• ٧ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٥ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المبادرة إلى الخيرات

أسرة البلاغ

المبادرة إلى الخيرات

(ولا نتكلَّف إلّا ما يُدني من ثوابِكَ).

من المعلوم أنّ الدوافع للقيام بالأعمال سواء أكانت الأعمال ذات طبيعة أخروية أو دنيوية هي دوافع مختلفة بين الأفراد كلّ بحسب فكره وهدفه، إلّا أنّ هناك شيئاً مشتركاً يمكن أن يجمع جميع هذه الدوافع الجزئية أو الكليّة وهو النيّة أو الغرض من العمل أو الهدف والمقصد وهو ما يسلّط الإمام زين العابدين (ع) الضوء عليه ويتناوله في هذه الفقرة من الدعاء.

فالدافع الأصلي الذي ينبغي أن يشمل جميع أعمال أهل الإيمان ويكون المحور الذي تدور حوله أعمالهم وأقوالهم ومواقفهم هو نية التقرّب إلى الله وابتغاء رضوانه، فكلّ عمل يقرّب إلى الله ينبغي أن يكون في دائرة الاختيار عند القدرة عليه، وكلّ عمل يبعّد عن الله ينبغي أن يكون في دائرة الرفض والامتناع حتى مع وجود القدرة عليه، فالمقياس هو القرب من الله والبعد عن سخطه وكراهيته.

وفي هذا الشهر الكريم يتأكّد هذا الدافع بشكل خاص عند المبادرة إلى الأعمال الصالحة، سواء في الأعمال الفردية أو الأعمال ذات الطبيعة الاجتماعية التي تنعكس على الأُمّة بالخير العميم، كالمساهمة في المبرّات والخيرات والأعمال الصالحة.

فلا ينبغي للمؤمن أن يكسل أو يتقاعس عن مثل هذه الفرص والتي تمثّل أفضل زاد الآخرة لكونها تقترن مع شهر الرحمة والمغفرة، حيث ينبغي عليه المسارعة بالخيرات والمسابقة إليها إذا لا يعلم متى يأتيه الأجل ويغادر الدنيا فيخسر ثواباً عظيماً ينفعه في مستقبله الأخروي حياته الخالدة، فالعاقل من بادر إلى الصالحات قبل حلول الأجل.

عن رسول الله (ص) قال: "إنّ الله يُحبُّ من الخير ما يُعجَّلُ".

وقال (ص) في حديث آخر: "مَن فتح له بابُ خيرٍ فلينتَهِزْهُ، فإنّه لا يدري متى يغلق عنه".

إذ قد تضيع فرص هذا الثواب بحدوث متغيرات طارئة قد تصرف الإنسان عن هذا العمل، أو يسبقه إليه غيره فيفوز بالحسنى وعاقبة الدار بينما يخسر المؤمن مثل هذا الثواب العظيم.

ولذا يوصي أمير المؤمنين (ع) بضرورة المبادرة وعدم التأخير أو التسويف في عمل الخير فيقول:

"بادروا بعمل الخير قبل أن تُشغلوا عنه بغيرِهِ".

إذ إنّ من طبيعة الحياة هي كثرة المشاغل التي تطرأ على الإنسان وتحرف فكره ومساره عمّا كان عليه إلى فكرة أخرى أو مسار جديد أو حدوث متغيّرات تعيقه عن مواصلة ما كان عليه أو ما كان يهمّ بالقيام به.

وعن الإمام الصادق (ع) قال: "إذا هَمَمْتَ بخيرٍ فلا تؤخِّرْهُ، فإنّ الله تبارك وتعالى رُبّما اطَّلَع على عبدِهِ وهو على الشيء من طاعته فيقول: وعزَّتي وجلالي، لا أعذِّبك بعدها" (أي ربّما نال العمل عفو الله ورضوانه أو ربما وافاه الأجل وهو يقوم بفعل الخير فيفوز برضوان الله وفضله وحسن العاقبة).

ولعلّ من الأسباب المهمّة التي تدفع الإنسان إلى تأجيل العمل الصالح هو كيد الشيطان ومكره الذي يريد به أن يحرم العبد من الوصول إلى رحمة الله ورضوانه.

عن الإمام الباقر (ع) قال: "مَن هَمَّ بشيءٍ من الخير فليُعجِّلْهُ، فإنّ كلُّ شيءٍ فيه تأخيرٌ فإنّ للشيطان فيه نظرةً".

(أي إنّ تأخير عمل الصالح يتيح للشيطان أن يحاول مرّة أخرى في صرف المؤمن عن هذا العمل الصالح).

وعن الإمام الصادق (ع) قال: "كان أبي يقول: إذا همَمْتَ بخيرٍ فبادر، فإنّك لا تدري ما يَحدُثُ".

ولو راقب الإنسان نفسه لتعجّب من الأساليب والحيل التي يتبعها الشيطان في صدّه عن المبادرة للخير والثواب، من التأخير والتسويف، والتأجيل والتريّث، ومن التأميل لموارد أفضل وأعظم ثواباً، ومن التقليل لأهمية ما يقدّمه من مالٍ أو جهدٍ، ومن فتور الهمّة وضعف العزيمة، والتقاعس عن الخيرات، والتشكيك في جدوى العمل وصحّته، وأمثال ذلك من الأعذار حتى ينتهي به الحال إلى القعود وعدم القيام بأي من أعمال الخير.

فإن أراد العمرة مثلاً صرفه الشيطان عنها بأمل الذهاب للحجّ، وإن جاء موقع الحجّ أمّله بالذهاب إلى العام القادم مع أهله وأولاده، وإن جاء العام القادم علّله بالتأجيل لمدّة عام بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وما شابه ذلك من الأعذار والمبررات التي تحول دون ذهابه للعمرة أو الحج.

وإن أراد الإنفاق في سبيل الله صرفه عن المبادرة السريعة بحجّة دراسة الموضوع، أو نيّة صرف مبلغ أكبر، أو المشاركة مع الآخرين لتعظيم الثواب، وهكذا حتى تزول همّته وتضعف نيته عن المساهمة حتى بالمقدار الذي كان ينوي صرفه من قبل.

ولذا فخير الأعمال وأزكاها ما بادر المؤمن إليها بدون تردّد، وأن تكون نيّته فيها هي القرب من الله والمسارعة إلى رضوانه، فعندها لن يخسر شيئاً حتى لو خسرت تلك الأعمال مادياً، لأنّه قد أعطاها لله سبحانه وهي محفوظة عنده ومردودة بأضعاف مضاعفة يوم الفقر والحاجة.

وفي شهر رمضان تعظيم فرصة الفوز بالخيرات وبأضعاف مضاعفة فخير العباد من بادر إلى هذه الفرصة وسبق إلى تحصيل رضوان الله وعظيم ثوابه.

(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (الواقعة/ 10-11).

ارسال التعليق

Top