◄احترام الوالدين، وحُسن التعامل معهما، لقضية إنسانية أخلاقية بالدرجة الأولى، تعبّر عن جوهر الإنسان وحقيقته الصافية والصادقة. وللأسف، نشاهد في هذه الأيّام من قبل البعض سلوكيات لا تمتّ إلى الإنسانية وقيم الدِّين والأخلاق بصلة، حيث يقوم البعض بسوء معاملة الوالدين لناحية رفع الصوت فوق صوتهم، وافتعال المشاكل معهم وعدم توقيرهم، ويصل الأمر إلى حدّ رفع اليد عليهم وإهانتهم، أو بأحسن الأحوال هجرانهم لمدّة تطول أو تقصر بحسب الظروف.
ولقد تحدّث القرآن الكريم عن هذه القيمة الإنسانية الكبرى ـ الإحسان إلى الوالدين ـ حيث قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا) (الإسراء/ 23-25).
في الدلالة اللغوية، يوجد فرق بين فعل أمر (وقضى)، فمفهوم كلمة (قضاء) يختلف عن مفهوم كلمة (أمر)، فالقضاء يعني القرار، والأمر المحكم الذي لا نقاش فيه. وفي لسان العرب لابن منظور: قضى الأمر عليه حتمهُ، وأوجبَهُ، وألزمهُ به.
لذلك، فإنّ مجيء كلمة (قضى) جاءت تأكيداً لبيان أهميّة الإحسان إلى الوالدين، وفي مفردات القرآن للراغب الأصفهاني: القضاء فصل الأمر قولاً كان ذلك أو فعلاً.
نستنتج أنّ الله تعالى يؤكِّد أهميّة الإحسان للوالدين على نحو الالتزام والقضاء المحتوم الذي لا نقاش فيه في أيّ ظرف من الظروف، حيث إنّ الاحترام والتقدير مصداق بارز ومهم من مصاديق الإحسان، إذ كيف يعقل أن يكون المرء مُحسناً لوالديه، ولا يحترمهما في العمل والسلوك والكلمة؟!
وهل من المعقول اليوم، ونحن ننتسب إلى أُمّة الإسلام والقرآن، أُمّة الإحسان، أن نجد مثل هذه المظاهر التي تعبّر عن أزمة حقيقية في هُويّة البعض وانتمائهم إلى مفاهيم الإسلام الحقيقية؟
إنّ عبادة الله تعالى، تعني توحيد العبادة له، والإخلاص له، ومعايشة التوحيد كمفهوم إسلامي عقيدي منفتح على كلّ معاني العطاء والخير والإحسان، وتوحيد الله تعالى، يعني نبذ ورفض كلّ الضغوطات التي تحاول أن تخضع الإنسان لشهواته ونزواته، ومنها عدم الإحسان للوالدين وجفاؤهما، وهذا يعني أن نعيش معنى الطاعة الحقيقية لله، بالتجسيد العملي الحيّ للطاعة، عبر الإحسان للوالدين واحترامهما.
لقد أراد الله تعالى أن ينبِّه الإنسان لأهميّة الوالدين، لأنّهما السبب بعد الله تعالى في تحريك عناصر الامتداد في عمق وجوده، وهذا ما ينبغي أن يلتفت إليه الإنسان ويتدبّر أبعاده ومعانيه.
وهذا فصلٌ جديدٌ من السورة، يتحرّك في خطّ المنهج الأقوم في المبادئ الأخلاقية العامّة التي يريد الله لها أن تحدّد للإنسان القاعدة العملية التي تركّز شخصيّته على أساسٍ ثابتٍ في علاقته بالله وبنفسه وبالآخرين، ليواجه الحياة من خلال حدود الله التي أراد لعباده أن لا يتجاوزوها.
(وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاه) هذا هو الخطّ الأوّل الذي يمثِّل القاعدة العامّة التي تتفرّع منها كلّ الخطوط، وهو توحيد العبادة لله، من خلال ما تمثِّله من الخضوع والطاعة والاستسلام لأوامره ونواهيه في كلّ شيء، ومن التمرّد على كلّ الإرادات الأُخرى التي تحاول أن تثير في داخله روح الخضوع للطُّغاة والمستكبرين والشهوات والنزوات التي تجري في حياته مجرى الدم في العروق، وبذلك يواجه الإنسان الأشياء والأعمال والعلاقات من هذا الموقع الذي يضع الحدّ الفاصل بين طاعة الله ومعصيته، فيتحرّك مع الطاعة لله، لأنّها التجسيد العملي الحيّ للعبادة، ويتمرّد على معصية الله، لأنّها المظهر الواقعي للانحراف عن العبادة التوحيدية.
(وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، وهذا هو الخطّ العملي الثاني الذي يثير في الإنسان الإحساس به، عندما يستشعر الإحساس بالله، فإذا كان الله هو السبب الأعمق في وجوده، فإنّ الوالدين يمثِّلان السبب المباشر لهذا الوجود، وإذا كان الله هو الذي أنعم عليه بكلّ النِّعَم التي جعلت لحياته قوّةً واستمراراً، فإنّ الوالدين قد عَمِلا بكلّ ما لديهما من جهدٍ ومعاناةٍ وتضحيةٍ في سبيل تحريك عناصر الامتداد في عمق وجوده. هكذا أراد الله للإنسان أن يعي هذه الحقيقة في علاقته بهما، وأن يوحي لنفسه بالسرّ العميق الكامن وراء ذلك، والمتجلِّي في ما أودعه الله في قلبيهما من الشعور بالعاطفة والرحمة اللتين تتميّزان بالعطاء دون مقابل، فيعانيان الألم والتعب، من أجل أن تتكامل حياة ولدهما وتلتذّ وترتاح، بكلّ روحٍ طيِّبةٍ معطاء.
وهكذا أراد له أن يحسن إليهما بالكلمة واللمسة واللفتة والحركة، وبالاحتضان الروحي الذي يحسّان به عميقاً، كاحتضانهما له في طفولته، وما ينطوي عليه من عاطفة وحبّ وحنان.
(إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا)، فتقدّم السنّ يؤدِّي إلى اختلال المزاج وسوء الخلق، وضيق الصدر، ما ينعكس على تصرّفاتهما التي تتّخذ جانباً سلبياً ضدّ الناس الذين يعيشون معهما، ولا سيّما أولادهما الذين يشعرون بالضيق من ذلك، فيحدث ـ بسببه ـ ردّ فعل سلبيٍّ تجاههما، ما يوجب صدور الإساءة عنهم إليهما، لأنّ القوي عادةً يضغط على الضعيف ويؤذيه ويهينه. وبذلك نفهم أنّ الكبر ليس له خصوصيةٌ في ذاته، بل الخصوصية له بلحاظ ما يستتبعه من تصرّفاتٍ تؤدِّي إلى ردود فعلٍ سلبيةٍ من قبل الولد.
(فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ)، في عملية ردّ فعلٍ للشعور بالضيق النفسي من تصرّفاتهما، كمظهرٍ من مظاهر التعبير عن الأفعال في أقلِّ نماذجه، فإذا لم يجزِ ذلك، فلا يجوز ما هو أشدّ منه، لأنّ الأساس هو حرمة الإيذاء، فيحرم الأقوى في الإيذاء إذا كان الأضعف محرَّماً. وقد جاء في كلمات أهل البيت (ع) عن الإمام جعفر الصادق (ع) أنّه قال: «لو علم الله لفظةً أوجز في ترك عقوق الوالدين من أفّ لأتى بها». (وَلا تَنْهَرْهُمَا) أي لا تغلظ عليهما بالزجر والصوت الشديد القاسي (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا) بالكلمة الحلوة اللطيفة التي تحمل الحبّ والعطف والحنان، وتوحي بالانفتاح والاحترام والإعزاز والكرامة والابتسامة المشرقة والنظرة الحنون.
(وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)، وذلك يمثِّل التواضع والخضوع قولاً وفعلاً، برَّاً بهما، وشفقةً عليهما، كما يخفض الطائر جناحه إذا ضمّ فرخه إليه، فكأنّه ـ سبحانه ـ قال: ضمّ أبويك إلى نفسك كما كانا يفعلان بك وأنت صغير. وبذلك نفهم كيف لا يريد الله للولد أن يستثير حسّ الكرامة في نفسه تجاه أبويه كما يستثيره تجاه الآخرين، بل لابدّ له من أن يشعر بالذلّ الناشئ من الشعور بالرحمة لهما، لا من الشعور بالانسحاق الذاتي والانحطاط الروحي، كما يخضع الإنسان لمن يحبّه حبّاً له ورحمةً به، فيتحمّل منه ما لا يتحمّله من غيره، ويتنازل له عمّا لا يتنازل عنه للآخرين، ويعيش العفو والتسامح معه إذا أخطأ. إنّها الروح الإنسانية التي تنفتح على مواقع الرحمة، فتهفو وترقّ وتلين وتنساب بالخير والمحبّة والسماح، وتعرف كيف تميّز بين مشاعر الرحمة ومشاعر الذلّ أمام الآخرين، فتواجه الذين أحسنوا إليها واحتضنوها بالمحبّة والرحمة بالشعور الطاهر الخيِّر نفسه، لتستمرّ حركة الإنسانية نحو العطاء، من خلال مواجهتها بالاعتراف الحيّ بالجميل، بالمشاعر التي تحفظ لها كلّ ما عملته من الخير.
(وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)، ويتحوّل هذا الشعور بالرحمة إلى استذكار للتاريخ الشخصي لأبويه معه، كيف كانا يتعبان ليرتاح، ويجوعان ليشبع، ويسهران لينام، ويتألمان ليلتذّ، ويضحّيان بكلّ حياتهما من أجل أن يربّيا له جسمه وعقله، وكيف كانا يحتضنانه بالعطف والحنان، ويحفظانه من كلّ سوء، ليأخذ القوّة من ذلك كلّه. وتتجسّد كلّ هذه الذكريات في عقله ووجدانه وشعوره وحسّه، فتنفتح روحه بالحنان، وهو يشهد هذا الضعف الذي يرزحان تحته ويعانيان منه، ويستذكر أنّه كان أحد أسباب ذلك، فيبتهل إلى الله في دعاءٍ خاشعٍ ليرحمهما ويرعاهما ويحفظهما، لأنّهما كانا يعيشان الرحمة له، ويعانيان الجهد في تربيته، لأنّ الله قادرٌ على ما لا يقدر عليه من ذلك، فرحمته تملك خير الدُّنيا والآخرة، بينما لا يملك ـ هو ـ من ذلك شيئاً.
وهكذا نجد أنّ الله يريد أن يعمِّق الشعور الإنساني في نفس الولد تجاه أبويه بالرحمة والمحبّة والإحسان، ليشعرا بأنّ هذا الجهد الذي بذلاه لم يذهب سدىً، فهناك نوعٌ من التعويض الروحي قد حصلا عليه. وعلى ضوء ذلك، فإنّ الطاعة التي يريدها الإسلام في طاعة الولد للوالدين، هي طاعة الإحسان والشفقة، وليست طاعة المسؤولية من خلال طبيعة المضمون الذي تحتويه أوامرهما ونواهيهما، كما هو الحال في طاعة الله والرسول وأولي الأمر. فلو أمراه بما هو على خلاف المصلحة في دينه أو دنياه، أو بما فيه المفسدة في ذلك، فلا يجب عليه إطاعتهما، ولكن لابدّ له من أن يواجه الموقف بكثيرٍ من المرونة في الجوّ والأسلوب عند إرادة المعصية. ►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق