• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الغرور والعنف في مرحلة الشباب

الغرور والعنف في مرحلة الشباب
   هل ينتج العنف عن كره الذات أم عن حبها؟ منذ عدة سنوات أخبرني أحد المستشارين المتخصصين بالشباب عن المعضلة التي كان يواجهها أثناء تعامله مع ذوي السلوك العنيف؛ وهي ببساطة أن انطباعاته المباشرة لم تتطابق مع ما تعلّمه خلال الدراسة. لقد لاحظ أن هؤلاء الشباب هم من سيطرت عليهم الأنا Egotists ويتمتعون بحسٍّ مبالغ به من التفوق الشخصي والتسلُّط، على عكس ما لقَنته إياه كتب الدراسة من أنهم يعانون من الافتقار لحب الذات Low Self – Esteem ولكنه، على الرغم من ذلك، قرر بالتعاون مع مساعديه عدم تحدي ما توصلت إليه الأبحاث عبر عقود من الزمن، ولذلك حاولوا فعل ما بوسعهم من أجل تحسين نظرة هؤلاء الشباب تجاه أنفسهم، حتى ولو لم يؤدِّ ذلك إلى انخفاض ملحوظ في توجهاتهم العدوانية. إنّ وجهة النظر القائلة إنّ السلوك العدواني ينشأ من الافتقار لحب الذات تُعتبر من المسلّمات البديهية منذ زمن طويل. لقد تم إقناع المستشارين والاختصاصيين الاجتماعيين والمدرسين في جميع أرجاء البلاد بأن تعزيز حب الذات عند الشباب هو الوسيلة الرئيسية لكبح جماح السلوك العدواني لديهم ولتشجيعهم على أن يكونوا ناجحين اجتماعياً ودراسياً، هناك مدارس كثيرة تحث الطلاب على سرد الأسباب الكامنة وراء كونهم أناساً رائعين، كما أنّ هناك العديد من أولياء الأمور والمدرسين الذين يخشون توجيه الانتقاد للصغار خشية أن يسبب ذلك أذى نفسياً خطيراً من شأنه أن يحول الطفل الواعد إلى سفاح خطير أو إلى فاشل مثير للشفقة، ففي المسابقات الرياضية يحصل الجميع (أي الفائز والخاسر) على الجوائز. في الحقيقة لقد شكَّلك العديد من الناس في أن تكون هذه التمارين الهادفة لتحسين الشعور هي الطريق الأمثل لبناء حب الذات، لكن ما الفرضية الأساسية التي تقوم عليها هذه النظرية؟ عندما بدأنا (أنا وزملائي) بالنظر إلى هذه المسألة في أوائل التسعينيات وجدنا سلسلة من المقالات التي تورد المقولة الشائعة إنّ الإفتقار لحب الذات يؤدي إلى العنف، لكننا عجزنا عن إيجاد أي كتاب أو حتى بحث يقدم عرضاً شكلياً لتلك النظرية، أو يدعمها بأدلة من أرض الواقع، إذ كان الجميع يعرفها، إنما من دون أن يقوم أحد بإثباتها. لسوء حظ مؤيدي نظرية الافتقار لحب الذات فقد كوّن الباحثون تدريجياً صورة مركبة عن معنى أن يعاني الإنسان من افتقار لحب الذات، حيث لا تتفق هذه الصورة تماماً مع ما نعرفه عن أصحاب السلوك العدواني، فالذين يمتلكون صورة سلبية عن أنفسهم يكونون عادة ممن يتخبطون في حياتهم ويحاولون تجنب المواقف المحرجة ولا يوحدون بأنهم في حاجة ماسة لإثبات تفوقهم. ينطوي السلوك العدواني على خطورة؛ بينما يميل الذين يعانون من افتقار لحب الذات إلى تجنب المخاطر، وعندما يفشلون يضعون اللوم على أنفسهم عادة، وليس على الآخرين. تأثير حاسم على تفكيرنا هو حب الذات الذي يصل إلى حد الغطرسة عند بعض الشخصيات التي اشتهرت بالعنف. في نهاية المطاف قمنا بصياغة فرضيتنا ضمن إطار التشبث بالأنا المهددة Egotism Threatened. ليس جميع الناس، الذين ينظرون إلى أنفسهم بشكل إيجابي، ميالين للعنف، إذ لابدّ من أن توضع تلك النظرة الإيجابية أمام تهديد خارجي، أي لابدّ من أن يقوم أحدهم بالتشكيك بها وزعزتها وتقويضها. يحب الناس أن ينظروا إلى أنفسهم بشكل إيجابي، ولذلك فهم لا يحبذون إجراء أي مراجعات تؤدي إلى التقليل من حبهم لذاتهم، بل يفضل العديد من الأشخاص – الذين يعانون من الحب المفرط للذات بأشكاله المتضخمة والواهنة وغير المستقرة – قتل كل من يقترح إجراء مثل هذه المراجعات.   - الغرور يسبق السقوط: سيكون من الحماقة الجزم بأنّ السلوك العدواني دائماً ينشأ عن التشبث بالأنا المهدد أو أنّ هذا الأخير دائماً يؤدي إلى السلوك العدواني، فالسلوك الإنساني تلعب به وتبلوره عوامل مختلفة. هناك العديد من المظاهر العدوانية التي لا تمت إلا بصلة ضئيلة – هذا إن كان لها أيّة صلة – بالطريقة التي يقيّم بها الناس أنفسهم. لكن إذا ثبتت صحة فرضيتنا فإن حب الذات المتضخم يزيد إلى حد كبير من احتمالات السلوك العدواني. إننا نعتقد أنّ التشبث بالأنا المهددة يلعب دوراً جوهرياً بالنسبة لتلك الأعمال العدوانية التي تحدث نتيجة لحب الذات لدى مرتكبيها. من الواضح أنّه قد تنطوي هذه النظرية الجديدة على مضامين تصلح من أجل تطوير أساليب فعالة لتخفيض مستوى العنف. إذن كيف لعالم النفس الاجتماعي أن يحدد ما الذي يقود إلى العنف – أهي كثرة حب الذات أم قلته؟ نتيجة لعدم وجود طريقة عامة مثلى لفهم الأسئلة المعقدة عن البشر يقوم علماء الاجتماعي بإجراء دراسات متنوعة باتباع طرق مختلفة، لأنّ الدراسة المنفردة يمكن تنفيذها، خاصة في حال وجود آراء متعارضة، لكن عند انبثاق نموذج متماسك يصبح صعباً تجاهل النتائج التي يتم التوصل إليها. يقيس الباحثون حب الذات بطرح سلسلة من الأسئلة موحدة المعايير مثل "إلى أي حد أنت ناجح في التعايش مع الآخرين؟" و"هل أنت ناجحٌ بشكل عام في عملك أو دراستك؟"، ويختار الشخص إجابة من بين سلسلة إجابات، وتكون النتيجة الكلية إما إيجابية أو سلبية أو بين هذا وذاك حسب مقياس السلسلة المتصلة Continuum. وعلى نحو أدق إنّه لأمر مضلل الحديث عن "أناس يتميزون بحب مفرط للذات" كما لو أنهم كانوا فئة مستقلة، لكنني أستعمل هذه العبارة للإشارة بشكل عام إلى أولئك الذين تكون نتيجتهم فوق المتوسط حسب مقياس حب الذات. إنّ التحليلات الإحصائية تأخذ بعين الاعتبار مقياس السلسلة المتصلة. هناك انطباع لدى العديد من الناس العاديين أن حب الذات شديد التقلب، لكن هذه النتائج الإحصائية هي في الحقيقة ثابتة تماماً. عادة تكون التغيرات اليومية صغيرة؛ وحتى في أعقاب صدمة قوية أو نجاح مفاجئ فإن معدل حب الذات لدى أي شخص يعود إلى وضعه السابق خلال وقت قصير نسبياً، أو التغيرات الكبرى فإنها غالباً ما تحدث عقب فترات الانتقال الرئيسية في حياة المرء، مثلما يحدث للرياضي في المرحلة الثانوية عندما ينتقل إلى الجامعة فيجد أنّ المنافسة أصعب بكثير. والسلوك العدواني أشد تقلباً من حب الذات، لكن إحدى الطرق المتبعة لتحديد مقداره هي بسؤال الناس بكل بساطة عما إذا كنوا ميالين للمشاجرات وثورات الغضب. بعد ذلك يمكن مقارنة تصريح الناس عن ميولهم بالنتائج الإحصائية لاختبار حب الذات. توصلت معظم الأبحاث إلى أنّ الصلة بين هذين الأمرين ضعيفة أو غير جديرة بالاهتمام، على الرغم من وجود حالة استثنائية مهمة في هذا المجال، وهي العمل الذي قام به في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي مايكل هـ. كيرينس من جامعة جورجيا مع مجموعة من زملائه. لقد ميزوا بين حب الذات المستقر وغير المستقر من خلال دراسة التقلبات التي تظهر عند الشخص بعد قياس درجة حب الذات لديه في مناسبات مختلفة. كانت النسبة الأكبر من العدوانية هي تلك التي تم التصريح عنها من قبل الناس الذين يتميزون بنوع من حب الذات المفرط إنما غير المستقر، بينما الأشخاص الذين يتميزون بنوع مفرط ومستقر من حب الذات كانوا الأقل عدوانية، أما أولئك الذين لديهم افتقار لحب الذات (سواء كان مستقرا أو غير مستقر) فكانوا في الوسط.   - الكحول وفقدان التوازن: هناك طريقة أخرى وهي المقارنة بين فئات واسعة من الناس. إنّ حب الذات عند الرجال بشكل عام أعلى منه عند النساء، كما أنهم أكثر عدوانية منهنّ. أما درجة حب الذات والعنف عن المصابين بالاكتئاب هي أقل منها عند غير المصابين بالاكتئاب. وهناك أيضاً فئة المضطربين عقلياً الذين يتميزون بميلهم البارز نحو السلوك العدواني والإجرامي، وبإعجابهم الشديد بأنفسهم. إنّ الدلائل المتوافرة حول التصورات الذاتية لفئة معينة من مرتكبي جرائم القتل والاغتصاب وبعض الجرائم الأخرى هي أقرب إلى السرد القصصي منها إلى التصنيف المنهجي، لكنها تتميز بنمط واضح. غالباً ما يصف مرتكبوا الجرائم العنيفة أنفسهم بأنهم متفوقون على الآخرين، وأنهم من فئة منتقاة وخاصة ويستحقون معاملة مميزة. كما ترتكب العديد من الاعتداءات وجرائم القتل كرد على ما يتلقاه حب الذات من صفعات مثل توجيه الإهانات والتحقير والإذلال. (مما لا شك فيه أن بعض مرتكبي هذه الجرائم هم ممن يعيشون في أوساط يكون الاحترام والتقدير فيها مرتبطين بمكانة المرء ضمن التراتبية الاجتماعية، وأن إذلال أي شخص من هذه الفئة قد تترتب عليه نتائج حقيقية بل وربما لا تحمد عقباها). انبثقت النتيجة نفسها عن الدراسات التي أُجريت على فئات أخرى من ذوي السلوك العنيف. لقد تبين أن أفراد عصابات الشوارع ينظرون إلى أنفسهم نظرة إيجابية وأن أي زعزعة لهذه النظرة ستجعلهم يتحولون إلى أناس عنيفين. يعتبر الأطفال المتسلطون في الملعب أنفسهم بأنهم متفوقون على الأطفال الآخرين، كما أنّ الافتقار لحب الذات موجود لدى ضحايا المتسلطين، إنما ليس لدى المتسلطين أنفسهم. بشكل عام تمتلك الفئات التي تنتهج العنف أنظمة اعتقاد صريحة تؤكد على تفوقها على الفئات الأخرى، وتُعتبر الحرب أكثر حدوثا بين الأُمم المتكبرة التي تشعر أنها لا تحظى بالاحترام الذي تستحق، كما يبين دانييل شيروت ذلك في كتابه الرائع "الغاة العصريون Modern Tyrants". هناك فئة أخرى وهي فئة مدمني الكحول، من المعروف أنّ الكحول يلعب دوراً في نسبة لا بأس بها من جرائم العنف إن لم يكن في أغلبها. فالمشروبات الروحية تجعل الناس أكثر انفعالاً في تجاوبهم مع الاستفزازات. صحيح أنّ الأبحاث التي درست العلاقة بين معاقرة الخمر وحب الذات هي أقل مقارنة بالفئات الأخرى، إلا أنّ النتائج التي تم التوصل إليها تتطابق مع نمط نظرية التشبث بالأنا المهددة: فتعاطي الكحول يعزز من نظرة الناس الإيجابية لأنفسهم. طبعا إنّ الآثار التي يخلفها الكحول لا تعد ولا تحصى، مثل إضعاف قدرة المرء على ضبط النفس، كما أنّه من الصعب معرفة أي العوامل له الدور الأكبر في حوادث العنف الناتجة عن تناول المشروبات الكحولية. هناك أيضاً السلوك العدواني تجاه الذات. يبدو أنّ التشبث بالأنا المهددة هو أحد العوامل التي تلعب دوراً في العديد من حالات الانتحار. من الأمثلة على ذلك انتحار الشخص الناجح والغني عندما يواجه الإفلاس والعار والفضيحة، والسبب في ذلك هو عجزه عن الاحتفاظ بالصورة القديمة والساحرة عن الذات، وعدم قدرته على تقبل الهوية الجديدة الأقل جاذبية.   - لا يجوز الحديث عن الغرور فقط: إذا نظرنا إلى مجموع النتائج التي تم التوصل إليها فإننا سنستنتج أن نظرية الافتقار لحب الذات هي نظرية خاطئة. لكن أياً من هذه النتائج لم يأت عن طريق ما يعتبره اختصاصيو علم النفس الاجتماعي النوع الأكثر إقناعاً من الأدلة أي: التجارب المخبرية المضبوطة. عندما قمنا بإجراء مراجعة أولية للأبحاث والدراسات التي أُجريت في هذا المجال، لم نعثر على أيّة دراسة تسبر عمق العلاقة بين حب الذات والسلوك العدواني، فكانت خطوتنا التالية هي إجراء دراسات من هذا القبيل، وأول من اتخذ المبادرة هو براد. ج. بوشمان، الموجود حالياً بجامعة ميشيغان في مدينة آن آربر. كان التحدي الأوّل هو الحصول على معطيات موثوقة عن التصورات الذاتية للمشتركين. قمنا باستخدام مقياسين مختلفين لحب الذات، بحيث إذا عجزنا عن التوصل إلى أي شيء، تبقى لدينا الثقة بأنّ المقياس المستخدم لم يتدخل في تحديد النتيجة، لكننا كنا نشك في جدوى دراسة حب الذات وحده. لقد أوحت فرضية التشبث بالأنا المهددة بأنّ السلوك العدواني لم يحدث إلا عند فئة معينة من الناس الذين لديهم حب مفرط للذات، فقمنا بإجراء التجارب بحثاً عن النرجسية Narcissism على أمل التعرف على هذه الفئة المعينة. إنّ النرجسية مرض عقلي يتسم صاحبه بحب تضخيم أو تعظيم النظرة إلى الذات وبالبحث عن الإعجاب المفرط وبحب التسلط المبالغ به أو اللاعقلاني وبالافتقار للتعاطف وبالموقف التسغلالي تجاه الآخرين وبالميل لحسد الآخرين والرغبة بأن يُحسد من قبل الآخرين وبكثرة أوهام العظمة وبالغطرسة. لقد قام روبرت راسكين من معهد تولسا للعلوم السلوكية في أوكلاهوما مع مجموعة من زملائه بتوسيع مفهوم النرجسية ليخرج به عن كونه مجرد مرض عقلي، فقام بإنشاء ميزان لقياس الميول النرجسية. قمنا بإدراج هذا المقياس إلى جانب موازين حب الذات، لأن هاتين الحالتين (أي النرجسية وحب الذات) غير متشابهتين تماماً، على الرغم من وجود علاقة بينهما. إنّ الأشخاص الذين لديهم حب مفرط للذات ليسوا بالضرورة نرجسيين، فهم قد يكونون جيدين في بعض الأمور ويدركون تلك الحقيقة دون أن يصيبهم الغرور أو يعتبروا أنفسهم أناساً متفوقين، إلا أن وجود المعادلة النقيضة – أي نرجسية مفرطة مقابل الافتقار لحب الذات – هو حالة نادرة جدّاً. كانت المشكلة التالية هي في كيفية قياس السلوك العدواني داخل المختبر، ففضل جعل كل اثنين من التطوعين يوجهان موجات من الأصوات العالية إلى بعضهما بعضاً. إنّ الضوضاء شيء بغيض ويرغب الجميع في الابتعاد عنها، ولذلك فهي تصلح لأن تكون نظيرا يقاس به السلوك العدواني الجسدي. تم تقديم الضوضاء على أنها جزء من مسابقة. كان كل مشترك يتنافس مع شخص آخر ضمن اختبار لقياس زمن رد الفعل، والشخص الذي يتبين أن رد فعله أبطأ كان يتلقى موجة من الضوضاء التي يتم تحديد زمنها ومدى قوتها من قبل الخصم. كانت هذه الطريقة مختلفة عن الطريقة المتبعة في الدراسات السابقة، حيث كان الشخص الخاضع للتجربة يلعب دور "المعلم" الذي يحدد حجم الضوضاء أو الصدمة التي يوجهها لـ"المتعلم" كلما ارتكب هذا الأخير خطأ. رأى النقاد أن مثل هذه الطريقة قد تتمخض عنها نتائج غامضة، لأنّ المعلم هنا قد يوجه صدمات من اعتقاده الراسخ بأن هذه هي الطريقة المثلى للتعليم.   - النقد الجارح: كي نتمكن من دراسة الجزء المتعلق بـ"التهديد" من نظرية التشبث بالأنا المهددة، طلبنا من المشتركين أن يكتبوا مقالة قصيرة يعبرون فيها عن رأيهم بالإجهاض. جمعنا المقالات ثمّ أعدنا (أو تظاهرنا بأننا أعدنا) توزيعها كي يتمكن كل متنافسين اثنين من تقييم عمل بعضهما بعضاً، بعد ذلك أعيدت المقالات إلى أصحابها وعليها التعليقات التي كتبها (أو من المفترض أن يكون قد كتبها) الشخص الآخر. في الحقيقة لقد أخذنا المقالات وصنفناها عشوائياً بين جيدة وسيئة. مُنحت المقالات التي حصلت على تقييم جيِّد درجات عالية جدّاً وتعليقاً مكتوباً باليد، "لا اقتراحات، المقالة رائعة! أما المقالات التي حصلت على تقييم سيئ فقد منُحت درجات متدنية بالإضافة إلى التعليق"، "هذه واحدة من أسوأ المقالات التي قرأتها!" وبعد إعادة المقالات مرفقة بالتقييمات إلى أصحابها، أصدرنا تعليمات من أجل اختبار زمن رد الفعل ثمّ بدأ المشتركون بالتنافس. كانت النتائج أكثر تأييداً لنظرية التشبث بالأنا المهددة منها لنظرية الافتقار لحب الذات. كان السلوك العدواني (أي إحداث الضوضاء) في أعلى مستوياته بين النرجسيين الذين تلقوا النقد الجارح، أما اللانرجسيون (سواء ممن لديهم نقص أو إفراط في حب الذات) فقد كانوا أقل عدوانية إلى حد بعيد، تماماً مثلما كان النرجسيون الذين نالوا المديح. في دراسة ثانية قمنا بتكرار هذه الإجراءات وأضفنا لها إجراء جديدا. أُخبر بعض المشتركين بأنهم سيخوضون لعبة زمن رد الفعل ضد شخص جديد – أي شخص آخر غير الشخص الذي امتدحهم أو أهانهم. وكان لدينا فضول لنرى كيف سيكون السلوك العدواني في وضعه الجديد: هل سيقوم الأشخاص الذين أغضبهم التقييم الذي نالوه بالتهجم على أي شخص؟ في الواقع هذا لم يحدث. لقد تهجم النرجسيون على من أهانوهم لكنهم لم يتهجموا على طرف ثالث بريء. تتفق هذه النتيجة مع نسبة كبيرة من الدلائل التي تشير إلى أنّ العنف ضد المحايدين الأبرياء هو مسألة نادرة الحدوث، على الرغم من أنّ الحكمة التقليدية لا تقر بذلك. هناك حادثة معبرة تسلط الضوء على مواقف النرجسيين، وهي عندما قامت إحدى المحطات التلفزيونية بإعداد برنامج خاص عن هذه التجربة، قمنا بإجراء الاختبار على مشتركين جدد أمام عدسات التصوير. سجل أحدهم في اختبار النرجسية 98 في المائة وكان سلوكه عدوانياً جدّاً. بعد ذلك عُرض عليه الفيلم وأعطي فرصة كي يرفض عرضه على الشاشة، فطالب بعرضه – وكان يرى أن أداءه كان رائعاً. أخذه بوشمان جانباً وشرح له بأنه ربما لا يتمنى أن يراه المشاهدون في جميع أرجاء البلاد، وهو يتصرف كنرجسي ذي عدوانية مفرطة. لقد أظهره الفيلم وهو يستعمل لغة تجديفية قاسية أثناء حصوله على تقييمه، بعد ذلك ظهر وهو يضحك أثناء وصوله إلى أعلى المستويات المسموح بها من السلوك العدواني. لكنه واجه هذا الأمر بابتسامة اللامكترث وطالب بعرضه على شاشة التلفاز، وعندما اقترح عليه بوشمان أن تقوم المحطة بتعديل ملامح وجهه رقميا لإخفاء معالم هويته، ردّ عليه بـ"لا" متسائلاً عن السبب، لا بل تمنى على البرنامج أن يعلن عن اسمه ورقم هاتفه أيضاً. هل هناك تطابق بين نتائج أبحاثناً المخبرية وما يجري في العالم الخارجي؟ ليس من السهل إجراء دراسة على مرتكبي جرائم العنف الحقيقيين، لكن تيسر لنا الوصول إلى فئتين من هؤلاء الجناة ضمن السجن وقدمنا لهم استبانات حب الذات والنرجسية. عندما قارنا حب الذات لدى هؤلاء المجرمين مع النماذج المنشورة الخاصة بالبالغين الشباب (ومعظمهم من طلاب الجامعة) والتي تم التوصل إليها بعد إجراء أربع وعشرين دراسة مختلفة حل السجناء تقريباً في الوسط، أمّا بالنسبة للنرجسية فقد سجل السجناء معدلاً أعلى من أي نموذج آخر منشور. تبيّن أنّ النرجسية هي السمة الأساسية التي تميز هؤلاء السجناء عن طلاب الجامعة، فإذا كان السجن يسعى لتخليص الشباب من أوهامهم التي تجعلهم يظنون أنهم هدية إلى هذا العالم، فهو سجنٌ فاشل. بعد أن ذاع صيت النتائج التي توصلنا إليها حول حب الذات والعنف، سارع الآخرون محاولين إيجاد المعطيات التي تساند نظرية الافتقار لحب الذات، وكانتالنتائج التي توصلوا إليها، وهي قليلة جدّاً، مستقاة في معظمها من الاستبانات، وهي في رأيي مصدرٌ غير موثوق. الناس الذين يعانون من الافتقار لحب الذات أكثر استعداداً من غيرهم للاعتراف بارتكابهم أفعالاً سيئة، بما في ذلك السلوك العدواني؛ فالشخص تكون نتيجة اختبار حب الذات لديه متدنية لمجرد قوله أشياء سيئة عن نفسه. على أيّة حال لا تزال المقاييس السلوكية تربط بين السلوك العدواني والنرجسية، وعندما يسجِّل الشخص معدلاً مرتفعاً في اختباري النرجسية وحب الذات فإن هذا ينبئ بأن لديه أعلى مستوى من السلوك العدواني.   - ماذا عن الجوانب المخفية؟ في سياق الرد على هذه النتائج يُطرح سؤال شائع وهو: "ألا يمكن أن يكون إعجاب ذوي السلوك العنيف بأنفسهم أمراً ظاهرياً فقط؟ أي ألا يمكن أن يكونوا في داخلهم يعانون من الافتقار إلى حب الذات، حتى ولو كانوا لا يودون الاعتراف بذلك؟" إنّ مثل هذه الحجة يفتقر إلى المنطق، فنحن نعرف من خلال الأبحاث الكثيرة التي أُجريت أنّ الناس الذين لديهم نقص معلن في حب الذات ليسوا عدوانيين. إذن لماذا لا يؤدي الافتقار لحب الذات إلى السلوك العدواني إلا إذا كان مخفيا. إنّ الفرق الوحيد بين حب الذات المعلن والمخفي يكمن في حقيقة كونه مخفيا، وبهذا فإن سبب العنف لن يكون الافتقار إلى حب الذات وإنما إخفاء هذا الافتقار. إن تلك القشرة الرقيقة من التشبث بالأنا هي التي تقوم بعملية الإخفاء – وهذا عيدنا إلى نظرية التشبث بالأنا المهددة. حاول باحثون كثر إيجاد ما يشير إلى وجود جانب لين لدى ذوي السلوك العنيف لكنهم عجزوا عن ذلك. لقد أمضى مارتن سانشيز جانكوسكي – وهو من جامعة كاليفورنيا في بيركلي – عشر سنوات من حياته مع عصابات متنوعة ومكتب واحدة من أهم الدراسات عن حياة العصابات لدى الشباب، حيث يقول: "تشير بعض الدراسات عن العصابات إلى أن أفراد هذه العصابات يتمتعون بمظهر خارجي صارم إلا أنّ الجانب الداخلي لديهم مضطرب، وهذه ملاحظة غير صائب". كما كرّس دان أولويوس – وهو من جامعة بيرجن في النرويج – حياته لدراسة المتسلَّطين من الأطفال. وهو يتفق مع هذا الرأي فيقول: "بعكس الافتراض الشائع جدّاً بين علماء وأطباء النفس فإننا لن نعثر على أي مؤشرات تدل على أنّ الأولاد المتسلطين والعدوانيين يعانون من القلق أو الاضطراب". يجب عدم المبالغة بهذه المسألة، فعلم النفس لم يمتلك بعد الخبرة الكافية لقياس الجوانب الخفية من الشخصية، بالأخص تلك الجوانب التي قد لا يرغب الشخص في الاعتراف بها حتى لنفسه. لكن لا توجد في الوقت الحاضر أدلة عملية ولا أسباب نظرية تشير إلى وجود جانب مخفي من عدم الثقة بالنفس لدى ذوي السلوك العدواني. على الرغم من أنّ هذه النتيجة تناقض التركيز التقليدي على الافتقار إلى حب الذات، إلا أنها لا تعني بأنّ السلوك العدواني ينشأ مباشرة من النظرة المتضمنة للذات، فالنرجسيون ليسوا أكثر عدوانية من غيرهم إذا لم يكن هناك من يهينهم أو ينتقدهم، لكنهم عندما تُوجَّه إليهم الإهانة – التي ربما تبدو لنا بأنها لا تستحق الرد – فإن رد فعلهم يكون أقرب بكثير إلى العدوانية منه إلى الرد الطبيعي. وهكذا، فإن صيغة التشبث بالأنا المهددة تجمع بين جانب من الشخص وجانب من الموقف، وأياً تكن التفاصيل الخاصة بالسبب والنتيجة، فإن هذه الصيغة هي على ما يبدو أدق صيغة تم التوصل إليها فيما يتعلق بالتنبؤ بالعنف. تثير هذه النماذج شكوكا حول الطريقة التي تسعى بها المدارس والمجموعات الأخرى لتعزيز حب الذات من خلال التمارين الهادفة لتحسين الشعور. إنّ الإعجاب بالذات قد يضع الشخص على أهبة الانفجار، خاصة إذا كان هذا الإعجاب غير مبرر. في رأيي لا توجد مشكلة في مساعدة الطلاب والآخرين على أن يشعروا بالفخر تجاه إنجازاتهم وأعمالهم الجيِّدة التي حققوها، لكن هناك سبب وجيه للقلق حيال تشجيع الناس على أن يفتخروا بأنفسهم دون أن يكونوا قد حققوا أيّة إنجازات. يجب ربط المديح بالأداء (بما في ذلك تحسين هذا الأداء) ولا يجب أن يُكال المديح مجانا كما لو أنّ الشخص له الحق به لمجرد كونه ذلك الشخص. لا يميل الشخص الذي يعاني من الافتقار لحب الذات إلى ردود الأفعال العدوانية. في المقابل على الإنسان أن يحذر من أولئك الأشخاص الذين يتصورون أنهم متفوقون، خاصة إذا كانت تلك التصورات مبالغاً بها، أو ليس لها أساسٌ قويٌ في الواقع، أو أنها تعتمد بشكل كبير على تأكيد الآخرين لها بشكل متواصل. يصبح الأشخاص المغرورون والمعتدون بأنفسهم عدائيين للغاية تجاه كل من تسول له نفسه أن يقوم بثقب فقاعات حب الذات لديهم.   المصدر: مجلة الثقافة العالمية/ العدد 144

ارسال التعليق

Top