومهارات التقييم المتنوعة لدى المشتركين فيها بما يُفيد تعلم التلاميذ ويوجه تحصيلهم المدرسي. ·       استطلاع عام في أوّل السنة الدراسية ومُنتصفها لافراد التلاميذ حول مواطن الصعوبة التي تواجههم في تعلّم المادة الدراسية، سواء كانت هذه الصعوبات تخص المعلم أو المنهج أو الاقران أو الإدارة المدرسية أو الغرفة الدراسية أو البيئة المدرسية أو الأسرة أو البيئة المحلية. ثمّ تحليلها وتحديد معوّقات التعلم لدى كل تلميذ ومعالجتها نفسياً وتربوياً حسب طبيعة هذه المعوّقات. ·       وبينما يمكن التغلب على كثير من معوقات التعلم مباشرة من المعلم، فإنّ بعضاً منها فقط قد يحتاج لتدخّل الإدارة المدرسية أو المشرف الاجتماعي/ النفسي. ان أمثلة للإجراءات التي يمكن اعتمادها في هذا المجال تتجسّد في الحلول المقترحة التالية: ·       تجنّب "العقوبات الصارمة" والضرب والوعيد والتهديد للتغلب على مواطن الضعف في التحصيل المدرسي، وما يُثيره من رغبة للغش في اختباراته وأداء واجباته. انّ العقاب عموماً لا يعالج السلوك عادة، بل يؤدي إلى كَبْتهِ أو إخفائه مُؤقتاً حيث يظهر مرة أخرى حال زوال الضغط أو التهديد الخارجي عن التلميذ. ·       تعليم التلاميذ للمبادئ والمفاهيم الأساسية المتعلقة بمواطن ضعف التحصيل لديهم. فإذا كان قصور التلميذ يَتركّز على سبيل المثال في القسمة، فلا سبيل لنا للتغلب على هذا إلّا بتعليمه عمليات أساسية سابقة لمهارة القسمة الرياضية، كالجمع والطرح والضرب. ونؤكد هنا بأنّ التربية المدرسية تتكون من سلسلة متدرجة من المعارف والمفاهيم والمهارات، تبدأ بسيطة محدودة في التربية الإبتدائية وتنتهي مركبة متخصّصة في الثانوية والجامعية. فكل نوع من المعارف والمفاهيم والمهارات يجسّد في الواقع مُتَطلّباً سابقاً لقريناته اللاحقة. وبهذا، إذا أمكننا التأكد أوّلاً من تحصيل افراد التلاميذ للمتطلبات السابقة للمادة الدراسية أو المهمة التربوية التي نقوم بتعليمها لهم، عندئذ يستطيع معظم هؤلاء في الظروف العادية للتربية والحياة الاجتماعية تعلّم المطلوب بقليل جدّاً من التعثّر أو الصعوبة. ·       تطوير الخرائط التربوية لأساليب الادراك الخاصة بالمعلمين والتلاميذ والمناهج التعليمية: ان تحديد وسائل الإدراك ومُقرّراته الاجتماعية وصيغ معالجة المعلومات التي يتصفون بها، ثمّ مطابقة الأساليب الإدراكية لهذه العوامل الرئيسية الثلاثة معاً، سوف لا يؤدي بنا للتغلب على الغش، بل يُمكّننا من ترشيد كافة مظاهر وعوامل التربية المدرسية، مؤدياً – كما تفيد الدراسات والتطبيقات الميدانية لهذا المفهوم العلمي إلى 90% من التلاميذ لتحصيل 90% من المادة الدراسية بتقارير نوعية تتراوح بين أ – ب. ولا نتمكّن طبيعة الحال من تطبيق هذا الاجراء وتعميمه في يوم وليلة (كما يُقال)، ولكننا نستطيع البدء بالدراسات التجريبية له في مدرسة أو اثنتين من كل منطقة تعليمية، ثمّ نشره تدريجياً في المدارس الأخرى حسب طلبها أو رغبتها. ·       الميل للإيجاز في المتطلبات الكتابية أو الدراسية للواجبات والاختبارات. انّ الصفحات الكثيرة والتفاصيل المتناهية لا تستجيب لرغبات التلاميذ ومشاغلهم (أو مشاكلهم) الخاصة هذه الأيّام، كالفيديو والرحلات والسفر والسيارة والكرة والنوادي وسهرات أو جلسات الشلل والهوايات الخاصة الأخرى البناءة (أو السلبية)، التي تتوفر لدى العديد منهم وتأخذ قسطاً كبيراً من تركيزهم وانتباههم وتغلب على أفضلياتهم واهتماماتهم الشخصية. وعليه، نرى بأنّ الإيجاز التربوي أصبح ضرورة ملحة لسببين رئيسيين: الأوّل: يفرضه روح العصر، حيث نعيش ما يُعرف بعصر السرعة... "عصر الساندويتش" في معظم مظاهرنا الحياتية... فلماذا التطويل الزائد إذن في متطلبات تربيتنا المدرسية؟ للحشو.. هذا لا يفيد! للتعجيز وهذا بطبيعته غير إنساني وغير عادل! لاشغال الوقت... وهذا بدوره لا يؤدي في الغالب للمطلوب، لأنّ التلاميذ باهتماماتهم ومشاغلهم الخاصة غير مستعدين للتخلي عما يريدون، خاصة إذا أدركوا مدى الروتين وعدم الفائدة الكبيرة التي تسود تعلّمهم. والثاني: تَنصّ عليه نتائج الدراسات التربوية الحديثة، ويتمثل في تدريس المفاهيم والمبادئ والقواعد العامة التي تخصّ المادة الدراسية، دون هوامشها وتفاصيلها، ثمّ توفير الفرص التربوية المدرسية وغير المدرسية المناسبة لممارستها وتعميمها. ثمّ ماذا يبقى لافراد التلاميذ إذا فسّرنا لهم وعلّمناهم تفاصيل كل شيء... لا شيء يذكر، سوى تحوّلهم لنسخ كربونية أو مرايا عاكسة لما نقول ونفكّر ونسلك... الأمر الذي يُدركه كثير من التلاميذ الآن، فيتمرّدون علينا برفض التعلم والنمو الذي نريده لهم، مُتحدّين سلطاتنا التربوية عادة بالغش في تنفيذهم للمطلوب. لقد حان الوقت لتحديد المبادئ والعموميات في موادنا وخبراتنا المدرسية، والعمل على تدريسها للتلاميذ بصيغ وأساليب مناسبة لإدراكهم ولغتهم، ثمّ تركهم يقومون بتفسيرها وتوضيحها والتعبير عنها بطرقهم الخاصة وحسب تصوراتهم الإدراكية الذاتية. انّ هذا النوع من التعلم هو أعمق أثراً في شخصياتهم وحياتهم، وأكثر تذكّراً واستخداماً لديهم من نظيره القائم على الاملاء والتفصل المتناهي الرتيب. ·       تنسيق المعلمين فيما بينهم يومياً أو أسبوعياً على الأكثر، بخصوص ما يُكلِّفون به التلاميذ من واجبات واختبارات. أن إعطاء كل المعلميمن في آن واحد لواجبات متعددة أو اختبارات تَخصّ موادهم الدراسية، سوف يؤدي في غمرة ضعف التلاميذ أو عدم قدرتهم على تنظيم أوقاتهم – لإهمال القيام بها كلياً أو جزئياً، أو إلى اللجوء للغش في أدائها. انّ التنسيق التربوي البنّاء كماً وكيفاً ونوعاً بين المعلمين لمتطلبات موادهم الدراسية، سيُحفِّزُ في التلاميذ الرغبة على التركيز، ويشجع فيهم عموماً الأداء الأمين الجادّ لواجباتهم. ·       توفير الوقت الكافي لتعلم أفراد التلاميذ لمتطلبات المادة الدراسية. فالحصة الواحدة المُخصّصة رسمياً لذلك، لا تكفي في العادة لتعلم ميع تلاميذ الفصل للمطلوب، حارمة بعضهم من استيعابه أو فهمه جزئياً أو كلياً. يؤدي هذا الأمر – إذا لم نتداركه في حينه – لشعور هؤلاء بعدم كفاية تعلّمهم، وعدم قدرتهم بالتالي على أداء الاختبارات أو الواجبات المدرسية الأخرى، مما يُحفّز لديهم – كطريقة سهلة للنجاح وتمرير المادة الدراسية – الغش أو النقل. إنّ الأسرة التي تُنفق قسماً من وقتها في زيارات لا تسمن ولا تغنى من جوع، أو في مشاهدة فيلم للفيديو لعدة ساعات، يجب أن تكون قادرة بالمقابل على توفير الوقت المناسب لتعلم أبنائها ونموهم... سيما وان هؤلاء هُمُ الامتداد البشري الوحيد لوجودها وهويّتها الإنسانية، والطاقات المقبلة المعطاءة التي ستَخْلُفُها في تغذية حاجات المجتمع الواسع في البقاء والتقدم. ·       التعرّف على ظروف التلاميذ الأسرية والشخصية، وتحديد المشاكل الرئيسية التي تأخذ منهم جل وقتهم وإهتمامهم، ثمّ الاستجابة لها إنسانياً وتربوياً بما يتفق مع ميولهم وقدراتهم الفردية ومتطلبات النجاح المدرسي في الوقت ذاته. ·       التعرّف على أسباب أو مواطن عدم ميل التلاميذ للمعلم، ثمّ التحقّق من صحة مشاعرهم هذه، وإقناع المعلم بعدئذ باجراء التغييرات المطلوبة على سلوكه، أو تدريبه وتغييره المباشر لصالح التربية المدرسية. ·       تكوين عادات تنظيم الوقت لدى التلاميذ، إذا كانت سبباً في عدم قيامهم بواجباتهم أو دراستهم في الوقت المناسب، مؤدياً بهم إلى الغش بالنقل عن أقران لهم أو الاعتماد على الغير في إجابتهم عن أسئلة الاختبار. ·       مُتابعة الأسرة لأبنائها مدرسياً. فهناك الكثير من الأسر لا تعرف الفصل أو المدرسة التي يتعلم فيها أبناؤها. انّ هذا التسيّب في التوجيه، وعدم الاهتمام بما يقوم به التلاميذ وما يواجهونه من مصاعب نجاحات، يشجع فيهم اليأس وخيبة الأمل والشعور بالعزلة، ويسهل لديهم تَبنّي أي سلوك قد يساعدهم على تحقيق ما يحتاجون. ان ساعة أو اثنتين شهرياً يقضيها الأب أو الأُم في زيارة المدرسة، أو الاتصال الهاتفي بها – بالإضافة لمتابعتهما الأسرية، ستكون كفيلة بإبقاء قنوات الاتصال المدرسي – الأسري مفتوحة، فعّالة وفَوْرية في معالجة الكثير من مشاكلنا التربوية كالغش والتسرّب وضعف التحصيل. ·       رفع الضغط النفسي وغير النفسي عن افراد التلاميذ لمزيد من التحصيل، وعدم مطالبة الأسرة أو المعلم أيّ تلميذ لإنجاز ما لا يستطيع أصلاً أو يُمثّل خلف قدرته أو طاقته الإدراكية والتحصيلية. وإذا كان لابدّ من زيادة تحصيل التلميذ فيجب توجيهه لأنشطة إضافية متدرجة في صعوبتها وتتفق بشكل أساسي مع قدرته الحاضرة، ثمّ تقوية هذه القدرة مرحلة بعد أخرى حتى يصل التلميذ ذاتياً إلى المستوى التحصيلي المطلوب. ·       التعليم الخاصة للتلاميذ من قبل الأسرة مباشرة بالاستعانة بمعلم مؤهل لذلك. ·       التعليم الخاص للتلاميذ من قبل المدرسة، بتخصيص فترات مسائية لمن يرغب أو يحتاج ذلك، على أن تختلف عوامل وأنواع التدريس خلالها عن نظيراتها في التربية الصباحية الرسمية. ·       إنشاء أكاديميات الشارع أو ما نسمّيه "بالكافتيريات" الأكاديمية. يمكن أن تتنوّع هذه الأكاديميات في تخصصاتها الدراسية وعددها بقدر تعدّد مدارس المدينة أو المنطقة وتنوّعها. وعلى العموم، نستطيع خلال فترة تتراوح بين أسبوع وشهر واحد وبتكاليف محدودة نسبياً تأسيس هذه الأكاديميات وتخطيط أهدافها وبرامجها وانشطتها التربوية واختيار عامليها، بصيغ تكفل معها إغناء التعلم لدى بعض التلاميذ، والتغلّب على مواطن الضعف لدى البعض الآخر، مؤدياً هذا لارتفاع قدراتهم التحصيلية وتحسين مفهوم الذات لديهم، والقاء بالتالي على عادات تربوية سيئة كالغش والتهرب واللامبالاة بالتربية المدرسية. ·       إنشاء خدمة هاتفية مدرسية، عمّالها هم معلمون مختصون مؤهلون يقومون خلال فترات محدّدة وحسب خطط موضوعة بالإجابة على أسئلة واستفسارات التلاميذ، بما يخدم تعلمهم وقيامهم البناء بواجباتهم الدراسية، بما في ذلك الاستعداد للاختبارات والأداء الناجح لمتطلباتها. الأمر الذي يصبح معه الغش أو النقل سلوكاً غير ضروري لدى الكثير من التلاميذ. يُمكننا خلال أسبوع واحد وبقليل جدّاً من التكاليف تأسيس هذا الإجراء التربوي في مدرسة أو أكثر بالمنطقة التعليمية، وتخطيط البرامج والعمليات والأحكام التنظيمية التي تجعل منه أداة فعّالة في تحقيق الأهداف المدرسية والتغلّب على كثير من مشاكلها بما في ذلك الغش وضعف التحصيل. ·       إنشاء خدمة هاتفية عامة، مُتخصّصة بالمشاكل والقضايا المدرسية. حيث يبادر افراد التلاميذ أو أولياء أمورهم بالاتصال بها في أي وقت وعرض المشكلة التي يواجهونها، حيث يقوم جهاز كمبيوتر بايصال الرسالة واختيار الإجابة المناسبة للمشكلة التي استقبله. يتطلب تأسيس الخدمة الهاتفية الحالية دراسات علمية جادة ومطوّلة وخبرات متخصصة متنوعة، بقدر تنوّع المشاكل والقضايا التي ستجري معالجتها والتسجيل السمعي لحلولها – إذا أريد بالطبع تحقيق الرسالة التربوية والإنسانية المرجوة من هذه الخدمة. ·       إنشاء محلات تجارية مُتخصّصة بالمواد والتسجيلات التربوية المرئية/ السمعية، تجيزها وتشرف على انتاجها الجهات التعليمية الرسمية كإدارات التعليم أو وزارة المعارف. وإذا كنا في المجتمع بحاجة للأعداد الكبيرة من الأسواق والمحلات التجارية المتنوعة ومستودعات الفيديو والتسجيلات السمعية الترفيهية المنتشرة في كل زاوية من أحيائنا، ولا نعرف في كثير من الأحيان جهة إنتاجها ولا الأغراض التي ترمي لتحقيقها...! فإنّه من الأولى بنا المبادرة بتأسيس محلات تربوية متخصصة هدفها الأساسي غذاء العقل، فيستطيع التلاميذ أو أولياء أمورهم الذهاب إليها واختيار ما يحتاجونه لتعلّمهم ونموهم. الأمر الذي يحفّز لدى الكثير منهم – نتيجة توفير حرية الاختيار وفرص المبادرة الذاتية – لأن يدرسوا وينموا، فينمو المجتمع بمجمله مع نموهم وتقدمهم. والأمر الذي نود تأكيد في ختام حديثنا عن الغش، هو أنّه عادة مكتسبة، لها مُنبّهاتها وسلوكها وعلاجها... وبالرغم من كونه ظاهرة ملاحظة هذه الأيام في حياتنا المدرسية، إلا أنّ التغلّب عليه ليس مستحيلاً... وكل ما يستدعيه هو أن نتحوّل من الشفوية حول ما أُلْنا إليه من آثاره ومضاعفاته، إلى العمل الجاد الهادف، والدراسة العلمية لأسبابه ومظاهره، ومن ثمّ تشريع الحلول التربوية الناجعة لمشكلته.►

 

*كاتب من أبها – المملكة العربية السعودية

 المصدر: مجلة الباحث/ العدد 40

ارسال التعليق

Top