• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

محمد (ص).. نبي الرحمة والهدى

محمد (ص).. نبي الرحمة والهدى
◄يقول الله في محكم كتابه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107).
(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة/ 128).
نبيّ الرحمة في سطور: ولد خاتم النبيّين محمّد بن عبدالله بن عبد المطلّلب (ص) في السابع عشر من شهر ربيع الأوّل من عام الفيل، توفي أبوه وهو جنين، ثمّ استرضع في بني سعد، ورُدّ إلى أمّه وهو في الرابعة أو الخامسة من عمره. وقد توفّيت أمّه حين بلغ السادسة فكفله جدّه عبدالمطلب واختصّ به وبقي معه سنتين ثمّ ودّع جدّه الحياة بعد أن أوكل أمر رعايته إلى عمّه الحنون أبي طالب، حيث بقي مع عمّه إلى حين تزوّج من خديجة وهو في ريعان شبابه، وكان قد عُرف بالصادق الأمين، وقد ارتضته القبائل المتنازعة لنصب الحجر الأسود لحلّ نزاعها فأبدى حنكةً وإبداعاً رائعاً أرضى به جميع المتنازعين، وحضر النبيّ (ص) حلف الفضول بعد العشرين من عمره. وبُعث بالرسالة وهو في الأربعين، وبعد مضي ثلاث سنوات من بداية الدعوة إلى الله، أمره الله بإنذار عشيرته الأقربين ثمّ أمره بأن يصدع بالرسالة ويدعو إلى الإسلام علانية ليدخل من أحبّ الإسلام في سلك المسلمين والمؤمنين وأسّس النبي الخاتم (ص) أوّل دولة إسلامية فأرسى قواعدها في السنة الأولى بعد الهجرة وبنى المسجد النبويّ الذي أعدّه مركزاً لدعوته وحكومته.. وكان العام العاشر عام حجّة الوداع وآخر سنة قضاها النبي (ص) مع
أمّته وهو يمهّد لدولته العالمية ولأُمّته الشاهدة على سائر الأُمم، وتوفّي النبيّ (ص) في 28 صفر سنة إحدى عشرة هجرية بعد أن بلّغ الرسالة وأحكم دعائم دولته الإسلامية حيث عيّن لها القيادة المعصومة التي تخلفه متمثّلة في شخص الإمام عليّ بن أبي طالب (ع).
1-    محمّد (ص) نبيّ الهدى والرحمة:
تسعى بعض وسائل الإعلام الغربية في السنوات الأخيرة – بحجّة حرّية الرأي والتعبير – وللنيل من أعظم شخصية إنسانية في الوجود وهي شخصية النبي محمّد (ص)، الذي تصوّره وسائل الإعلام الغربية بوسائل وأساليب ساخرة بأنّه رجل حرب وقتل ونهب وسلب، وأنّه كان غليظ القلب، وأنّ الإسلام دين العنف والرهبة والقتال.
هذه الشخصية التي نالت القدر الأوفى من كلّ الشمائل الحسنة والخلال النبيلة، والقيم الإنسانية العليا، وحرّرت الإنسان ورفعت عنه إصر عبوديات وأغلال كثيرة كانت منتشرة في العالم، فلقد شكّلت شخصية النبيّ محمّد (ص) الرجل الذي اكتملت فيه كلّ الأخلاق الحميدة، وانتفت عنه كلّ الأخلاق الذميمة، قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/ 4). فشكّلت حياة النبي محمّد (ص) المثل الأعلى للإنسانية في جميع أحوال الحياة وأوجهها؛ في السلم والحرب، في الحياة الزوجية، مع الأهل والأصحاب، في الإدارة والرئاسة والحكم والسياسة، في البلاغ والبيان، فالنبي (ص) هو المثل الكامل. قال الله تعالى: (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (يس/ 3-4).
فكان (ص) يفيض رحمة في خلقه وسلوكه وأدبه وشمائله، فلا يمل عبء بلاغ هذه الرحمة إلى العالمين إلّا رسول رحيم ذو رحمة عامّة شاملة فيّاضة طبع عليها ذوقه ووجدانه، وصيغ بها قلبه وفطرته. قال تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة/ 128).
فهو مثل أعلى للرحمة الإلهيّة لذلك وصفه الله تعالى بأنّه رؤوف رحيم يستطيع المؤمنون الاستفادة من الرحمة التي كان يُمثّلها النبي (ص)، ذلك لأنّه "بالمؤمنين رؤوف رحيم" ويستطيع الكافرون والمنافقون أيضاً – إلى جانب المؤمنين – الاستفادة من هذه الرحمة كذلك، فعندما قيل له: ادع على المشركين قال (ص): "إنّي لم أُبعث لعّاناً، وإنّما بُعثت رحمة".
    
2-    النبيّ محمّد (ص) الإنسان العطوف والمحبّ:
وإذا التفتنا إلى حياته الخاصّة (ص) في بيته ومع أولاده وأهل خاصّته لوجدنا بأنّ الرحمة والشفقة من أبرز أخلاقه وخصاله (ص) وقد وصفه الله في القرآن الكريم بذلك، فقال تعالى عن النبي (ص): (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107). وقال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ...) (آل عمران/ 159).
وكان (ص) يُحبّ الأطفال، ويُقبّل أولاده، ويعطف عليهم، ويأمر بالمساواة في المحبّة بينهم، كما كان يحبّ أهله وزوجاته، وهو القائل: "حبّب إليّ من دنياكم: الطيب والنساء، وجُعلت قرة عيني في الصلاة". وقال (ص): "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي". وكان (ص) رحيماً بالجميع، بل إنّه يسمع بكاء الصبيّ فيسرع في الصلاة مخافة أن تُفتتن أمّه. كان (ص) يمرّ بالصبيان فيسلّم عليهم. وجاء الحسن والحسين مرّة، وهما ابنا ابنته وهو يخطب الناس فجعلا يمشيان ويعثران فنزل النبي (ص) من المنبر، فحملهما حتى وضعهما بين يديه، ثمّ قال صدق الله ورسوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (الأنفال/ 28)، نظرت إلى هذين الصبيّين يمشيان فيعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما. وفي رواية "ما ضرب رسول الله شيئاً قطّ بيده ولا امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله".
وكان النبي (ص) يُقَبِّلُ ابنه إبراهيم عند وفاته وعيناه تذرفان بالدموع؛ فيتعجّب بعض الحاصرين ويقول: وأنت يا رسول الله! فيقول النبيّ (ص) "يابن عوف، إنّها رحمة، إنّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي ربّنا، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون".
ومن تواضعه وشكره: قال الإمام علي (ع): "كان النبيّ (ص) إذا سُئل شيئاً فأراد أن يفعله قال: نعم، وإذا أراد أن لا يفعل سكت، وكان لا يقول لشيء لا"، وأمّا علاقته بأصحابه، فقد قال تعالى: (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة/ 128)، وعن الإمام أبي عبدالله (ع) قال: "كان رسول الله (ص) يُقسّم لحظاته بين أصحابه، فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسويّشة؛ وقال: ولم يبسط رسول الله رجليه بين أصحابه قطّ، وإن كان ليصافحه الرّجل فما يترك رسول الله (ص) يده من يده حتى يكون هو التارك...".
    
3-    رحيم في الحرب والسلم:
وكان (ص) في الحرب يقاتل بشجاعة، ولكنّه أيضاً كان صاحب شفقة عظيمة، كان سياسياً، ولكنّه في الوقت نفسه صاحب مروءة كبيرة وقلب كبير. ففي غزوة أحد استشهد عمّه حمزة أسد الله ورسوله رضي الله عنه، ومُزّق جسده تمزيقاً، وشُجّ رأس النبي (ص) وكُسِرت رباعيّته، وغطّى الدم جسده الشريف، وكان يدعو في مقابل أذى أهل مكّة له: "اللّهمّ اغفر لقومي إنّهم لا يعلمون". فهل يوجد أرحم من النبي محمد (ص) في مثل هذه اللحظات.
وفي فتح مكّة كيف تعامل مع من أخرجوه وظاهروا على إخراجه وإيذائه؟ وكيف تعامل مع من حاصروه في شعب أبي طالب وتسبّبوا في وفاة أحبّ زوجاته إليه خديجة الكبرى (رض)، وفي وفاة عمّه أبي طالب؟ فلقد دخل مكّة بعشرة آلاف مقاتل، دخل على مركبه، والدرع على صدره، والسيف في يده، ولكنّه مع كلّ مظاهر النصر هذه كان أنموذجاً للرحمة، فسأل أهل مكّة: "ما ترون أنّي فاعل بكم؟" فأجابوه: "خيراً أخٌ كريمٌ وابن أخ كريم" فقال لهم ما قاله يوسف (ع) لإخوته: "لا تثريبَ عليكم اليوم يَغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين". لقد قال لهم: "اذهبوا فأنتم الطُلَقاء".
    
4-    رسالة النبيّ محمّد (ص) دين المحبّة والرحمة:
الدِّين الإسلامي هو دين الرحمة والمحبّة والسلام والدعوة إلى الخير، وما عالميّته وتشريعه للقتال والجهاد إلّا أحد مظاهر هذه الرحمة، إذ لا يمكن إيجاد الرحمة كخُلق للأفراد والمجتمعات إلا بدفع الظالم ورفع ظلمه عن المظلومين.
يقول الله تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (الأنعام/ 54). ويقول الله تعالى: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف/ 64)، ونحن دائماً نُردّد في أوّل أعمالنا: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (الفاتحة/ 1). ويقول النبي (ص): "لمّا خلق الله الخلق كتب عنده فوق عرشه: إنّ رحمتي سبقت غضبي".
فرحمة الله سبحانه واسعة، ولا يعلم مداهاً إلّا هو، فهو القائل سبحانه: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف/ 156).
وعن النبيّ (ص): "جعل الله الرحمة مائة جزءٍ، فأمسك تسعة تسعين، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق؛ حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه".
رحمة البشر: الرسول (ص): "ارحم مَن في الأرض، يرحَمك مَن في السماء" و"مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم؛ مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" فالمسلم رحيم في كلّ أموره؛ يعاون أخاه فيما عجز عنه؛ فيأخذ بيد الأعمى في الطرقات ليجنِّبه الخطر، ويرحم الخادم؛ بأن يحسن إليه، ويعامله معاملة كريمة، ويرحم والديه، بطاعتهما وبرّهما والإحسان إليهما والتخفيف عنهما.
الغلظة والقسوة: حذَّر النبي (ص) من الغلظة والقسوة، وعدَّ الذي لا يرحم الآخرين شقيّاً، فقال (ص): "لا تُنْزَعُ الرحمةُ إلا من شَفِيّ" وقال (ص): "لا يرحم اللهُ من لا يرحم الناس".
ولا مجال في هذا العجالة لعرض كلّ نماذج الرحمة في الدِّين الإسلامي وسيرة النبيّ محمّد (ص) حيث شملت كلّ خلق الله تعالى من الإنسان والحيوان.
عن الإمام أبي جعفر (ع) قال: "قال رسول الله (ص) مقامي بين أظهركم خيرٌ لكم، فإنّ الله يقول: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (الأنفال/ 33)، ومفارقتي إيّاكم خيرٌ لكم. فقالوا يا رسول الله، مقامك بين أظهرنا خيرٌ لنا، فكيف تكون مفارقتك خيراً لنا؟ قال: أما أنّ مفارقتي إيّاكم خيرٌ لكم، فإنّ أعمالكم تُعرض عليّ كلّ خميس وإثنين، فما كان من حسنة حمدتُ الله عليها، وما كان من سيِّئةٍ استغفرت الله لكم".►
 
 يقول الشاعر:
    ارحم بُنَي جميع الخلق كُلَّهُمُ
    وَقِّرْ كبيرَهم وارحم صغيرهم
    وَانْظُرْ إليهم بعين اللُّطْفِ والشَّفَقَة
    ثمّ ارْعَ كلّ خَلْق حقَّ مَنْ خَلَقَه
    المصدر: كتاب إلا رحمة للعالمين/ سلسلة الدروس الثقافية (38)

ارسال التعليق

Top