كان الشيخ "بو زيد" عائدًا إلى بيته برفقة بقرته، مسترجعًا إياها من حظيرة صديقه "بو طلال"، بعد أن قضت يومين هناك لكي يقوم ثور "بو طلال" بتجحيشها.. كان "بو زيد" راضيا بهذه الزيارة التي ستؤدي حتمًا إلى أن "تعشِّر" البقرة وتلد له عجلا أو اثنين، مما سيزيد الرزق الحلال.
مشى "بو زيد" مقصوف الظهر وأخاديد التعب اختلطت بتجاعيد وجهه التي حفرتها السنون جراء عمله المضني في أرضه المغروسة بأشجار الزيتون، متسلقا الجبال، معتنيا بأشجاره، جارا وراءه بقرته الهولندية الضخمة القوية، وتستدل من طريقة جره للبقرة ونظراته التي يصوبها نحو عينيها بين الفينة والأخرى، بأن هناك علاقة متينة تربطهما معا.
عند مدخل القرية، استوقفه شابان في مقتبل العمر.. اقتربا منه وسألاه عن حاله وأحواله فرد عليهما بالمثل.. تبرم الشابان وهما يرميان البقرة بنظرات إعجاب، فتأكد الشيخ بأن في جعبتهما أمرا مهما، وفي طيات كلامهما مشكلة لا محالة.. فسأله أحدهما وهو أشقر الشعر: هل البقرة للبيع؟
- لا، ليست للبيع. قال "بو زيد" وهو يهم بالابتعاد.
فتقدم الشاب الآخر وهو مربوع الجسم ثابت الجنان ورباطة جأشه تنم عن بارقة أمل، وقال: سنعطيك المبلغ الذي ستطلبه ثمنا لها..
فكر "بو زيد" قليلا، وقال في نفسه: أذا بعتها بضعفي ما اشتريتها يمكنني شراء بقرة وثور. وحدد ثمنها لهما، فقال له القصير: اشتريناها..
وحط في يد "بو زيد" ألف شيكل عداً ونقداً وقال: هذه سلفة، غدا بإذن الله سنأتي مع بقية المبلغ لنستلم البقرة.
عاد الشابان أدراجهما راضيين مسرورين وجر "بو زيد" بقرته إلى بيته وهو لا يدري ما اقترفت يداه وما زل به لسانه، كان مطمئنا بأنه أبرم صفقة رابحة أكثر مما يتوقع، ولكن شعور خفي عشش في قلبه دون أن يدري كنهه.
وصل بيته، أدخل البقرة إلى الزريبة، طبطب على ظهرها وهي تجول وتصول ولاحت ذيلها بعصبية طاردة بعض الذباب الذي حط على بطنها، ونادى زوجته: يا "أم زيد".. قومي حطي شوية شعير لبقرتنا، أكرميها وأطعميها لأنها ستتركنا غدا، فقد بعتها.
قفزت "أم زيد" من مكانها، وهي تزعق: شو عم بتقول يا "بو زيد"؟! معقول فرطت ببقرتنا وهي مثل ولد من أولادنا وأغلى.. معقول يا زلمة؟ بعت البقرة التي تحرث لنا الأرض بلا كلل كل عام، من أين ستشتري الحليب وأي حليب سيكفي لصنع الجبنة والسمنة والقشدة؟
- أصمتي يا امرأة.. لقد بعتها بضعف الثمن الذي اشتريتها به..
- يا ويلك من الله سنترمل جميعا إذا راحت البقرة.. ومن قال لك بأن ثمنها ما زال كما اشتريتها، إنها تساوي اليوم أكثر من الضعف..
وأخذت "أم زيد" تلطم خديها وتقول: إذا البقرة خرجت من البيت، سأخرج معها ولن أبقى في بيتك يوما واحدا.. إذا طلعت البقرة ستطلع روحي معها.
أخذ "بو زيد" يفتل شاربيه، لا يعرف بماذا يجيب، ولم ينهر زوجته كعادته لأنها كانت صادقة مائة بالمائة، وأحس بأنه تسرع، فلعن الشيطان الذي وسوس له وتعجل بإعطاء كلمته للشابين.
في تلك الليلة الليلاء، لم يعرف الزوجان كيف بلغهما الصباح، لم يغمض لهما جفن، و"ام زيد" على نار، تفكر في طريقة أدهى من أن تقع في هذا الفخ، وابتلت وسادتها من دموعها التي انهمرت طوال الليل، أما وسادة "بو زيد" فقد عشقت رائحة السجائر العربية التي لم يتوقف عن تدخينها طوال الليل.
ومع انبلاج الصبح وقبل أن يتحدث "بو زيد" ولو بكلمة واحدة مع زوجته وإلا بسيارة شحن كبيرة تقف أمام بيتهما وينزل منها الشابان.. تنحنحا وبعد أن ألقيا السلام، دخلا إلى بيت "بو زيد" وشربا قهوتهما و"بو زيد" مطأطأ رأسه، ينتظر حدوث أعجوبة تخرجه من مأزقه.
انتظر حتى أنهى الشابان قهوتهما. ودقات قلبه تتضاعف مع كل رشفة يرتشفانها، ثم تنحنح وقال بصوت متحشرج: اسمعا يا شباب، البقرة ليست للبيع وتفضلا الألف شيكل، أنا تسرعت بإعطائي كلمة لكما، والعجلة من الشيطان. يخلف عليكم وكثر الله خيركم.
نظر الشابان أحدهما إلى الآخر وقال الأشقر ساخرًا: أنت "بو زيد" حقا أم أن "بو زيد" لقب أنت بريء منه؟!
ثار غضب "بو زيد" الذي كظمه منذ ليلة الأمس ولم يجرأ على تفجيره في وجه أم زيد لأنها كانت على حق، فصرخ وعربد في وجه الشابين وقال: خذا البقرة فهي لكما..
رمي أحد الشابين المال الذي تبقى من ثمن البقرة أمام "بو زيد" وقام بإخراج البقرة من الزريبة متجها نحو الشاحنة، سحب البقرة وكأنه يسحب قلب "بو زيد" من بين ضلوعه، وأم زيد تقف خلف الشباك تراقب وتنتحب بصوت خافت وتنتف شعرها و"بو زيد" يرفّ بعينيه وقد همتا بالبكاء، نافخا منخريه، يردد أمام الشابين وعلى مسمع من زوجته: الرجال مواقف وسبق وقلت كلمتي..
صاحت أم زيد من الداخل وصوتها يتهدج بالتوسل: أيها الشابان انتظرا.. "بو زيد" باعكم البقرة وهي حصته ولم يبعكم ابنها وهو حصتي وهو يساوي عشرة أضعاف أمه.
نظر المربوع نحو أم زيد مستغربا، ثم قال: يا خالتي نحن لن نأخذ سوى هذه البقرة ولن نأخذ ابنها..
- صحيح، لكن البقرة "معشرة"، وربما تلد عجلا أو اثنين، وهذه حصتي من البقرة كما اتفقت مع "بو زيد"، وهي تساوي عشرة أضعاف السعر الذي تدفعانه.. ادفعا هذا الثمن وخذا البقرة بما تحمل..
ندمت أم زيد على زلة لسانها، فقد فات أوان تصحيح غلطتها، فأطلقت تنهيدة أفرجت عما يجتاح صدرها. وابتسمت عندما نزلت البقرة من الشاحنة. وضحكت حتى دمعت عيناها وكأن الدنيا لم تسع سعادتها.
فتل "بو زيد" شواربه ونظر صوب الأرض خجلا من بقرته وزوجته، وتمتم قائلا: مين قال إنو المرأة بنص عقل؟ أنا بلا عقل بالمرة..!!
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق