• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

شهر رمضان.. برنامج تربية وعبادة

عمار كاظم

شهر رمضان.. برنامج تربية وعبادة

رمضان.. والصيام.. والقرآن.. والقيام.. والدعاء.. والإنفاق.. وفعل الخير والمعروف.. والإيثار والتضحية.. أودية وأنهار متدفقة كلّها تصب في رافد كبير يتولّى تزكية الإنسان وتطهيره من الأدران العالقة بوجوده ومسيرته التكاملية في هذا الوجود الفسيح الذي يولد فيه ويراد له أن يتكامل في ظرفه الزمكاني. لقد وصف هذا الشهر العظيم بصفات تنسبه إلى الله تارة وإلى الإنسان تارة أخرى. فقد وصف بأنه شهر الله الأكبر كما وصف بأنّه: شهر التوبة وشهر الطهور وشهر الصيام وشهر القيام وشهر الإيمان وشهر الإسلام وشهر التقوى وشهر التمحيص وشهر الإخلاص. من المعروف إن الإنسان بحاجة ماسّة إلى التربية الشاملة والمستمرّة مدى الحياة. التربية التي تربطه بالله باستمرار وتحقق له حالة الخشية والخضوع لله تعالى وانّ هذه التربية إنّما تتحقق عبر برنامج شامل لكلّ مجالات الحياة ولكلّ مراحلها. وهذا البرنامج التربوي في الإسلام هو برنامج عبادي عام ويتضمن برنامجاً بل عدة برامج عبادية خاصة. والبرنامج العبادي الخاص يتحقق عبر أنواع من العبادات والشعائر التي يعيّنها المعبود الحقّ الذي يعلم مَن خلق، وكيف خَلق، وكيف يوصل ما خلق إلى الأهداف المرجوّة والمنظورة من خلقه. فالإنسان الذي يتشوّق إلى الكمال ويتطلّع إلى السعادة الحقيقية يتطلّع إلى البرنامج الإلهي الذي أخبر عنه تعالى في محكم كتابه حين قال: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة/ 185). وقد قال الله تعالى عن ما تضمّنه القرآن من الهدى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء/ 9). ويعتبر شهر رمضان فصلاً جامعاً لأصناف العبادات الخاصة التي تعطي للشهر المبارك طابعاً يتفرّد به هذا الشهر عن سائر الشهور. وقد عبّر الرسول الأعظم (ص) عن ما تميّز به هذا الشهر الفضيل بأنّه شهر "دُعيتم فيه إلى ضيافة الله"، فكانت ميزته أنّه شهر الضيافة الإلهية للإنسان. إنّ تسميته بـ"شهر الله" أو "شهر الله الأعظم" بالرغم من أنّ كلّ الشهور هي شهور الله وكلّ الأزمنة هي لله سبحانه – إذ لا يخرج شيء عن سلطان الله – إنما هي باعتبار هذه الإضافة التي تعبّر عن خصائص وميّزات لهذا الشهر لا يمكن أن نجد مثيلاً لها في سائر الشهور.

وبما يحمله هذا الشهر من قرب خاص للإنسان تجاه ربّه، وأعمال يقوم بها خالصة لوجهه الكريم، واستيعاب لنشاطات الإنسان المؤمن، وتوجّه مباشر للإنسان إلى عالم الآخرة، وابتهال ودعاء وإنابة متواصلة في ليالي هذا الشهر وأيامه وساعاته تصبح كلّ لحظات الإنسان في هذا الشهر عامرة بالذكر والتسبيح. ومن هنا أصبحت أنفاس المسلم في أيام هذا الشهر تعدّ تسبيحاً، ونومه يعدّ عبادة، وبذلك تسمو روح المؤمن إلى الملأ الأعلى وإلى بارئها سموّاً متميزاً بالكيف والكم وانطلاقاً وتحرّراً من عالم المادة إلى عالم المعنى بحيث تكون كلّ لحظات حياته مستثمرة في طريق الكمال إن أراد الإنسان ذلك. ومن هنا كانت هذه الخصائص التي خصّ الله بها هذا الشهر الكريم وعبّأها فيه تعبيراً عن غذاء روحي وموائد معنوية تتغذى بها روح المؤمن وترتقي بسببها في سلّم الكمال وطريق الخلود. وهذه هي الضيافة الربّانية التي جعلت من هذا الشهر ضيافة خاصة لا نجد مثلها في سائر الشهور. وقد عبّر البعض عن هذه الضيافة بأنها ضيافة الروح لا الجسد، ولكن نصّ الحديث النبوي الشريف لا يأبى أن تكون هذه الضيافة شاملة لكلّ أبعاد وجود الإنسان من دون اختصاص بالروح فقط، وإن كانت الروح هي التي يُراد لها أن ترتقي ولكن عبر الجسد ومن خلال الغرائز والشهوات التي قد زوّد بها وجود هذا الإنسان. ومن إنّ الصحة التي جاءت في حديث الرسول (ص): "صوموا تصحّوا" هي الصحة النفسية والجسدية والعقلية والسلوكية جميعاً. فهي ضيافة شاملة وتكريم خاص للمؤمنين ليتزوّدوا من عطاء هذا الشهر زاداً ممتعاً لهم ويستثمروا ما كسبوه فيه لسائر الشهور. فهو محطّة تضخّ المؤمن بالحيوية والنشاط الإيماني ليعيش في ظل بركة هذا الشهر مباركاً وآمناً من الذنوب في سائر شهور السنة.

ومن هنا جعل الله سبحانه للشهر الفضيل برنامجاً يتناغم مع الهدف الكبير في تربية الإنسان تربية نموذجية تحقق له كلّ ما أرد الله له من رضا وكمال يكتسبه من خلال المعاناة الممنهجة في الصيام والقيام وتلاوة القرآن وسائر الأعمال الصالحة التي زاد من قيمتها الظرف الخاص الذي تميز به الشهر الفضيل. القرآن الكريم يعلمنا وكذلك الصيام يعودنا على سلوك إنساني رفيع، وهو غض البصر عن محارم الله تعالى، فراقب إيها الصائم تصرفاتك في شهر المغفرة، فإنّه يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور. أيضاً يتعلم الصائم البعد عن كثرة الكلام، والتقليل من الجدل الكلامي فرمضان فرصة أن يقلل الصائم من حجم الكلام، ويكثر من حجم العمل. من المعاني الجميلة التي يربي الصائم عليها نفسه ويتعاهدها كثرة الاستغفار، وتجديد التوبة، قال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور/ 31)، فيعلّم الصائم نفسه الانكسار، والخضوع، والافتقار إلى الله تعالى في جميع أحواله وشؤونه، مدركاً أنه محتاج إلى رحمة الله تعالى، وراجياً أن يتقبل الله توبته، فإذا أردت أن تكون عبداً شكوراً، أكثر من الاستغفار، وجدد التوبة مع الله تعالى في كل يوم لتفوز برضوان الله وجنته.

فالصيام يهدف إلى تقوية الإرادة ليمتلك الإنسان قدرة حماية نفسه من الانزلاق، وهذه الإرادة تعزِّز حالة التقوى التي تشمل أعمال الإنسان في حياته، وقوله لعلكم تتقون، لارتباط التقوى بأداء حق الصيام بالشكل والمضمون الصحيحين. فالصيام يستهدف تزكية النفوس حتى تتقي حرمات الله وتتجنب مظالم العباد وليس الصيام نافعاً ولو لم يؤد إلى التقوى وهي الفائدة الرئيسية التي يغرسها الصيام في النفوس.

فالعبادات شُرّعت لتهذيب النفوس، وتربية روح المساواة، وروح الاجتماع الذي لا اعتداء فيه، وإذا كانت العبادة لا تحقق تلك الأهداف، فهي ليست عبادة ولا يقبلها الله – سبحانه وتعالى – الصوم مُهذّب للنفوس ورافع لها من مستوى المادة الضيق إلى مستوى الروح والروحانية الواسع الرحب، الذي إذا طُبّق حقّ التطبيق، فإنّ الإنسان لو صام وأكلَ مال الغير أو اغتاب أو غير ذلك، فلا صوم له.. ويكون مصداقاً لقول النبيّ (ص): "كم من صائم ليس له من صومه إلّا الجوع والعطش".

ارسال التعليق

Top