الاختلاف بين البشر حقيقة أصيلة وطبيعية مرتبطة بعمق الفطرة والتكوين الإنساني، وهو مسألة تطبع بطابعها كلّ السلوكيات والوقائع البشرية، بيد أنّ هناك آلية طبيعية فطرية موازية للاختلاف، أوجدها الله تعالى لترشيد حركة هذا الاختلاف ونتائجه، ليقود الناس إلى التعاون والتواصل الحيّ والفاعل والمنتج، وتجنيبهم شرّ الفرقة والتقاتل والعداوة والعصبيات.
والحوار ليس لفظةً تطلق في الهواء وتبقى في دائرة التجريد، إنّما هو آلية طبيعية عملية، للكشف عن مواطن الاتّفاق ومثار الاختلافات، ليصار إلى النقاش فيها بالتي هي أحسن، وليقوم الحوار بالتالي بوظيفته في منهجه وضبط إيقاع هذا النقاش، بما يضمن تحقيق النتائج العملية المتوخّاة.
حتى إنّ الدعوة إلى الإسلام اتّخذت منحى الحوار، ولم يفرض مفاهيمه وتعاليمه فرضاً، بل دعا خصومه إلى التحاور المنتج الذي ينفتح على الحقّ والحقيقة دون إيذاء الواقع وخلق التعقيدات فيه. وقد شكّل حوار الرسول (ص) مع المشركين نموذجاً يحتذى، حيث اتّسم أسلوبه بالدعوة إلى الله بالهدوء والمحاججة الهادفة والموضوعية الموصلة إلى النتائج التي تركّز الحقّ والحقيقة في القلب والعقل.
يقول الله تعالى في محكم كتابه: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النّحل/ 125). وعن المراد بالموعظة الحسنة، يقول سماحة المرجع السيِّد محمّد حسين فضل الله (رحمه الله)، إنّ بعض المفسِّرين يقولون: إنّ الوعظ الحسن هو الصرف عن القبيح على وجه الترغيب في تركه والتزهيد في فعله، وفي ذلك تليين القلوب بما يوجب الخشوع، ويقول بعض آخر منهم عن الموعظة الحسنة، إنّها التي لا يخفى عليهم أنّك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم بها.
ولعلّنا نجد في تفسير الموعظة الحسنة بما ذكر، تعبيراً عنها بما تنطبق عليه، لأنّ هذا المعنى الذي يذكرونه، هو من جملة مصاديق الموعظة الحسنة، ولكن لا بأس بذلك، بعد أن كان المقصود هنا الإشارة إلى المراد القرآني للكلمة، لا المفهوم اللغوي المجرّد.. ولذا، فلا بأس علينا من الجري على هذا التفسير، مع تأكيد التفسير الأخير الذي يبيِّن بوضوح أنّ الموعظة الحسنة هي طريقة في التبليغ، وأسلوب في الدعوة يحبّبها ولا ينفر عنها، يقرّب إليها ولا يبعّد عنها، ييسّرها ولا يعسّرها، وأخيراً لا آخراً، هو الأسلوب الذي يشعر المخاطب أنّ دورك معه هو دور الرفيق به والناصح له، الباحث عمّا ينفعه ويسعده.
إنّها كما قال أحد الكتّاب المعاصرين، التي تدخل القلوب برفق، وتعمّق المشاعر بلطف، لا بالزجر والتأنيب في غير موجب، ولا بفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نيّة، فإنّ الرفق في الموعظة كثيراً ما يهدي القلوب الشاردة، ويؤلِّف القلوب النافرة، ويأتي بخير من الزجر والتأنيب.
ونزيد على ذلك، أنّ اللطف والرفق واللين في مقام الدعوة، يشعر الإنسان بإنسانيّته، ويوحي له بطريقة عفوية، أنّه أمام دعوة تفيض بالحبّ والحنان والحياة النابضة بالروح الإيماني الخيِّر.
وبالاطّلاع على منهج الحوار في القرآن، فإنّه ينطلق من أُمور تتوافق مع طبيعة الإنسان في طرح أفكاره ، فيخلق الجوّ النفسي والأرضية المناسبة بين الأطراف للبدء بالتواصل حول القضايا المختلف عليها، في جوّ من الثقة بالنفس، وعدم الانسحاق أمام الآخر، كما بالابتعاد عن جوّ الانفعالية، والانضباط بالقواعد المنطقية في مناقشة موضع الاختلاف، دون التقيّد والتجمّد عند رأيٍ معيّن، فالتسليم بإمكانية صواب الخصم من بديهيّات الحوار المفترضة.
وبذلك، فإنّ المنهج القرآني للحوار ينطلق أساساً من حقيقة الاختلاف الطبيعية بين البشر، وما يستلزم ذلك من تأكيد حرّية الإنسان وفكره، بعيداً عن أيّة وصاية وفرض قناعات، إنّما قضية الحوار، أن يبيِّن ويفتّش بالأسلوب الأنسب عن الحقّ والحقيقة لتوضيحها للناس دون دفع أو ضغط على أحد لتقبّلها.
وعن الموضوعات التي يتناولها الحوار، يقول العلامة الراحل السيِّد محمّد حسين فضل الله (رحمه الله): في المفهوم الإسلامي، لم تطرح موضوعات محدَّدة للحوار، فكلّ شيء قابل للحوار، فلا مقدّسات ولا محرّمات في الحوار، حتى في وجود الله وشخصية النبي.. ونحن نعلم أنّ القرآن الكريم ذكر كلّ المفردات التي اتهم بها النبيّ (ص) في شخصه ورسالته، ثمّ عالجها بكلّ جدية وموضوعية، فهل هو مجنون أم عاقل؟ ساحر أم نبيّ؟ كاذب أم صادق؟ قرآنه بشريّ أم إلهيّ؟...
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) (النّحل/ 103)، (وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) (النّحل/ 24).
ولعلّ التحدي الكبير الذي حاول القرآن الردّ عليه، هو قولهم إنّه لمجنون، فانظر كيف حاورهم في هذا المجال: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) (سبأ/ 46).
إنّه يقول لهم انعزلوا عن هذا الجوّ الصاخب بالضجة الذي يعزل الإنسان عن نفسه، ارجعوا إلى أنفسكم، لأنّ العقل الجماعي ـ إذا كان هناك عقل جماعي ـ يمنع الإنسان من التفكير الحيادي المستقل، تفرّقوا اثنين اثنين، أو واحداً واحداً، ثمّ فكّروا في كلماته وحركاته وتصرّفاته، فسترون أنّ ما بصاحبكم من جنّة.
نعود لنؤكِّد أنّ لا محرّمات في الحوار، وأنّ القرآن الكريم فتح هذا الباب حتى في شخص النبيّ (ص)، فهو الذي خلَّد لنا هذه الاتهامات، حتى نتحاور حولها فيما يأتي، كما أدار الحوار حولها فيما مضى، فجميع الموضوعات قابلة للحوار، حتى في الأصول العقيدية الأساسية التي يترتّب عليها الإيمان أو الكفر، ففي شأن اليوم الآخر مثلاً، نلتقي بالآية الكريمة: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (يس/ 78- 79).
وكما أنّه لا محرّمات في موضوعات الحوار، كذلك ليس هناك أشخاص ممنوعون من الحوار، إنّك تستطيع أن تحاور كلّ أحد، إلّا في ظروف خاصّة قد تعطي الحوار معنى يمكنه أن يسيء إلى قضايا كبرى، وتلك حالة طارئة ولا تمثِّل القاعدة. القاعدة هي أن تحاور كلّ إنسان تختلف معه في فكر عقيدي أو سياسي أو اجتماعي.
فهل واقعنا الإسلامي اليوم يسير بطريق الحوار القرآني ونهجه؟ وهل أنّ المسلمين يعيشون ثقافة الحوار على المستوى الفردي والجماعي؟
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق