التوبة فرض من فرائض الدين، فيعلّم الصائم نفسه الانكسار والخضوع، والافتقار إلى الله تعالى في جميع أحواله وشؤونه، مدركاً أنه محتاج إلى رحمة الله تعالى، وراجياً أن يتقبل الله توبته. ويؤكِّد النّبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في شهر رمضان أن يستحضر الإنسان كلَّ ذنوبه السَّالفة ليتوب إلى الله منها: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) (الشورى/ 25) و(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) (البقرة/ 222)، والتَّوبة هي النّدم على ما فعله الإنسان من ذنب، والعزم على أن لا يفعل ذلك في المستقبل، وهي التَّوبة النّصوح التي يدعو النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إليها: «وتوبوا إلى الله من ذنوبكم، وارفعوا إليه أيديكم بالدّعاء في أوقات صلواتكم، فإنَّها أفضل السَّاعات فالصّلاة هي معراج روح المؤمن إلى الله، وعندما يقف الإنسان بين يدي الله مستشهداً بذلك على عبوديّته له، فإنّه يكون قريباً إليه ـ ينظر الله عزَّ وجلَّ فيها بالرّحمة إلى عباده؛ يجيبهم إذا ناجوه، ويلبِّيهم إذا نادوه، ويعطيهم إذا سألوه، ويستجيب لهم إذا دعوه.
أيضاً العفو من الصفات الحميدة التي يتحلى بها الإنسان لأنّها لا تصدر إلّا من نفس كبيرة راجحة العقل صبرت على اعتداء الغير وأذاه. إنّ اعتداء الغير علينا لا يكون إلّا من نفس مريضة حجب الشرّ صوابها فأجدر بنا أن نغفر لها. إنّنا كثيراً ما نخطئ فنفتقر إلى العفو والغفران، وإن لم نغفر لمن أساء إلينا فلا يُغفر لنا، وإن أردنا الانتقام من المعتدي فلننتقمن بالإحسان إليه بأنّ مقابلة الإساءة بالإحسان تنزع من المعتدي البغضاء وتتركه مندهشاً فيرتد غالباً عن غيه وتنقلب بغضاؤه إلى مودّة. ولهذا مدح الله العفو في كثير من المواضع في القرآن كقوله: (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التغابن/ 14). ووصف الله المؤمنين الصادقين بقوله: (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) (الرعد/ 22). أي يدفعون بالعمل الصالح السيء من الأعمال. ودعا الله إلى مقابلة شرور النّاس بالإحسان إليهم لأنّ ذلك داعية إلى نزع العداوة من قلوبهم وإحلال المودة مكانها: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصّلت/ 34). ولما كانت بعض النفوس جبلت على الاعتداء، فقد وضع الإسلام علاجاً لها لمنعها من التمادي في غيّها، وهو مقابلتها بالمثل بدون إسراف أو ظلم، ولكن بالرغم من هذا لم يغفل من ترجيح العفو. قال الله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (النحل/ 126). وقال سبحانه: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ* وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ* إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ) (الشورى/ 40-43). هذا هو مذهب الإسلام في العفو وإنّ ما دعا إليه الإسلام هو ما تدعو إليه الفطرة السليمة ، وذُكر العفو في القرآن والقصاص أيضاً ونذكر هذه المعادلة حيث لا شكّ انّ الإنسان إذا عفا وهو متمكن من القصاص كان عفوه فيه رحمة وعزّة أما إذا دعوناه إلى العفو من أوّل الأمر، ولم نجعل له حقاً في القصاص، فإنّ استجاب وقلّ ما يستجيب فعل ذلك وهو برم وساخط، لأنّه عفو الضعف لا عفو المقدرة والعزة كما دعا الإسلام. والعفو كما دعا إليه الإسلام يؤدي في كثير من الأحيان إلى صداقة قوية بين المتخاصمين، لأنّ المعتدي يؤلمه هذا العفو من قادر على القصاص فيعمل على إرضائه ومحو أثر الاعتداء من نفسه. إنّ هذا الشهر عظيم مبارك بكلّ ما تعني كلمة عظيم ومبارك من المعاني، ولهذا يجب أن نغتنم جميعاً هذه الفرصة الذهبية من العمر للعودة الصادقة المخلصة إلى الله ربّ العالمين، وإلى منهجه القويم لبناء أنفسنا وتغيير ما بها ليغير الله ما بنا وبواقعنا ويغير سوء حالنا بحسن حاله.
علينا أن نسارع إلى التوبة وطلب المغفرة من الله ونسأله أن يتوب علينا توبة نصوحاً، وأن يلحقنا بركب أصحاب الهمم المخلصين المعتدلين.. العاملين لدينه المحبين لأوليائه المتعاونين على البر والتقوى ونشر الخير للناس كافة، الشرفاء المخلصين لدينهم والمحبين لأوطانهم حباً هو في حقيقته أحب إليهم من أنفسهم.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق