عاشت فاطمة الزهراء (عليها السلام)، من خلال قيم أهل البيت (عليهم السلام)، كلّ معنى الروح في كلِّ كيانها وذاتها، لأنّها عاشت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كلِّ روحانيته وفي كلّ ابتهالاته، وعاشت كلّ هذا القلب الكبير الذي كان يعتصر عندما يعيش آلام الناس من حوله، والذي كان يحرصُ على الناس كما يحرص على نفسه. وقد كانت تراه كيف يتألّم للفقراء والبؤساء والحزانى واليتامى، وهو الذي قال الله عنه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة/ 128)، وقد كانت الزهراء (عليها السلام) ترى كيف يرأف بكلّ الناس الذين يعيشون حوله ومعه، سواء كانوا من الذين يؤمنون به، أو من الذين لا يؤمنون به.
كانت الزهراء (عليها السلام) بوجودها وشخصها وعملها وفكرها ومواقعها حركة تغييرية في المفاهيم كافة، السائدة في العصور المتخلفة حول ماهية المرأة وحقيقة وجودها، فكانت المرآة لإنسانية المرأة ولأهميّة دورها في الحياة. كانت (عليها السلام) قدوة للرجال والنساء في سيرتها العطرة التي اعتبرها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قطعة منه وريحانته من الدنيا، وأنّها منه، من آذاها فقد آذاه، ومن أغضبها فقد أغضبه.
هي سيِّدة جليلة اكتسبت احترام النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى هذه المرتبة الشامخة لأنّها ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإكرامه فكان يزورها قبل كلّ أحدٍ ويودعها بعد كلّ أحدٍ، ولم تصل فاطمة (عليها السلام) إلى هذه المرتبة الشامخة لأنّها ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس لانتسابها إليه، بل وصلت من خلال سعيها وجهده وعملها وعلمها وأدبها وثقافتها ووعيها.
فهي التي دعاها أبوها لأن تعمل لكي تُحصل رضا الله سبحانه وتعالى، قائلاً لها: «يا فاطمة اعملي لنفسك فإنّي لا أغني عنك من الله شيئاً». كاشفاً عما أفرزته ترسبات الماضي في حركة الفكر الإنساني والتي كانت موجودة عند بعض الأُمم بأنّهم أبناء الله وأحباؤه، وكانت السبب الرئيسي في تقسيم المجتمعات. لذلك كانت دعوة النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تعمل إعلاناً عن خطأ الفكرة التي كانت سائدة وأنّها تتنافى مع التوحيد الحقيقي ولا تغني عن عمل الإنسان.
لقد علّمت فاطمة (عليها السلام) الأجيال المتلاحقة أنّ الإيمان ليس مجرد كلمة تقال، ولا صلاة تصلى، ولا صياماً، ولا مظهراً، بل الإيمان الحقيقي هو وقفة الإنسان في ساعات الحرج، في ساعات المصالح المتضاربة، في ساعات المحن والكوارث، سيرتها دروس الإنسانية، بأنّ الإنسان المؤمن إذا كان ذا تربية صالحة لا يحتاج في الساعات الحرجة والصعبة، أو في ساعات المنفعة أن يقول له أحد كيف يجب أن يكون، ولا إلى مَن يرشده إلى طريق الخلاص بل هو عند الشدائد يتصرّف بمقتضى ضميره وبمقتضى وعيه وإيمانه، لأنّ الإيمان يعرف عند الهزات، وعند المصائب وعند المتاعب، وعند الغضب وعند النصر.
كانت فاطمة الزهراء (عليها السلام) أمام المحن التي مرت عليها وأمام الظروف الصعبة التي عاشتها محافظة على اتزانها واعتدالها وكانت صابرة ومحتسبة، وكانت في الحالات كلّها تحافظ على الغاية ولا تتيه في مشاكل الطريق أو صعوباتها أو في مغرياتها. هكذا هي فاطمة الزهراء (عليها السلام)، سيِّدة نساء العالمين، بضعة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبضعة من الإسلام، هي مجاهدة، وهي شهيدة في سبيل الحقّ، وقد بلغت هذا الشأن ليس لأنّها بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل لأنّها عملت وجاهدت وتحمّلت في سبيل الحقّ ما تحمّلت.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق