• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

وماذا بعد رمضان؟

وماذا بعد رمضان؟

خلال شهر رمضان المبارك: كان المسلم يعيش بين صيام، وقيام، وتلاوة قرآن.. وربما إعتكاف، وخلوة، واعتمار لله تعالى.. فالنهار في الصيام.. والليل في القيام.. والنهار والليل معاً في الذكر والدعاء والعبادة، ودرجات ترتقي بالمرء لأعلى ذرا الإيمان.. جهاداً للنفس، ولجماً لها عن الوقوع في المنكر، ودفعاً لها إلى الإستمساك بالطاعة، والثبات على الهداية، والمسارعة إلى الخير. فإذا انتهى رمضان، بحكم أن لكل شيء في هذه الدنيا نهاية، كان المسلم أحد ثلاثة أقسام:

    فهو إما أن يعود إلى سابق عهده – قبل رمضان – من الغفوة، والغفلة عن ذكر الله، والنوم عن الصلوات المكتوبات.. وعدم الصوم إلا ست شوال على مشقة.. مع الحرص بالكاد على إدراك بعض – وليس كل – الصلوات في جماعة.. وهذا حال الكثيرين.. وهؤلاء في شقاء لأنهم إن لم يتغيّروا برمضان، فلن يتغيّروا بغيره من وسائل الطاعة إلا أن يشاء الله. وهناك قسم ثانِ من الناس تعامل مع رمضان على أنّه غاية وليس وسيلة للتقوى والعبادة.. فإذا انتهى توقف جهاده مع نفسه، وتصوّر أنّه صار حلالاً له كل معصية إلى رمضان من العام المقبل! فعاد إلى سوء خلقه، وفاسد عمله.. وتعامل مع إخوانه من المسلمين تعامل اللئيم.. لا تعامل الطيب الكريم.. فهذا أشد شقاء من سابقه، ويكاد لا يتقبل الله عمله.. كيف لا وهو تعالى يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة/ 27)؟. أما القسم الثالث من الناس فهو الذي عقد النية على الانتفاع بفوائد رمضان، واستمرار الاكتساء بحلته النورانية الجميلة.. فاستمر على حاله من تقوى الله ومخافته، واستعان بوسائل ذلك من صلاة وصيام، وقراءة قرآن ودعاء وقيام... إلخ، فانصلح حاله، وبورك في حياته.. واستضاء كل من حوله بنوره.. وهذا الصنف من الناس نرجو الله أن يكون من المقبولين ومن الفائزين بعطايا الله في رمضان، وفي غيره من سائر شهور العام. فماذا عليك – أخي الكريم – لو صارت حياتك كلها رمضان، وكنت من الصنف الثالث... ولم تكن من الصنفين الأولين، وما عداهما من الأصناف المقبوحة والمرذولة.

هل إنجلت تلك المزن الموسومة بالخيرات؟ هل مضت العبادة والقيام والصيام التي خالجتها أحاسيس السعادة التي فاضت من ينابيع الإيمان.. التي فاضت من ربا الأتقياء، وجنان العباد؟.. ألن تدوم تلك المشاعر التي يبقى صاحبها طائراً محلقاً بإيمانه وراحة باله ونفسه، وسكون روحه. تساؤلات تزاحمت وتكاثرت.. لكن الحقيقة تتجلى لأولي الألباب أنّ هذه هي نهاية البداية.. هي نهاية مرحلة التجنيد الإيماني والروحاني التي توافرت فيها المهئيات من تكبيل الشياطين، ونزول الرحمات وفتح أبواب الجنان، وتغليق أبواب النيران.. فترة كانت مكثفة بالأعمال العبادية، وكسر حاجز الشهوات.. فترة من اجتهد فيها وثابر وحاول تحصيل أفضل التدريبات.. وأعلى الدرجات سيحصد أجود الثمار وأفضل النتائج.. إنها مرحلة قد مضت، ويبدأ الآن المشوار الحقيقي... فمن حصل في رمضان زاداً وفيراً، وإيماناً، عالياً.. سيكون ذلك معيناً له في مستقبل أيامه على طاعة ربه.     وتبدأ الآن المرحلة الثانية وتظهر النتائج الحقيقية.. فانظر في حالك، وقلّب نفسك.. هل بخلع ثياب رمضان وزوال أيامه وانخلعت معها العبادات والروحانيات التي كانت فيها. هل قمت تصلي في ليلة العيد بقدر ما كنت تقومه في ليالي رمضان؟! هل داومت على تلاوة كتاب الله عزّ وجلّ في كل يوم بجدية وتدبر وإمعان وتفكر، واجتهاد وتبحر؟!.. هل جاهدت نفسك على الابتعاد عن الشبهات ومواطن الرذيلة؟!.. هل كنت مقداماً في حُسن الخلق لأنّه جامع الخصال الحميدة. عندما تجيب عن هذه الأسئلة ستتضح لك الرؤية الحقيقية وستعلم حينها حقيقة نفسك، وستعلم حقيقة العبرات التي ذُرفت وسالت: هل كانت دموع عاطفة أم إقلاع فندم ثم عزم على التعديل.. ستعلم حينها حقيقة نارك المتأججة على ذنوبك.. حقيقة حرقتك على ما حصل وما جرى. فإذا هممت فبادر.. وإذا عزمت فثابر.. واعلم أنّه "لن ينال المفاجر من جاء في الصف الآخر".

ارسال التعليق

Top