• ٧ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٥ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

غایة الصوم.. التقوى

عمار كاظم

غایة الصوم.. التقوى

تقوى الله هي الحصن والملاذ والطريق إلى الجنة، وهي التي ترتفع بالإنسان إلى الله. هي حياتنا الفعلية التي من خلالها نمارس العلاقة المنفتحة والعملية والطيبة مع الله تعالى، عبر التزام حدوده ورفع كلمته والتخلّق بأخلاقه، مهما كانت التضحيات في كلّ ذلك، فالله تعالى هو من يعوِّضنا مزيداً من الرّحمة والفضل والرّضا في الدُّنيا والآخرة. يقول تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183)، فالصوم بكلِّ أجوائه الروحيّة والأخلاقيّة الساميّة، يصقل الإيمان ويغذّيه ويجذِّره في النفوس، وصولاً إلى أن يؤكِّد التقوى في الإنسان، التقوى التي تترسّخ في النفوس، فتجعلها محلِّقةً في أجواء الله؛ أجواء الطهارة والنظافة والورع عن كلّ المحارم والذنوب والآثام.

إنّ الصوم كعبادةٍ من العبادات، يهدف إلى إثارة التقوى في الإنسان، كي يعمل على أن يعيشها وينفتح على تجلّياتها وآثارها التي تفتح قلبه وعقله على الله، وعلى الإيمان الذي يوصله إلى سعادة الدُّنيا والآخرة، وأن يكون في جوار الله ومن أهل مراضيه. ولذلك، لابدّ من أن نكون الأتقياء في القول، ولا نلهج إلّا بالصِّدق، والأتقياء في الفكر، فلا نفكِّر إلّا في النّفع والخير، والأتقياء في المشاعر، فلا نشعر إلّا بالرّحمة والمحبّة للآخرين، عندما نصل إلى التقوى كحالةٍ ثابتةٍ وأصيلةٍ فينا، نتعرّف حقيقةً إلى عمق الإيمان وصفائه، ونتعرّف إلى روح العبادة وما لها من آثارٍ معنويّةٍ وروحيّةٍ تتعدّى الشّكل، لتتّصل بكلِّ مضمونٍ يرفع من مستوى حضور الإنسان المتعدِّد في كلِّ جوانب الحياة.

فلنكن المؤمنين الأتقياء المنفتحين على كلام الله وخطابه، الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، السّائرون في خطِّ التقوى الحقيقيّة. يقول أمير المؤمنين الإمام عليّ (عليه السلام): «أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ضرب الأمثال، ووقّت لكم الآجال، وألبسكم الرياش، وأرفع لكم المعاش، وأحاط بكم الإحصاء، وأرصد لكم الجزاء، وآثركم بالنعم السّوابغ، والرّفد الروافغ، وأنذركم بالحجج البوالغ، فأحصاكم عدداً، ووظّف لكم مُدداً، في قرار خبرة، ودار عبرة، أنتم مختبرون فيها ومحاسبون عليها».

تقوى الله تعالى تعني الصّحوة في الضّمير، وتعني العمل الدّؤوب في سبيل إحقاق الحقّ والتمسّك به، ومواجهة الباطل والظّلم، ومكافحة كلّ شكل من أشكال الفساد والانحراف، إنّ التقوى تعني التزام حدود الله، والتحلّي بالإخلاص، وتحمّل الأمانة والمسوؤلية، حتى تكون دنيانا ساحةً نكتب فيها مصيرنا في الآخرة، بكلّ إيمان وثبات وإخلاص وتقى.

الصوم له غايات عديدة، فغايات الصوم مثل ما ورد عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): «لكلّ شيء زكاة، وزكاة الأبدان الصيام».. وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «الصائم في عبادة وإن كان نائماً على فراشه، ما لم يغتب مسلماً». وعن سيِّدتنا الزهراء (عليها السلام): «فرض الله الصيام تثبيتاً للإخلاص».. وعن الإمام الباقر (عليه السلام): «الصيام والحج تسكين القلوب».. وعن الإمام العسكري (عليه السلام) عن علّة فرض الصوم: «ليجد الغنيّ مسّ الجوع فيمنّ على الفقير».

والتقوى هي قمّة هذه الغايات، فعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «يقول الله عزّوجلّ: من لم تصم جوارحه عن محارمي، فلا حاجة لي في أن يدع طعامه وشرابه من أجلي».. وعن الإمام عليّ (عليه السلام): «الصيام اجتناب المحارم كما يمتنع الرّجل من الطعام والشراب». وعن الزهراء (عليها السلام): «ما يصنع الصائم بصيامه إذا لم يصُم لسانُه وسمعُه وبصرُه وجوارحُه»..

فهذه هي فريضة الصوم وهذه غاياتها، فإذا فهم المسلم ذلك، أقدم على الصوم بكلّ شوق وعزم، بل كان منتظراً لقدوم شهر رمضان كما ينتظر الحبيب حبيبه، لأنّه يعيش أجواء القرب من الله، والأنس ولذّة الجهاد في سبيله تعالى، كأنّه يجاهد نفسه وحبّه للملذّات، تقرّباً إلى الله، وغلبةً لأهوائه، ليختم تعبه بالفرح، فللصائم فرحتان: فرحة عند إفطاره، وفرحة عند لقاء ربّه.. فليكن شهر رمضان نهر الطهارة والصّفاء الذي نغتسل فيه من كلّ شوائب نفوسنا وأعمالنا، لنخرج طاهرين أنقياء، راجين رحمة الله وغفرانه وقبول أعمالنا، لنفوز يوم الحساب: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء/ 88- 89).

هؤلاء المتقون، ما جزاؤهم؟ (أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (آل عمران/ 136)، الذي يحصلون على هذه الجائزة العظيمة.

إنّ الله يعد المتقين بمغفرته وجنّته، وتلك هي الجائزة الكبرى، وذلك هو الفلاح الكبير: (وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين/ 26). وعلى هذا الأساس، ينبغي للإنسان أن يربي نفسه على هذه الصفات التي تجعله قريباً من الله سبحانه، وقريباً من الجنّة: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (المطففين/ 6)، ويأتي النداء، لكل الذين كانوا ينفقون في السراء والضراء، والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والمحسنين إليهم، والذين كانوا يستغفرون الله عندما يذنبون؛ ليقول لهم: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ) (الحجر/ 46).

ارسال التعليق

Top