• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الأخلاق الحسنة من جوهر العبادة

عمار كاظم

الأخلاق الحسنة من جوهر العبادة

يقول رسولنا الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنَّما بعثت لأُتمِّم مكارم الأخلاق». لقد أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك أنّ الأخلاق هي جوهر الدِّين وعمقه، ولا يجب أن تفهم أنّها قضية كمالية أو ثانوية، أو على هامش الدِّين، فلا معنى في هذا المنطق أن يكون الإنسان متديّناً يعتزّ بدينه ويحرص على عبادته ونوافلها، ولكنّه بعيد كلّ البُعد عن الأخلاق! وهذا ما عبَّر عنه رسول الله، عندما جاء رجل إليه قائلاً له: ما الدِّين؟ فاكتفى رسول الله بالقول: «حُسن الخلق». استغرب الرجل كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الدِّين، وظنّ أنّ الرسول لم يسمعه جيِّداً، فأتاه عن يمينه، وقال: يا رسول الله، ما الدِّين؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «حُسن الخلق»، فعاد وكرَّر السؤال، فقال له: «حُسن الخلق».

 إذاً، حتى يكون الإنسان متديّناً، لابدّ من أن تحكم الأخلاق سلوكه مع ربِّه، بأن يحسّن أخلاقه مع ربّه، فلا يبادل إحسانه بإساءة، وعطاءه بالتقصير، وأن يحسِّن أخلاقه مع نفسه، فلا يسيء إليها في أمر دنياها وآخرها، وأن يكون خيراً للناس جميعاً؛ مَن يلتقي معهم ومَن يختلف. وهذا لا يعني أن يتنكّر الإنسان لعقيدته أو لعباداته وأن لا يبالي بها، فهي لها موقعها الأساس، لكن عليه أن يعتبر أنّها لا تؤدِّي دورها، إلّا عندما تعزِّز البناء الأخلاقي للإنسان القائم بها، فلا خير لصلاةٍ أو صيامٍ أو حجٍّ أو أيّ أعمال عبادية أُخرى، إن لم تنعكس خيراً على سلوك الإنسان، وهذا ما عبَّر عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بكلِّ وضوح، فهو عندما قيل له إنّ هناك امرأةً تقوم الليل وتصوم النهار، لكنّها بذيئة اللسان تؤذي جيرانها وتغتاب، قال: «لا خيرَ فيها، هي من أهلِ النارِ». وفي الحديث: «لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإنّ ذلك شيء اعتاده، فلو تركه استوحش لذلك، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته». وفي الاتجاه المقابل، حذَّرت الأحاديث من سوء الخلق، ففي الحديث: «خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل، وسوء الخلق». «الخلق السيِّئ يفسد الإيمان كما يُفسد الخلّ العسل»، و«سوء الخلق ذنب لا يغفر».

إنّ الأخلاق إنّما هي مجموعة ما يفرضه الفرد على نفسه من داخله، وإن كان أصل مصدر هذه الأخلاق خارجياً جاء به الوحي من مصدر علوي، ولكنّك إذا آمنت بذلك واقتنعت به أصبح ذاتياً في نفسك به إلى الخير وترتدع عن الشرّ، ولا يكون هذا السلوك مراعاة لمجرد سعادتك أو منافعك فقط؛ لأنّ ذلك لون من ألوان الأنانية، ولكن بمراعاة لحقوق الآخرين ومصالحهم أيضاً، لتبقى أميناً على معاني الإنسانية. إنّ الأعمال الأخلاقية من جوهر العبادة، حيث يرى الإنسان بفطرته أنّ الأعمال الأخلاقية شريفة وكريمة. ومع ما فيها من إيثار وتجاوز للمنطق الطبيعي وحتى المنطق العقلي والعملي، أي لا ينسجم مع العقل الذي يأمر الإنسان بالحفاظ على ذاته وعلى مصالحه. ومع هذا تجده يؤدِّي هذه الأعمال ويرى فيها نوعاً من العزّة والكرامة والرفعة ويشعر أنّه يشرف ذاته عبر أداء هذه الأعمال كالإيثار والإنصاف والتفاني. فهذا العمق في روح الإنسان، وفطرته، وسعة قلبه، لها نفحة خاصّة لا شعورية مثلما يعرف الله ويعرف أحكامه، ورضاه، ويؤدِّي عمله فطرياً لوجه الله. الحقيقة هي أنّ الأخلاق من جوهر العبادة، وبنفس القدر الذي يعبد فيه الإنسان ربّه لا شعورياً، تراه ينقاد أيضاً لا شعورياً لسلسلة من الأحكام الإلهيّة. وحينما يتحوّل شعوره اللاواعي إلى شعور واعٍ، وهذا هو السبب الذي من أجله بعث الأنبياء (بعث الأنبياء للسير بنا إلى فطرتنا، لتحويل ذلك الشعور اللاواعي وذلك الأمر الفطري إلى شعور واعٍ) وعند ذاك تغدو جميع أعمال الإنسان أخلاقية لا مجرّد مجموعة معيّنة من أفعاله، وحتى نومه يتحوّل إلى عمل أخلاقي، وطعامه يصبح عملاً أخلاقياً. أي حينما يسير منهج حياتنا على أساس التكليف ونيل رِضا الله، يصبح عندها تناولنا للطعام، ومشينا، وكلامنا، بل وكلّ حياتنا ومماتنا عملاً أخلاقياً واحداً، يقول تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام/ 163).

ارسال التعليق

Top