• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

دور الأخلاق في عملية التغيير

محسن محمد عطري

دور الأخلاق في عملية التغيير

- استهلال:

إذا كان ثمّة دور لكثير من الأمور في عملية التغيير فإنّ الدور الأساس إنما هو للأخلاق من دون نزاع، وان كان ثمة تراتب في الأهمية للأدوار فإنّ الدور الأهم – أيضاً – إنما هو للأخلاق من دون نزاع، وعندما يكون الأمر كذلك تبدو ميزة أخرى، هي أن كل سبب من أسباب التغيير يقوم في جوهره على القيم الأخلاقية التي تحكم مساره في عملية التغيير. فالحوزات العلمية، والجامعة، والمجتمع، والسياسة، يتضاءل دورها في تغيير الأفراد والأُمم بالقدر الذي تفقده من المرتكزات الأخلاقية في وسائلها وأهدافها. وبهذا يكون هذا الموضوع أساساً لكل ما سبق ذكره من أسباب التغيير، وجامعاً وخلاصة له. إذن، نحن في هذا البحث أمام الإنسان مباشرة، بل نحن في داخل الإنسان نستبطن ذاته لنمسك بجذور التحول الذي نريد أن نضع الإنسان فيه باتجاه الحق والسعادة، أو باتجاه الباطل والشقاء. وبقدر ما ننجح في التنقيب، وبحجم الحصيلة التي نخرج بها، نكون ناجحين في وضع القانون الصالح. ومن هنا نذهب نحن – معشر المؤمنين – إلى القول بضرورة استناد التشريع إلى الله تعالى، لأنّ الإنسان لن يتمكن من معرفة داخله إلا بعد آماد طويلة من البحث العلمي، إن أصاب الواقع. وقبل ذلك سوف يبقى في دوامة من التجارب التي تزيده إرتكاساً وبعداً عن الوصول إلى حياة طيبة. وهذا الأمر يلقي على البحث شوائب تجعله متورطاً في بعض النظريات غير الناضجة عن النفس وعوالمها الغامضة المعقدة، وتفرض عليه الإسترشاد بأداتين يجب حسم حجيتهما في هذه الإطلالة، هما: العقل والشرع.   - التعريف: والأخلاق هي جملة من القواعد التي تهذب السلوك الإنساني باتجاه تنظيم علاقته بالآخرين، والتي تسالم عليها الناس، والتي تقوم على الاختيار والتضحية، والتي منشؤها النفس، وميدانها العلاقات الاجتماعية. فهي تتلاقى مع القانون في كونها تهدف إلى تنظيم حياة الإنسان لتجعل منه انساناً مستقيماً صالحاً، ويعظم هذا التلاقي في التشريع الإسلامي عندما نلاحظ أنّ المسألة الأخلاقية لم تنفصل في المصادر الفكرية عن المسألة القانونية، بل وردت معها على صعيد النص، كما تكاملت معها على صعيد النموذج والقدوة في حياة النبي والأئمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، لتشكّلل نسيجاً واحداً متسقاً. فمع النص الذي ورد لتنظيم عقد البيع مثلاً ورد بالوضوح نفسه النص الذي يأمر بالصدق والنصيحة للطرف الثاني من المتعاقدين.. كما ورد في السياق نفسه الحث على القناعة وعدم إظهار الأثرة والحرص من خلال كراهة دخول السوق قبل الناس، وكراهة مدح السلعة، ونحو ذلك مما هو مظاهر لمثالب أخلاقية ممقوتة. وهذا التناسق فرضه الغرض التربوي الذي يرمي إليه التشريع والذي لا يلغي ضرورة مراعاة أصول المنهج العلمي الذي يركز على الفرق الحاد بين القيمة الأخلاقية والمادة القانونية. ويبدو ذلك من خلال الأمور التالية: الأوّل: أن مصدر القيمة الأخلاقية عقلي، إذ يوجد في مدارك الذهن البشري أمثلة من المعلومات التي تحدد أصول المصالح والمفاسد الاجتماعية من خلال جملة من البداهات العملية. فنحن نرى أنّ العدل حسن وضروري لحياة الإنسان، والظلم قبيح ومفسد للحياة. نرى ذلك بوجداننا الذي يتحرك من خلال بداهة هذا الأمر، حتى ولو لم تتنزل الشرائع بذلك وتأمر وتنهى عنه. ويشترك في ذلك جمع الناس بمختلف أديانهم واتجاهاتهم الفكرية. وهم إذا اختلفوا فإنما يختلفون في المصادق وموارد التطبيق، دون أن يختلفوا في جوهر المسألة. وقد وردت هذه المسألة في نزاعات الفرق الكلامية الإسلامية باسم الحسن والقبيح.. وأنّه هو هو ذاتي عقلي أو أنّه شرعي، وقد ذهب الشيعة والمعتزلة إلى ذاتية القيم الأخلاقية وعقليتها.. بينما ذهب الأشاعرة إلى أنّ الشرع والوحي هو الذي يعطي الفعل قيمته.. من دون أن تكون له قيمة قبل ذلك. ولذا لا مانع عند الأشاعرة أن يأمر الله بالظلم فيصبح حسناً وينهى عن العدل فيصبح قبيحاً، إذ لا قيمة ذاتية له يقف عندها التشريع ويراعيها. ونحن لا نتردد في اختيار ذاتية القيم الأخلاقية بسبب ما نراه بداهة في عقولنا من حسن أمور معينة وقبح أخرى، بوصف هذه المعلومات جزءاً من المعلومات المسلمة الفطرية التي يحتويها الذهن البشري في عالم السلوك، والتي يدركها ما اصطلح على تسميته (بالعقل العملي)، مضافة إليها المعلومات النظرية التي يدركها الذهن ويقيم على أساسها إيمانه بالله تعالى، والتي يدركها ما اصطلح عليه (بالعقل النظري). وبقدر ما يبرز هذا الأمر في عالم الأخلاق، فإنّ الذي يظهر في التشريع عكسه وخلافه، فان أحكام الشرع لا تأخذ هذا العنوان إلا إذا صدرت عن الوحي المعصوم.. وبُلغت بواسطة الرسول المعصوم، حيث نقف فيها عند قوة الإلزام وعصمته.. لنمتنع عن المساس بها أو الاعتراض عليها، وتصبح سلوكاً فينا نساق إليه بالتعبد والتسليم. والأخلاق والقانون بقدر ما يختلفان في المصدر فإنهما يتحدان في الغاية والهدف. فقد أُثر (أنّ النبي رسول من الخارج والعقل رسول من الداخل)، كلاهما يهدف إلى بناء الإنسان الصالح. الثاني: نلاحظ أنّ الأخلاق لا تحقق أهدافها إلا إذا صدرت عن وضوح وقناعة وتمت ممارستها باختيار الفاعل ورغبته، وظهر فيها عنصر التضحية وتجاوز الذات، وتحقق في فعلها قدر من المعاناة وقهر النفس. وسبب ذلك أنّ الأفعال الأخلاقية مرتبةٌ في كمال أعلى تهدف إلى تحقيق التناسب والعفوية في التزام الفضائل لتصبح طبعاً في الإنسان لا يتكلفه. وبقدر ما يشتد وضوحه في الذهن قناعة، يحصل في حياة الإنسان سلوكاً طيباً، وفي كل من القانون والأخلاق يعاني الإنسان ويكره نفسه على الالتزام، لكنه في الواجب مسوق إلى الإلتزام بالترغيب والترهيب، بينما في الأخلاق والآداب مدفوع برغبته الذتية في الكمال. فعندما يمتنع أحدنا عن الظلم بإلزام القانون خوفاً من العقاب.. لا يكون نبيلاً مثل من يمتنع عن ظلم البهائم والحشرات، فالأوّل يحمل في نفسه رغبة في الظلم وحباً له.. يمنعه العقاب من ممارسته، بينما الثاني أصبح العدل جزءاً من ذاته وسجية فيه فوقع منه حتى على البهائم رحمة بها ووعياً لدورها. الأمر الثالث من الأمور التي يختلفان فيها: توجه القانون في تشريعاته إلى عموم الحياة، كفرد ومجتمع وطبيعة، من أجل أن تكون كل نشاطات الإنسان محكومة للشريعة وفي قبضتها، فلا ينحرف، ولا يشتط من أية جهة من الجهات يمكن أن يأتي منها الفساد والانحراف، بينما نلاحظ أنّ الأخلاق تتجه إلى العلاقات الاجتماعية بنحو مباشر، لأن هدف الأخلاق هو تحسين التعامل بين الناس وترطيب العلاقات الاجتماعية، فمثل الصبر، والحلم، والصدق والتواضع والحياء، والقناعة ونحوها من القيم الأخلاقية، يُنظر فيها دائماً إلى وجود طرف آخر تجب خدمته ومنع الصدام معه، ولو في الحدود الدنيا التي قد لا يهتم بها الإنسان كثيراً. لكن الدور المهم الذي تلعبه القيم الأخلاقية إلى جانب القانون هو أنها تخفف من جفافه وتُعطيه الحيوية والحرارة لتنعكس دفئاً في العلاقات الاجتماعية. فكم نرى من الفرق بين من ينفق على أبويه العاجزين ويستأجر لهما خادماً يقوم بشؤونهما، فيُعدُّ مؤدياً للواجب الشرعي، ومن يقوم هو على خدمة أبويه، مندفعاً بنزعة الاخلاص والحنان على هذين اللذين أنهكا جسديهما في سبيله، فتبدو في الموقف الثاني الحرارة والدفئ اللذين لم يظهرا في الموقف الأول. ولا يعد هذا نقصاً في القانون بقدر ما هو مسايرة لطبائع النفوس وتفاوتها في درجات الكمال، وتنفيذ لنزعة اليُسر التي هي أحد أركان القانون، عندما يكون في الالزام بالأمر الثاني إرهاق للمكلف وإخراج له من جهة، ومن الجهة الثانية لا يشعر الأبوان بالامتلاء النفسي وبردّ الجميل لهما إلا في الممارسة الطوعية لهذه الخدمات. ومع كل هذا النزوع في الأخلاق نحو العلاقات الاجتماعية نلاحظ أن أصول هذه الأفعال فردية، أي تتم – أساساً – في داخل النفس. وفي هذا تأكيدُ ثبات القيم الأخلاقية واستمرارية مظاهرها الفعلية، في الوقت الذي لا تعد تنظيماً للداخل، فهي تصدر منه ولكنها لا تنظمه للداخل، فهي تصدر منه ولكنها لا تنظمه فيدخلنا ذلك في تساؤل كبير عمّا يُنظِّم الداخل ويكمله. ولكن قبل الإجابة عن هذا التساؤل لابدَّ من الانتهاء من مسألة الفروقات بين الأخلاق والشريعة، إذ نلاحظ على هامش هذه الفروق أن ثمة قيماً أخلاقية تسالم عليها الناس وحكمت بها بداهة العقل العملي... نرى أنها دخلت في القانون وأصبحت واجبات ومحرمات، بينما بقيت قيم أخرى في دائرة الآداب المستحبة وداخلة في التعريف الذي نحن بصدد الخروج به من هذا التحليل، مثل حرمة الغيبة والشتم ونحوهما من ألوان ظلم الآخرين في كرامتهم، ومثل وجوب برّ الوالدين، وصلة الرحم، والصدق، ونحو ذلك، بينما بقي مثل الحلم، والصبر والتواضع، والقناعة، في معظم جوانبها اختيارية. والذي يبدو في تفسير هذه الظاهرة هو أنّ التشريع الإلهي قد حرص على جملة من هذه القيم بسبب أهميتها الكبرى وضرورة قيام المكلفين بها. وخوفاً من عدم أدائهم لها إذا تركت لهم الحرية في الأداء، ألزمهم بها، ولو على حساب بعض إيجابيات الأداء الطوعي لها. كما أن في الالزام بها محاولة لتدريب النفس على التزام القيم الأخلاقية والإهتمام بها، وإلا فإن معظم الناس لا يلتزمون هذه القيم باختيارهم، وإنّ انتظارهم حتى يتكاملوا يوقع كثيراً من المفاسد في حياة الناس الذين لابدَّ من المعالجة الفورية والتامة لكل مشاكلهم. وهذا في الحقيقة أحد مظاهر التكامل بين الأخلاق والقانون في السعي إلى بناء الحياة الإنسانية السعيدة. وخلاصة ما تقدم، أنّ القيم الأخلاقية ما كانت لتفصل تحت عنوان خاص ويكون لها علم خاص لولا أن لها تمايزاً عن جملة العلوم التي تعنى بسلوك الإنسان وتهذيبه، فهي جملة قواعد يستحسن التزامها بأمر الوجدان، وتصدر عن النفس طواعية واختياراً، لتحقيق مزيداً من الكمال في حياة الناس الاجتماعية، وقد ورد في العديد من النصوص ما يفيد الفرق بين الشريعة والأخلاق، ويدعو إلى التزام الخلق الحسن بوصفه جزءاً من الإيمان. وقد ورد "إنّ أكملَ المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً"[1]، وورد أنّ "الدين المعاملة[2]". كما ورد: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وكل ذلك يؤكد دور الأخلاق المميّز والأساس في عملية التغيير.. وما أظن أنّ هذه المقدمة لون من الترف العلمي، إلا إذا أردنا تجاوز الاعتبار العلمي والدخول فوراً في المسألة العملية.   - النفس: ولن يكتمل التخطيط لهذا البحث.. ورسم الملامح الأساس له، إلا إذا توقفنا عند النفس التي هي موطن هذه القيم ومنطلقها إلى الجسد الذي يبرزها سلوكاً وأعمالاً. والنفس كانت ولا تزال الشغل الشاغل للمصلحين وعلى رأسهم الفلاسفة الذين هاموا في كل واد بحثاً فيها، حتى أصبح لها علم خاص في ثقافاتنا الحديثة، أحسن ما يقال فيه أنّه لا يزال وليداً يحبو، مع ضخامة انجازات العلوم الطبيعية التي بقيت أمامهم علوم النفس ضئيلة النتائج، ضعيفة الأبحاث. وما كانت النتائج لتكون كذلك لولا أنّ النفس عزت على المقاييس العلمية، فبقيت ترفل في سرها وغموضها، إلا على الله الذي خلقها وحذر منها. ولكن الذي أظنه أنّ معظم الذين عالجوا مسألة النفس بدأوا من تصور يفترض أنّ النفس شيء خاص مستقل في الوجود، وله حيثيات محدودة في داخل الجسد. وكأني بهذا الافتراض خاطئ، إذ يبدو لي أنّ النفس مجرد اصطلاح يقصد به مجموعة الأنشطة الذهنية التي ترتبط بالجهاز العصبي وتكون في جانبها العفوي المسترسل ما نسميه بالهوى والنفس الأمّارة، عبارة، في جانبها المهذب والمستنير ما نسميه بالصلاح أو النفس اللوامة أو الوجدان، وكلاهما عبارة عن فكرة ذهنية تكونت ضمن النشاط الجسدي العام، وإذا أخذنا مثلاً على ذلك الشهوة الجنسية، والتي هي من أبرز مصاديق الهوى وأشدها إلحاحاً، والتي نجمع نحن على أنها من جملة إفرازات النفس الأمّارة، بل ومن أهمها، فما الذي يحدث؟ يكون الإنسان منصرفاً تماماً عن المسألة الجنسية.. ثمّ يرى مشهداً مثيراً.. أو يتخيله، وكلا هذين الأمرين نشاط ذهني. بعد رؤية المشهد تتحرك شهوة الإنسان بسبب إفراز هرمون جنسي من غدة معينة في الجسد.. عندها يعيش الذهن في حالة من الرغبة، أي إنها تبقى ماثلة في الذهن. وبقدر إفراز الهرمون يكون إلحاح هذه الرغبة. وفي هذه الحالة إما أن يستجيب لها فينسجم مع حالته النفسية أي الذهنية، وإما أن يقلع عنها.. ولا يكون الاقلاع إلا بصرف الذهن عن هذه الفكرة والانشغال بأمر ذهني آخر. ففي كل هذه البلبلة الداخلية الذاتية لم نشعر أن ثمّة أمراً مستقلاً إسمه الهوى هو الذي تحرك، وليس ثمة شيء آخر غير هذه الخاطرة الذهنية والإلماعة العصبية.. هي التي توهجت، ثمّ خمدت عندما صرفت عنان تفكيرك إلى أمر آخر أسمى. قد يندهش بعضهم لهذه الفكرة ويظنها إبتداعاً فيما تسالم عليه الناس، أو المسلمون، فقد وقر في الأذهان التعامل مع النفس بوصفها وجوداً مستقلاً في الجسد، وأن لها سمة غيبية ترفعها عن مادية الجسد وآليته. ولكن النفس في الحقيقة لا يوجد منها موقف ديني اعتقادي حاسم من حيث ماهيتها، وإن كان هناك موقف رافض لنشاطها وإفرازاتها السيئة. واختلاف فلاسفة المسلمين منها دليل على عدم وجود موقف محدد منها. وما تسالم عليه الناس ليس قائماً على العلم الجازم بل على الظن، وبذا لا يكون ثمّة حرمات ومقدسات، بل هو المدى الرحب للبحث الأقرب للمعقول والمنطق. والذي يشير إلى كون الرغبات النفسية نشاطات ذهنية مرتبطة بالجهاز العصبي عدة أمور: الأوّل: إنتقال السجايا الأخلاقية وبعض النزعات النفسية بالوراثة التي أصبحت بعض قوانينها المادية معروفة، والتي إلتفت إليها الإسلام في بعض الأحاديث التربوية والجنسية. الثاني: المظاهر الجسدية للانفعالات النفسية مثل، الحياء، والغضب، والخوف، والخجل، ونحو ذلك. الثالث: العقاقير التي تعالج بعض الحالات النفسية السابقة. الرابع: تأثير الإنصراف الذهني باتجاه الأمور السامية عن الأمور الساقطة والشائنة. الخامس: تركيز الإسلام على العلم، وانّه بقدر سموه في العلم يكون وصوله إلى حالة نفسية أفضل. السادس: ما ورد من تأثير بعض الأغذية المعينة على الحالات النفسية والسجايا الأخلاقية.. والتي أكدها الإسلام والعلم الحديث معاً. وقد توجد أمور أخرى تشير إلى هذا الأمر. والحق أنّ صياغة هذه النظرية بنحو كامل يستدعي وقتاً وانصرافاً للتوفر عليها، ونحن هنا في عجالة تفرض علينا الإشارة إليها بما لها من علاقة بموضوع البحث، وقد وقع تحت نظري بعض الأقوال التي تذهب إلى ما يشبه هذا الرأي[3]، ولم يتحلي المجال للتوسع في هذه المسألة. وعلى كل حال، فإننا ينبغي أن لا نتوهم أن عالم النفس محاط بالغموض. وفي الأقل، فإنّ التعاليم التي ينبغي إلتزامها لتهذيب النفس قد وضعها خالق هذه النفس تعالى، فهي صحيحة تماماً وموصلة إلى غرضها الكامل. وهنا يصبح بالإمكان الإجابة على سؤال سابق، هو: إذا كانت غاية الأخلاق تهذيب المجتمع فمن هو الذي يهذب النفس، مادامت هي الأساس في التغيير، سيّما إذا التفتنا إلى قوله تعالى: (.. إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ...) (الرعد/ 11)، فهي تشدد على ضرورة تغيير النفس حتى يتيسر تغيير المجتمع؟ والذي يبدو في الجواب على هذا السؤال هو أنّ ثمة عوامل عدة تساهم في سلامة النفس، وجوهر ذلك كله وصول الوعي الذهني إلى مرتبة الدفع باتجاه الفعل، أو الوصول إلى مرحلة تحول الرغبة الذهنية إلى إرادة فاعلة. وهذه الحالة يساهم فيها: أوّلاً: اليقين الاعتقادي والوضوح الفكري المسبب لحالة من الانكشاف تسهل معها الطاعة. ويمكن أن نسميها انعدام الخلل الذهني ونصاعة الأفكار بدرجة قوية تقطع دابر الشبهة والشكوك. وقد ورد ما يشبه هذا في كثير من الآثار، منها ما ورد في وصف المتقين للإمام علي (ع)، ومنها مانعت به علي (ع) نفسه من أنّه "لو كشف له الغطاء ما ازداد يقيناً"[4]. ومنها ما ورد عنه عليه السلام: "أوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ، وكَمالُ مَعْرِفَتِهِ التصديقُ به"[5]. ثانياً: إنشغال الذهن بما يوجب قلة خطور الأفكار المثيرة لسوء الفعال، من قبيل الخوف من العقاب والرغبة في الثواب، وذكر الموت، والإعتبار بحال الماضين من الأفراد والأمم، ونحو ذلك. ثالثاً: إستحضار النماذج الجيِّدة والاقتداء بها، الأمر الذي يملأ الذهن بحالات نقية ويثير الدوافع باتجاه الكمال. رابعاً: بذل الجهد لإشباع الحاجات الطبيعية الموجبة لانشغال الفكر بطلبها.. والانجرار إلى ما يحسن من الفعال، مثل الفقر، والشهوة، ونحوهما. خامساً: سلامة التكوين والتربية التي تمنع تكون العقد النفسية التي هي حالات ذهنية متسلطة بسبب عاهة، أو عادة سيِّئة، أو غذاء سيِّئ أو محرم، ونحو ذلك. سادساً: إلتزام الشرائع التي فرضها الله.. والرغبة في القرب منه تعالى، فإنها لم توضع إلا لتهذيب النفوس والعروج بها في معارج الكمال، والتي منها الوصول إلى مرتبة إلتزام السجايا الأخلاقية الحميدة. وفي هذا العرض الموجز يبدو أنّ الإلتزام الديني والالتزام الخلقي من سنخ واحد حيث لابُدّ من حصول هذه المرتكزات لتسير النفس باتجاه الكمال في ذاتها، ومع الله تعالى، ومع الآخرين. وقد تكون مسألة الهداية متضحة من خلال هذا العرض بوصفها إحدى غوامض المسائل النفسية. وبهذا يتأكد لنا أنّ القيم الأخلاقية التي تتكفل بتهذيب العلاقات الاجتماعية تصدر عن نفسه قد تهذبت فتولدت منها هذه القيم، دون أن يكون للقيم ذاتها دور في تهذيب النفس.   - أصول القيم الأخلاقية: ومجموعة القيم التي يستخدمها المرء في حياته تغطي مساحة واسعة من هذه الحياة: في المأكل، والملبس، والسفر، والحديث والأسرة، ومختلف ألوان العلاقات الاجتماعية، في حالتي السلم والحرب، والحزن والسرور. وكلُّ فعل إنساني ذي أثر اجتماعي لابدّ أن يكون محكوماً لواحد من القيم الأخلاقية، الواجبة أو الاختيارية. ومن هنا تكون القيم أصولاً، والأفعال الإنسانية إشارات إليها ودلالات عليها. فـ(الرزانة) تعتبر قيمة أخلاقية أساساً، يتفرع منها وقار المسير، وهدوء الحديث، وروية التفكير، وتأني الفعل، وقلة المزاح، والإعراض عن اللغو واللعب، ونحو ذلك من السجايا والسمات الطيبة الراقية. وهكذا غير الرزانة من القيم الأخلاقية، مثل الشجاعة، والصبر، والرحمة، والحياء. ونحن هنا لا نريد الاستغراق في التفاصيل لضيق المجال عنه، ولكن لابدّ من استعراض القيم الأخلاقية الأصلية لنرى مقدار إحاطة الأخلاق بالفعل الإنساني ومدى دعمها للشريعة في بناء الإنسان المؤمن. والقيم الأساس الكبرى هي: 1- الحياء، وفي دلالتها النفسية تعني الترفع عن الدنايا وشؤون الجسد بنحو يكون العقل هو الذي يمسك بزمام الجسد وحاجاته، فلا يدع الإنسان يقع في العيب والاسفاف والذلة من جراء الرغبة في إشباع الحاجة. 2- الصبر: وهو يعني الأشمل من الحاجات المادية إلى مطلق الانفعالات النفسية.. فيقف بها عند الحدود المطلوبة عرفاً أو شرعاً ليتحكم الفاعل بردة الفعل، دون أن تتحكم به ردة الفعل. ويشمل العفة وكذا القناعة وما يتفرع عنهما. ويعنى بالعفة الصبر عن الشهوة، وبالقناعة الصبر على الحاجة. ويدخل في الصبر الحلم، والعفو، وكظم الغيظ، والورع، والرويّة، ونحوها من توابع الصبر. 3- الشجاعة: وهي عبارة عن ثبات النفس أمام الخطوب والمحن ومواجهتها بوعي، فتتمثل قوة في الجسد، وثباتاً في الحرب، ويقيناً في المعتقد، وجرأة في القول، ونحو ذلك. 4- الحكمة: وهي حالة من الوضوح الفكري تنعكس على العلم وتوابعه، وعلى إعطاء كل شيء ما يناسبه، وتشمل أيضاً الاقتصاد، بنحو لا يقع في الاسراف والتبذير. 5- الرزانة: وهي خليط من الصبر والحكمة، تنعكس هدوءاً وطمأنينة في القول والفعل.. كما ألمعنا إليها آنفاً. 6- الصدق: في القول والفعل، بنحو يصدر عن ذهن موضوعي يحب الصراحة والوضوح فيما يصدر عنه وفيما يرد عليه. 7- التواضع: وهو من أهم القيم الأخلاقية بسبب ما يدفع به من الكبر والغرور... وما هما عليه من الخطر العظيم. ويدخل فيه كراهة الرئاسة، والمشورة للآخرين، ومحاسبة النفس، والاعتراف بالخطأ. 8- الإنصاف: وهو إعطاء كل ذي حق حقه سواء من نفسه أم من غيره، وهو أساس الحياة الصالحة وروح إلتزام القوانين، وجوهر احترام الآخرين وتقديرهم. 9- الرحمة: وهي القيمة الأكثر تأثيراً في علاقات الناس الاجتماعية لأنها في معظمها مبنية على التسامح، والمحبة، والحنان، والإحساس بآلام الآخرين، والتي هي فروع هذه القيمة الجليلة. 10- الانضباط: وهو يعني معرفة حدود النفس، وتقدير كفاءة الآخرين، والوفاء بالوعد أو العهد ذي المنحى السياسي.. والوقوف عند تلك الحدود. ولكن المدقق في هذه الأصول سوف يضع كثيراً من الملاحظات التي تجعل الواحدة أقرب إلى الأخرى أو يرى في قيمة منها فرعاً لقيمة أخرى، الأمر الذي يحتاج إلى توسع في البحث من جانب اللغة والفلسفة والدين، ليضع الجدول الدقيق لمفردات هذه القيم بنحو متقن وكامل. ونحن في الحقيقة نرسم ملامح دون أن نتعمق كثيراً في السمات والخصوصيات الحاسمة. ومع ذلك فنحن على درجة طيبة من القناعة بسلامة هذا التخطيط العام.   - الدور التغييري للأخلاق: أما دور الأخلاق في عملية التغيير فليس موضع شك على الاطلاق، بل ليس من شك في كون الدور الطليعي إنما هو للأخلاق دون منازع، ولكن صعوبة إلتزامها تستوجب منا مزيداً من التوقف لنبحث عن خصوصيات هذه الميزة. ويظهر هذا الأمر عند مقارنة الأخلاق بالمؤسسات التعليمية أو بالنظام، فإن كل واحد منهما عملية مادية تحدث خارج النفس وتخضع لمقاييس خارجية، فتنجح في التغيير بقدر إحتوائها على عناصرها الموضوعية والفنية. وإذا كان لابدّ من دور للأخلاق فيها، فهو الشرط الذاتي الذي لابدّ من احتواء كل فعل عليه، بينما نرى أنّ خصوصية الأخلاق الشخصية، بمعنى عيش الإنسان في حالة استنفار دائم مع نفسه ورغباته، وقرب هذه المعركة من النفس يجعل عملية الاستمرار والنجاح فيها صعبة، الأمر الذي ينعكس وهناً على دورها في عملية التغيير. ولعل من اللافت للنظر أن يكون أعظم الأديان وأهمها، وهو الإسلام، وأعظم الأنبياء شأناً وخاتمهم، محمد (ص)، قد جعلت الغاية منهما إتمام مكارم الأخلاق، فلولا صعوبة الوصول إلى هذه المرتبة لما وظفت أفضل الوسائل لتحقيقها. والحقيقة، اننا طوراً نريد التغيير على صعيد نخبة من الأفراد يمثلون القدوة والشهادة على الآخرين، وطوراً نريد التغيير على صعيد جمهور الناس، وكلاهما وإن كانا ممكنين، إلا أنّ التفاوت سوف يبقى كبيراً بين سمو أخلاق النخبة وأخلاق الجمهور، الأمر الذي يحتم البحث عن حد أدنى لتغيير الأمة نضطر إلى الوقوف عنده. وإذا اعتبرنا مضمون خطبة المتقين للإمام (عليه السلام) هو الدرجة الممتازة التي يجب أن تصل إليها النخبة، فإنّ ذلك يعني أنّ جمهرة الناس سوف تلتزم الحد الأدنى من الأخلاق متأثرة بالقدوة، لأنّ (النموذج) هنا هو الذي يقوم بالدور الأساس في عملية التغيير، سيما إذا التفتنا إلى أهمية كون النبي (ص) على خلق عظيم في وضع النموذج الكامل أمام الناس.. وبعد النبي أهل البيت الذين هم الامتداد المستمر لهذا النموذج، ومن هنا لابدّ أن تخوض القلة المؤمنة معركة دائمة مع نفسها من خلال ما سلف ذكره من الأسس، والتي أهمها الوصول إلى مرتبة اليقين الفكري الذي يجعل العقل كاشفاً لحقائق الأمور. ومع هذه المرتبة لابدّ من عقد العزيمة على استحقار الدنيا وما فيها من متاع زائل. تخوض النخبة هذه المعركة وتحسمها لصالح النموذج الأخلاقي، ثمّ لابدّ أن تسعى لإبراز هذا النموذج، أي إلى أن تكون هي الحاكمة لجمهور الناس، كي يتأثير الناس بهم كنموذج، فيعيش الجمهور في الحالة الأخلاقية بمراتب مختلفة تطبع الأمة بطابعها الأخلاقي، وتحقق الحد الأدنى من التغيير المطلوب بالتعاون مع باقي الأدوات. وفي هذه الكلمة لعلي (عليه السلام) في وصف المتقين ما يكشف عن هذه المسألة. يقول (ع): "... هَجمَ بهم العلم على حقيقة البَصيرة، وباشَرُوا روح اليقين، واستلانوا ما استَعْوَرَهُ المُتْرَفُون، وأنسوا بما استوحشَ منه الجاهِلون، وصحبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحها معلَّقةٌ بالمحلِّ الأعلى"[6] ومثل هذه المرتبة من الأخلاق صعبة على النخبة، فلن تكون سهلة على الجمهور. وبما أنّ عامة الناس لا يهجم بها العلم على حقائق الأمور، بل تبقى منقادة لملوكها ومتأثرة بسلاطينها، فلابُدّ من سلطان أخلاقي يقتدي به الناس باتجاه عملية التغيير التي تصلح الحياة بحدها الأدنى. إذن ثَمّة تلازم مهم بين الأخلاق والسلطة في تحقيق التغيير المطلوب على صعيد الأُمّة، وبقدر ما تفقد الأمة النموذج الحاكم، تكون صعوبة جعلها في دورة التغيير التي يمكن أن تحققها الأخلاق من خلال الوعظ والتوجيه. وصحيح أنّ الكلمة تؤثر، ولكن عند من ألقى السمع وهو شهيد. أما الذي ينسى سريعاً، ويصفق لحظة الاستماع إلى الكلام الجميل المنمق، فإنّه لن يستفيد من هذه المواعظ أبداً، ومعه يبقى دور الأخلاق مقتصراً على التكامل الفردي الذي سوف تبقى دائرته محصورة في النخبة، وهذه المسألة هي التي تفسر الدور السياسي للدين الإسلامي في الوقت الذي يقوم جوهره على الأخلاق. وقد يتوهم بعض السامعين أننا متشائمون في مدى نجاح الأخلاق في دورها، ولكن الواقع هو ذلك، ومن أجله نركز في عالم المسؤولية والمواقع الحساسة في الأمة على ضرورة أن يتولاها الكامل من الأفراد، وإلا لكفى مطلق العارف بمنصبه ولو لم يكن مؤمناً أو أخلاقياً. ولولا الميزة التي نحن بصددها للفعل الأخلاقي، في كونه فعلاً نفسياً يحتاج باستمرار إلى بذل الجهد، لما كنا بحاجة إلى موجهين ولا إلى سلطة، ولعم الخير والنفع مجتمعات البشرية كلها. لكن الواقع أنّ هذه الميزة هي التي جعلت الأخلاق تدخل في كل أمر لتكون ضمانة استمرار الالتزام، وضمان بقاء الكمال، في الوقت الذي تضمن فيه السلطة توسع دور الاخلاق على صعيد الأُمّة، فإنّ الأخلاق هي جوهر نجاح العمل السياسي ليصل إلى أهدافه من خلال النخبة. وهكذا يتكاملان في هذا الدور كما تتكامل أمور كثيرة في بناء الحياة السعيدة. ومن الضروري قبل تجاوز هذه الفقرة أن نؤكد أننا لا نقصد بهذه الفكرة فرض القيمة الأخلاقية بقوة السلطة.. لأن ذلك يلغي جوهر القيمة الأخلاقية القائم على الممارسة الطوعية للأفعال الأخلاقية، بل انّ دور السلطة هو أن تساعد على الوجود الساطع للنموذج الأخلاقي الذي يحقق ثماره الطيبة في تأثر الناس واقتدائهم به. وقد يكون من الضروري لمن يريد أن يأخذ نفسه بمكارم الأخلاق أن يكره نفسه على الفعل الأخلاقي عندما لا يرى من نفسه الاقبال العفوي عليه، وذلك في المرحلة الأولى من جهاد النفس وجعلها في مسيرة الكمال. وصحيح أنّ الفرق كبير بين الطبع والتطبع، ولكن التطبع يصبح مهماً ولازماً عندما تكون الخطوة لابدّ منها، وعندما تكون المقدمة ضرورية لجعل النفس تألف ما هي عازفة عنه. وقد ورد في الآثار ما يفيد التسامح بهذا الأمر في الخشوع في الصلاة وفي البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام)، فقد ورد الحث على البكاء أو التباكي على مصيبة أبي عبدالله الحسين، كما ورد في جملة من آداب الصلاة ما يساعد على تحقيق حالة الخشوع، مثل ترقيق الصوت، وسكون الجوارح ونحوها، كذلك نحن نرى في عموم النظام التربوي ما يشجع على التمسك الظاهري بالآداب والفضائل المندوبات لتكون مقدمة للالتزام الحقيقي والذي يبدو في تفسير هذا الأمر انّ التطبع الاختياري يعبّر عن رغبة في الفعل ناتجة من درجة طيبة من الوضوح، وتحتاج إلى المزيد من الصقل لتصبح ناضجة كاملة. فإذا قام الإنسان بالفعل في بداية الأمر رغبة به فقد سلك الطريق وبدأها، وبقي عليه أن يتعهد هذه الرغبة بالنمو والعناية لتؤتي ثمارها الكاملة، وحينئذ لا فرق بين الناس في هذا الأمر، بل هذه المرتبة هي الحد الأدنى الذي عليه معظم الناس. ولذا نلاحظ أنّ قسماً من الناس خلوقون في المجتمع مع الأغراب والأبعدين عنهم، بينما تكون أخلاقهم سيئة مع الأقارب والأهل. وهذه الظاهرة تدل على أن التزام هذا القسم القيم الأخلاقية لم يصل إلى مرتبة الطبع الكامل.. وإنما التزمها بتأثير العرف ومفهوم العيب واللياقات الاجتماعية التي تجعل حاجزاً بين الإنسان وطبعه المسترسل غير المهذب فإذا ارتفع هذا الحاجز بين الأهل أو عند الشدائد.. يظهر الطبع على حقيقته، وقول النبي (ص): "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" يشير إلى هذه الظاهرة ويشدد على ضرورة عدم التسامح في مكارم الأخلاق مع الأهل، فهي ان ظهرت معهم سوف تظهر بطريق أولى مع غيرهم. ودور المؤمن الخلوق في عملية التغيير دور مهم، ولكن الواقع الذي يعيش فيه المؤمنون ليس في مستوى الدور، فالذي نلاحظه يؤكد وجود مؤمنين يلتزمون أحكام التفرع التزاماً ظاهرياً دون أن تنعكس حرارة في القلوب وخشوعاً في القلوب ودموعاً في الأعين من خشية الله، وهو أشبه ما يكون بالإيمان المجلد الفاقد للحياة، كذلك فإنّ جملة المؤمنين لم يكمل إيمانهم بحسن أخلاقهم، فتعجب لوجود مشاكل بينهم، كما تعجب لعدم نجاح الكثير منهم في حياتهم الأسرية رجالاً كانوا أم نساء. ولو أخذت شريحة من هؤلاء المؤمنين وشريحة من غيرهم من عامة الناس، لما رأيت فرقاً كبيراً بينهما إلا فيما ندر، وإلا في بعض الأمور الظاهرية. وهذا أمر خطير في النخبة، لأنّ المسؤولية الكبيرة التي يتحملها الأخوة المؤمنون في قيادة العمل الإسلامي ورعايته والمشاركة فيه تستوجب أن يكونوا نماذج طيبة في حياتهم وقدوة لغيرهم. ويبدو أنّ أساليبنا في التربية مسؤولة عن معظم ذلك، فلا يكفي أن نحشو أفكارنا وأفكار غيرنا بالعلم وفنون المعرفة لنصبح في الموقع المناسب، بل لابدّ من أخذ النفس بألوان المكارم الأخلاقية، وتعهد من هم معنا بالتربية العملية والعناية الدائمة، إذ من الضروري تلاقي العلم والعمل في واقع الحياة لنسير جميعاً نحو الأفضل، لذا فإنّه "من ازداد باباً من العلم ولم يزدد باباً من التقوى لم يزدد من الله إلا بعداً" وليس ذلك إلا لأنّ العلم تبدو قيمته بالعمل الذي يتم على أساسه والكمال الذي يتحقق من خلاله، وانّ معركة المؤمنين عظيمة وواسعة وشرسة مع قوى الكفر والطغيان وشرط القوة فيها كما هو شرط الانتصار، المزيد من التقوى والمزيد من مكارم الأخلاق، في زمن قلّ فيه التقاة والأخلاقيون. وحتى على صعيد الانتصار في المعركة مع المنافقين والسفهاء لابدّ من احتلال النماذج الممتازة موقع القرار والقيادة لتكون مؤثرة في قيادة هذه المرحلة العصيبة من تاريخنا.   الهوامش:
[1]- بحار الأنوار، ج74، ص151، مؤسسة الوفاء بيروت. [2]- لم أجدها بهذا اللفظ فيما عندي من مصادر، ولكن ثمة أحاديث بمضمونها في: بحار الأنوار، ج68، باب حسن الخلق. [3]- بحار الأنوار، ج58، ص69، مؤسسة الوفاء – بيروت. [4]- مشهورة على ألسنة الناس، ولكن لم أعثر لها على مصدر. [5]- نهج البلاغة، ج1، ص14.

[6]- نهج البلاغة، ج3، ص173.

المصدر: مجلة التوحيد/ العدد 30 لسنة 1987م

ارسال التعليق

Top