• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

حتى لا تضيع تجاربنا

حتى لا تضيع تجاربنا

◄القوم غرباً، حينما يشار إلى طول باعهم في العلم، وقدحهم المعلى في المعرفة، لا يقصد بذلك أنهم نجحوا في معرفة الطريق إلى التعلم فقط، بل إنهم كذلك نجحوا في تطوير العلوم وساهموا في ازدهارها، ونجحوا في التأصيل لعلوم جديدة، وتحويلها إلى ميدان العلم المنضبط. والحقيقة أنا لا نبالغ إذا قلنا: إن كل~ تجربة ذات قيمة مؤسسية كانت أم شخصية تتحول هناك إلى علم.

إذ لا تكاد تسمع عن إنسان نجح وبزغ هناك، إلا ونقل ملاحظاته إلى الكتابة والتدوين، ولا ترى مؤسسة تقوم، وتمضي عليها بضع سنين إلا وتنتشر في الأسواق الكتب التي ترصد تجربتها.

أما نحن.. فبيننا كثير من النابهين والنابغين والمبرزين، إلا أنك حين تسأل عن أسباب هذا البروز، لا تجد جواباً، وإن وجدته فهو ليس ناتجاً عن دراسة عميقة ومتأنية. بل هو جواب عندما تنظر إليه تعلم استحالة أن تبلغ ما بلغ صاحبه باهتداء إجابته تلك، هذا إن لم يحمل من معاني التضليل أكثر مما فيه من الدلالة والإرشاد. فئة من نابهينا تكتفي بذلك الجواب الذي كثيراً ما نسمعه من كبار السن وهم ينعون على حديثي السن جهلهم، وطيشهم، واستعجالهم، بقولهم "تخرجت في مدرسة الحياة" وتلك كلمة جنت أكثر مما أعطت، فأنت إذاً بحاجة كي تبلغ قدره إلى أن تمتلك مواهبه وتعيش ظروفه، وبيئته، وتتعلم علومه، دون أن تعرف شيئاً عن تلك العوامل.

لا يمكننا أن ننكر وجود "مدرسة الحياة" إلا أننا نتحفظ على تلك المدرسة إذا  كانت معارفها لا يمكن تقنينها وتحويلها إلى علوم، وإذا  كان التعلم فيها يتطلب أن ندرس فيها أربعين سنة، وإذا  كان معلموها، ومناهجها، ووسائل تعليمها عائدة إلى القدر لا لشيء آخر.

عودة غرباً.. فإنّ المدرسة إياها "مدرسة الحياة" قد صار بإمكان حديثي السن أن يستفيدوا منها، وينهلوا معارفها في سنين قليلة، وهي إن زادت في شيء، فإنما تزيد في كم معلوماتها، وقدرها، وأهميتها، ومدى صدقها.

إنّ كثيراً من المعارف التي كنا نظن يوماً ما استحالة تحولها إلى علم مضبوط، وأنها أقرب للموهبة والخبرة، أصبحت الآن تدرّس في معاهدهم وجامعاتهم، فهل كان يظن أحد منا أنّ التعامل مع الناس سيصير علماً وفناً؟ هل كنا نظن أنّ الخطابة ستتحول إلى علم له كتبه ودوره ومدارسه، وكذا السعادة، والإبداع، والإدارة، والتربية.. إلخ، لم نكن نظن كل هذا قبل أن تقوم هذه العلوم على أقدامها وتستوي على سوقها، وما زال بعضنا لا يتصورها، ويتخذها مجالاً للاستهزاء والسخرية.

والأمثلة على تلك التجارب التي يدور الحديث عنها كثيرة لا تحصى، غير أنا سنغترف من قريب:

"تيلر" لو كان من أرباب مقولة "مدرسة الحياة، لما وجدنا كتابه "مبادئ الإدارة العلمية، وربما تأخر ظهور الإدارة كعلم مستقل إلى أن يأتي من يقوم بالعمل الذي قام به.

لو كان "دايل كارنيجي" حياتياً، لما عرفنا تلك الكتب التي أفادت منها الدنيا، ككتاب "كيف تكسب الأصدقاء" وكتاب "دع القلق وابدأ الحياة"..

لو آمن "نيكسون" بهذه الكلمة، وفق معانيها التي أشير إليها، لما ألَّف كتبه، التي كانت من أكبر المؤثرات في سياسات رؤساء أمريكا، ولتركهم يخضون في مصير أممهم حتى تعلمهم "مدرسة الحياة".

بوسعك أن تزور أي مكتبة، لترى بنفسك كم هي تلك الكتب التي حولت تجارب حياتية شخصية، وأخرى مؤسسية إلى علوم.. في أقسام العلوم الاجتماعية والإنسانية.. سنفاجأ أن تلك التجارب ملء النظر، وأنها شغل القوم الشاغل، وأكاد أجزم أن معظم الكتب التي أضافت للعلم إضافات حقيقية في هذه الميادين هي من هذا الباب.

وهكذا فإن كلّ تجربة عندهم تؤسس لعلم جديد، قد لا يولد متمم الأركان، لكنه مع تتابع الزمن، وتوالي التجارب يتكامل وتظهر معالمه وحدوده، ليروي ظمأ الدارسين فيما بعد مختصرين سنين كثيرة كانت ستضيع هدراً، لو لم يحترم أولئك الأشخاص تجاربهم، ولو لم تدون تلك المؤسسات ملاحظاتها.

لعلنا لن نستطيع أن ننقل كلّ التجارب الإنسانية إلى علوم، أو سيتعذر تسجيلها كاملة وتحويلها إلى كتاب، إلا أنّه كما يقال "ما لا يدرك كله، لا يترك جله"، وهكذا فإن تمكَّنا من تسجيل 20% من التجربة، فليكن، وليستفد الطلاب منها كأصول تساعدهم على مدرسة الحياة، وعلى زيادة نسبة نجاحهم فيما.

إنّ الرجل غرباً يموت، ليبقى لبنة في البناء الحضاري الشامخ، ويوت شرقاً فلا يبقى منه إلا ذكرى طيبة، وطيفاً جميلاً يزور مجالسنا وأعيننا لفترة من الزمن، ثم لا يلبث أن يزول ويختفي.

المؤسسة غرباً تبدأ من حيث انتهت أختها.. والمؤسسة شرقاً تبدأ من حيث "تُنهي" أختها.►

 

 

إنّ كثيراً من المعارف التي كنا نظن يوماً ما استحالة تحولها إلى علم مضبوط، وأنها أقرب للموهبة والخبرة، أصبحت الآن تدرّس في معاهدهم وجامعاتهم، فهل كان يظن أحد منا أنّ التعامل مع الناس سيصير علماً وفناً؟ هل كنا نظن أنّ الخطابة ستتحول إلى علم له كتبه ودوره ومدارسه.

ارسال التعليق

Top