• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

انشراح الصدر في القرآن الكريم

انشراح الصدر في القرآن الكريم
◄القرآن الكريم، ينوّهُ بهذا العلاج، في سورة الانشراح، حيث يخاطب النبي الكريم (ص)، بقوله تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (الشرح/ 1-5). فشرح الصدر: ذهاب هَمِّهِ، وزوال أسباب القلق، والاضطراب، ومعلوم أن استعمال كلمة (الصدر) في السورة، كناية عن النفس، فالنفس هي التي تنقبض وتنشرح، وقد كنَّى القرآن عنها بالصدر، ربما لأنّ الصدر متنفَس الإنسان، أو لأنّه كان لابدّ من الإشارة إلى النفس، بجزءٍ من جسم الإنسان، فكانت الإشارة تارة إلى الصدر، وأخرى إلى القلب، لأنّهما موطنا النفس. وقد كانت نفس رسول الله (ص)، تضيق، لِما كان يحيط به من عوامل الأسى، واجتلاب الهم، وما كان يعيشه من تفكير دائم، عن مستقبل الرسالة، ووضع هذا الدين بين ظهراني قوم رفضوا الأخلاق والقيم الإسلامية، وعقدوا العزم على محاربة صاحب الرسالة، وهو ضعيف بين أعداء غلاظٍ أشدّاء، وهو إلى ذلك خِلوٌ من المال الكافي، لدعم قضيته، في حين أنّ أعداءه أغنياء إلى حدّ التخمَةِ، يملكون وسائل التأثير في الناس بأموالهم وإمكاناتهم، وهو (ص)، ليّن الطبع، حسن الأخلاق، وهم متعجرفون، قساة لا يتوانون عن إيذاء وقتل من شاؤوا من أصحابه وجماعته... ماذا يصنع مع هذا الواقع المرّ؟ كيف السبيل لإصلاح هذه القلوب العمياء، والنفوس المريضة؟ من هنا، كانت تعتريه حالات من اليأس منهم، وتتكدَّر نفسه الشريفة كلما واجَهَ نوعاً من هذه المعاناة.. وكانت الآيات تنزل عليه تترى عليه من الله عزّ وجلّ، تسليه، وتُرَفِّه عن نفسه الكريمة، وتجبر خاطره، وتأمره بالصبر، والثبات، والاستقامة، والمثابرة في العمل، ومواصلة الدرب. (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ...) (القلم/ 48). (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) (الطور/ 48). (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) (هود/ 112). (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) (الرعد/ 32). ورغم ذلك، كانت نفسه (ص)، تنقبض أحياناً، حين تتراكم الهموم عليها، فلا يرى في الأُفق بصيصاً من أمل، ولكن الله عزّ وجلّ، أصلح شأن هذه النفس النبوية الكريمة، فأزاح عنها أثقال الهموم، ووضع عنها أوزار الغموم، وشرح صدر نبيِّهِ المصطفى (ص)، فطابت نفسه، واطمأنت لرحمة ربّها، ففوض الأمر إلى الله تعالى، وأيقن أنّ الله ناصِرَه وحاميهِ، ومؤيّدة. وقد ورد عن ابن عباس (رض) قال: سأل رجلٌ رسول الله (ص): "أينشرح الصدر يا رسول الله؟ قال: نعم فقال: يا رسول الله، وهل لذلك علامةٌ يعرفُ بها؟ قال: نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإعداد للموت، قبل نزول الموت. وبعبارة أُخرى، ينشرح الصدر باليأس عما في أيدي الناس، والانقطاع إلى الله – عزّ وجلّ – وتذكر الموت، والاعتماد على الله في كل حال... فالمؤمن لو تحلى بهذه الصفات، رضيت نفسه بما قدر الله له، وبالواقع الذي يعيشه، فيطمئن، وترتاح نفسه. (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28). وتعرض سورة الانشراح، حالتي العسر واليسر اللتين تكتنفان حياة بني البشر، ولا يخلو منها أحد، ما دام يتمتع بالحياة في هذه الدنيا، فالمرء يتنقل بين العسر واليسر أبداً دائماً، لأنّ ذلك من سنن الكون، ومن قوانين الحياة، وعلى هذا لا ينبغي أن يُحمِّلَ الإنسان نفسه – في حالة العسر – فوق طاقتها، فيقلق للمستقبل، وييأس من اليسر والفرج. بل عليه أن يكون مطمئناً بروح الله سبحانه، وانّه تعالى، لابدّ أن يعقّبَ عسره يسراً، وشدته فرجاً (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (الشرح/ 5-6)، فيكون بذلك يحيا يسراً بالفعل، أو يكون بانتظار يُسر. عن ابن عباس، قال: قال الله تعالى – وفي حديث قدسي –: "خلقتُ عسراً واحداً، وخلقتُ يسرين، فلن يغلبَ عسرٌ يسرين". وقال الفرّاء النحوي: إنّ العرب تقول: إذا ذكرتَ نكرةً، ثمّ أعدتها نكرة، صارت اثنتين كقولك: إذا كسبتَ درهماً فأنفق درهماً، فالثاني غير الأوّل، بخلاف لو ذكرت معرفة وأعدتها معرفة، فالثانية نفس الأولى. وفي الآيتين ذُكِرَ العُسرُ معرفةً، وذكر اليسر نكرة، فكان اليُسر يسرين، والعسرُ واحداً. وروي أنّه لما نزلت سورة الانشراح، خرج النبي (ص) فرحاً مسروراً يقول: (لن يغلب عسرٌ يسرين) وقال شاعر:  إذا بلغ العسر مجهوده
ألَم تَرَ نحسَ الشتاء الفظيع
فثق عند ذاك بيسرٍ سريع
يتلوه سعد الربيع البديع  وعن ابن مسعود عن النبيّ (ص)، انّه قال: "لو كان العسرُ في حُجْرٍ لدخل عليه اليسر حتى يُخرِجَه" ثمّ قرأ: (إنَّ مَعَ العُسرِ يُسْرَا). وروي عن عليّ أمير المؤمنين (ع)؛ "عند تناهي الشدة تكون الفُرجة، وعند تضايق حلق البلاء يكون الرخاء". وفي ذلك يقول أبو العتاهية: هي الأيام والغِيَرُ *** وأمرُ اللهِ يُنتَظَرُ أتيأس أن ترى فرجاً *** فأين الله والقَدَرُ ويقول آخر: فلا تجزعي إن اظلَمَ الدهرُ مَرّةً *** فإن اعتكار الليلِ يؤذن بالفجر   وقفة مع الآيات: ولنلقِ نظرة عاجلة، إلى آيات الله البيّنات، التي تتضمن هذا المعنى، ولنرَ كيف يتصرف الله عزّ وجلّ في نفوس بني البشر، ويغيّرها من حال إلى حال، حسب ما تقتضيه حكمته ومصلحته، سبحانه وتعالى. ربما تكون النفس مشحونة بالخوف، لسبب أو لآخر، فَتَهبِطُ السكينة من عند الله تعالى على هذه النفس، وتزيل الإرادةُ الإلهيةُ الخوفَ من القلب، وتستقرُّ النفس ويطمئن القلب دون أن تجد أي عامل أو سبب ظاهر لذلك، سوى القوة الغيبية، والإرادة الربانية.. وهذا ما حصل لأصحاب رسول الله (ص)، في إحدى معاركهم مع المشركين، فقد دهمهم العدو، بكامل العدة والعدد، والمسلمون آنذاك، قلة ضَعيفة، فغشيتهم سحائب الخوف، وأحاط بهم الموت، وضيق عليهم العدو، وأخذ عليهم مسالك النجاة.. فكان الأجدر بهم، أن يزعزعهم الرعب، ويقضي على معنوياتهم، فتموت نفوسهم، وينتصر عليهم العدو. ولكن لم يكن ذلك، بل ربط الله على قلوبهم، وأصلح بالهم، ففي ساعة الحَرَج والشدّة، قويت عزيمتهم، وصلبت إرادتهم، وأزاح الله عن قلوبهم ذلك الخوف القاتل. يقول تعالى: (وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ) (الأنفال/ 11). ويقول: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) (الأنفال/ 10). وتختلف هذه الصورة عكساً مع الكفار، أعداء الله، فيزرع في نفوسهم الخوف، ويقذف فيها الرعب، ويتصرف معهم سلباً، كما تصرف سبحانه وتعالى، مع المؤمنين إيجاباً.. فهم رغم قوتهم، وتمكنهم من العُدّة والعدد، امتلكهم خوف شديد، وتمكن من نفوسهم، بحيث كانت الهزيمة من نصيبهم.. قال تعالى: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ...) (آل عمران/ 151). وقال أيضاً: (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ...) (الأنفال/ 12). وقال أيضاً: (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) (الأحزاب/ 26). وقال سبحانه: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) (الحشر/ 2). ويتحدث القرآن عن أُم موسى، وكيف أنّ الله مَلَك قلبها، وثبَّته، وهدّأ من روعها، فقد نأى عنها ولدها مدة من زمن يسير، فقد ألفته في البحر، وذهبت به الأمواج بعيداً عن عينها... ثمّ علمت أنّه في بيت فرعون... ثمّ جمعتها الإرادة الإلهيّة برضيعها، فلما وقعت عينها عليه، ورأته قد عاد إليها سالماً معافى، لا بأس عليه، كاد الشوق والحنين إليه يكشفان عن حقيقتها، ويعلم الطاغية انها ليست مرضعة، كما زعموا، بل هي الأُم الحقيقية لهذا الرضيع. هنا ربط الله على قلبها، لكيلا تفضح نفسها، وتكشف أمر وليدها. يقول القرآن الحكيم: (إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (القصص/ 10). فلو تركها وطبيعتها النسوية، وفطرةَ الأمومة فيها، لكادت تبدي به، فقد كان (فؤادها فارغاً) ولعلموا انها إسرائيلية، دخلت بيت فرعون، بصفة مرضعة، وفي ذلك من التبعات والنتائج السيئة لها ولولدها، ما لا يخفى. ولكن الله عزّ وجلّ تصرف في نفسها، وجعلها هادئة، مستقرة، رابطة الجأش، بحيث لا يظهر عليها سلوك يعرّضها ووليدها للخطر. ولقد كانت بعض النفوس – حين قام الرسول (ص) بتبليغ الرسالة – لا تَستَحِبُّ الإيمان بالله، والإقرار بالإسلام، فقد اعتادت دين الآباء، وترعرعت في أحضان الشرك ولم تجد ميلاً إلى الدين الجديد، والرسالة المحمدية، ولا تطيب للإقرار بوحدانية الله تعالى، ونبذ الأوثان... ولكن الله قلَّب هذه القلوب، وحبَّب إليها الإيمان. يقول تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات/ 7). وقد يحدث عكس ذلك، فكثيراً ما يتمتع أحدهم بنفس نقية، وقلب نظيف في أوّل أمره، ويكون بشكل يرتضيه الدين، ولكنه يتصرف تصرفاً خاطئاً، ويعمل عملاً شائناً ويصر عليه، دون توبة أو استغفار، ويتمادى في غيّه دون ندم، مما تؤول به الحال إلى سوء العاقبة، وسوء المُنقَلَب. قال تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ...) (الصف/ 5). ولذا وجّهتنا التعاليم القرآنية، أن نسأل الله سبحانه، أبداً دائماً، أن يجنبنا حالة سوء المنقلب، وسوء المصير، وزيغ النفس عن طريق الهدى. (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران/ 8). ومن صور تصرف الله عزّ وجلّ في نفوس الناس أيضاً، وتوجيه قلوبهم نحو الوجهة الصحيحة، ما يذكره القرآن الكريم، من حال الناس قبل الإسلام، وما كانوا عليه من عداوة وبغضاء، ومنازعات دامت عشرات السنين، حتى إنّ الرجل منهم، لم يكن يأمن على نفسه أو أهله، أو ماله، من اعتداء الآخرين، وبخاصة (الأوس والخزرج) في يثرب. كان الخوف الدائم يخيّم بظلاله عليهم، فجعل حياتهم تعيسة لا تكاد تُطاق. وكانت الحروب والغارات، قائمة على قدم وساق فيما بينهم، فأنَّى لهذه النفوس أن تزكو، وهذه القلوب أن تصفو؟ كيف يمكن إحلال المحبة والوئام، محل العداوات المتأصلة في النفوس؟ ولكن الله عزّ وجلّ، حقق ذلك، وقلَّب القلوب، وتصرف في النفوس، فنزع تلك الأحقاد من نفوسهم، وأحلَّ محلّها الإخوة والتوادد والألفة!! ولم يَعُد للكراهيةِ والبغضاء محلٌّ في نفوسهم!! قال تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) (آل عمران/ 103). ويوجّه الخطاب للنبي الكريم (ص)، إنّ هذه العداوات كانت متأصلة في نفوس قومك، متعمقةً في قلوبهم، بحيث: (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال/ 63). فالله وحده القادر على أن يطبع في النفوس ما يشاء، أو يزيح عنها ما يشاء... ولو كان الأمرُ للناس لعجزوا عن ذلك.

فسبحان مقلب القلوب.►

المصدر: كتاب رحلة إلى أعماق النفس

ارسال التعليق

Top