• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

إنجازات الذكاء الاصطناعي

إبراهيم فرغلي

إنجازات الذكاء الاصطناعي
 ◄مراقب آلي للقراء الشاردين

تخيل أنك أمام شاشة الكمبيوتر، تقرأ تقريراً إخبارياً في إحدى الصحف، أو دراسة لفتت انتباهك، أو بحثاً علمياً لك أو لغيرك، أو مادة من مواد تخصصك الدراسي أو البحثي أو العلمي، ثمّ تشتت تركيزك وفقدت انتباهك عما تقرأ، وهذا يحدث كثيراً، وعادة ما قد يتشتت الذهن أثناء القراءة إذا لم يجد ما أو من يردعه. لكن ماذا لو أنك وجدت النص أمامك وقد بدأ يهتز اهتزازات واهنة، أو يضيء بإضاءة خاصة عند الفقرة التي تشتت ذهنك عندها، فماذا ستفعل؟

ربما قد تتصور في البداية أنك تعاني خداع البصر، ولكن ماذا لو أعدت القراءة ثمّ فقدت تركيزك مرة أخرى عند فقرة ما مما تقرأ ثمّ تكرر الأمر؟ لعلك هنا قد تفكر بأنّ هناك شبحاً خفياً إلكترونياً قد عرف بتشتت ذهنك وأمسك بك متلبساً، ليعيدك إلى حيث كنت!

الحقيقة أنّ هذا الشبح الخفي قد تم ابتكاره بالفعل، وهدفه هو بالضبط الإمساك بك متلبساً بالشرود أو انعدام التركيز، وبالتالي إعادتك إلى حالة التركيز المطلوبة من دون إضاعة الكثير من الوقت.

فقد توصل أحد الباحثين إلى فكرة تمكن بمقتضاها من ابتكار مستشعر أو مكتشف يقوم برصد حالة القارئ الذهنية خلال القراءة على الحاسوب من خلال تتبعه لحركة العين على الشاشة.

السبب في التفكير في هذا الابتكار يعود إلى الدراسات التي أجريت على عدد كبير من القراء والباحثين، بهدف دراسة أسباب ضعف الذاكرة والقدرة على استعادة المعلومات عند عدد ممن يشكون من هذه الظاهرة. وأسفرت الدراسة عن إثبات أنّ القراء قد يفقدون ما بين 20 و40 في المائة من الوقت المخصص للاستيعاب والتركيز في أثناء القراءة نتيجة الشرود، وفي محاولة لتقليص هذا الوقت، بدأ التفكير في حل هذه المشكلة.

 

برنامج قرائي للشاردين:

بدأت أبحاث باحثين في جامعة نوتردام بولاية إنديانا، وهما سيدني ديميللو وروبرت بيكسلر، وأسفرت عن محاولة تصميم برنامج من شأنه رصد حالات تشتت ذهن الفرد بشكل دقيق، وإيجاد وسيلة لإعلان اكتشاف البرمجية لهذا الرصد.

واعتمدوا في ابتكارهم على منتج إلكتروني آخر كان قد ظهر لرصد عادات القراءة بشكل عام لدى القراء، وخصوصاً ممن يعانون عدم القدرة على التركيز في القراءة لفترات طويلة. كان ذلك البرنامج قد صمم بواسطة الباحث الياباني كاي كونزي من جامعة أوساكا لرصد كلّ ما يتعلق بعادات القراءة، مثل عدد الكلمات التي يقوم القارئ بقراءتها، ومتوسط سرعة القراءة، وما يلفت انتباه عينيه أثناء القراءة من مواد بصرية مختلفة، سواء كانت صوراً أو ملصقات، بل وعمل ملخصات مكثفة سريعة تظهر للقارئ من خلال درجة تركيز القراءة في فقرة بعينها مقارنة بغيرها، وغير ذلك، وهو ما حاول الاستفادة منه مصممو مواقع النشر والكتب للفت انتباه قرائهم، واستفاد منه مجال صناعة النشر الإلكتروني بشكل عام، بالإضافة إلى أنّه أثبت لمستخدميه من القراء أهميته في رصده لعادات القراءة الخاصة بهم، من جهة، وقدرته على توجيههم لقراءة أكثر تركيزاً وعمقاً، من جهة أخرى.

المهم أنّ هذا "المراقب" الإلكتروني كان الأساس الذي طور بمقتضاه الباحثون في جامعة نوتردام برنامجهم الخاص بالذاكرة وإشكالات القراءة، من خلال قيام هذا المراقب برصد حركة عين القارئ ومدى الزمن الذي تستغرقه العين في قراءة كلمة، ثمّ درجة اتساع الحدقة، وكذلك درجة تتابع حركة العين على الكلمات المتجاورة ثمّ السطور، وتحليل هذه المعلومات بوصفها سلوكيات القارئ أثناء القراءة، وعند وجود ما يفيد بانقطاع سلوك القارئ الاعتيادي، يمنح هذا الراصد الفرصة لتنبيه القارئ إذا ما ظهرت على عينيه ملامح الشرود أو عدم الانتباه.

 

مزايا بالجملة:

ولا يزال المصممات يقومان بالأعمال النهائية لتجريب البرنامج الجديد، وأكدا أنّه بالإضافة لأهميته الشديدة في ترشيد فعل القراءة، إضافة لأهميته الكبرى بالنسبة للباحثين والدارسين من الطلبة وغيرهم، فإنّه قد يكون شديد الأهمية بالنسبة لمجالات بالغة الخطورة وتقتضي قراءة التقارير الخاصة بها درجة عالية جدّاً من الانتباه والتركيز مثل الجيش، ما يعني أنّ مثل هذا البرنامج قد يوفر بالفعل فرصاً جيدة للقضاء على مخاطر أو كوارث محتملة يمكن أن تحدث نتيجة عدم الانتباه في قراءة معلومة أو فقرة معينة في تقارير ذات طابع مهم.

هذا الابتكار الجديد ربما سيكون له آثار إيجابية عديدة ربما على التعليم حتى ومستويات التحصيل الدراسي والبحثي، بل وعلى العديد من المهارات أو العمليات التي تندرج تحت توصيف الإبداع، وفق ما أكده عدد من الباحثين في جامعات أمريكية مختلفة، تعليقاً على إعلان موعد المؤتمر الصحفي الأوّل لإطلاق الابتكار الذي عقد أخيراً في الدنمارك.

هذا الابتكار الجديد واحد من عشرات أو ربما مئات التطبيقات التي تجري الأبحاث العلمية عليها يومياً، من أجل التأكد من تحقيقها للأهداف التي ابتكرت من أجلها. لكنه، من جهة أخرى، يدلل على درجة التطور الذي بلغته مجالات ما يعرف بالذكاء الاصطناعي.

 

الذكاء الاصطناعي:

الذكاء الاصطناعي يعد اليوم مجالاً واسعاً كثير التخصصات، بفضل ما تحقق فيه من إنجازات كبيرة وباهرة، لكنها تقوم بشكل أساسي وكبير على عمليات البرمجة، فهو كما يشير تعريفه كمصطلح: "سلوك وخاصيات معينة تتسم بها البرامج الحاسوبية تجعلها تحاكي القدرات الذهنية البشرية وأنماط عملها. ومن أهم هذه الخاصيات القدرة على التعلم والاستنتاج ورد الفعل على أوضاع لم تبرمج في الآلة. ومع ذلك يظل هذا التعريف إشكالياً ليس لما يتعلق بمضمونه من حيث إنّه خاصية تتعلق بالحاسوبيات، بل لعدم توافر تحديدات شديدة الدقة لمفهوم الذكاء نفسه".

وبالعودة للتعريف المصوغ بأكثر من لغة على موسوعة ويكيبيديا الإلكترونية والذي اعتمد على العديد من المراجع لصياغته، نجده يعرّف الذكاء الاصطناعي بأنّه فرع من علم الحاسوب، كما تعرفه الكثير من كتب الذكاء الاصطناعي على أنّه "دراسة وتصميم العملاء الأذكياء" والعميل الذكي هو نظام يستوعب بيئته ويتخذ المواقف التي تزيد من فرصته في النجاح. أما جون مكارثي، الذي صاغ هذا المصطلح في عام 1956، فقد عرفه بأنّه "علم وهندسة صنع آلات ذكية".

تشير الموسوعة أيضاً إلى أنّ هذا المجال أسس على افتراض أنّ مَلكة الذكاء يمكن وصفها بدقة، بدرجة تمكن الآلة من محاكاتها، وهو ما يثير جدلاً فلسفياً حول طبيعة العقل البشري وحدود المناهج العلمية، كما يدور الجدل أيضاً عن ماهية الذكاء وأنواع الذكاء التي يمتلكها الإنسان وكيفية محاكاتها من الآلة. وقد كان ومازال الذكاء الاصطناعي سبباً لحالة من التفاؤل الشديد، وأصبح جزءاً أساسياً من صناعة التكنولوجيا.

تتمحور المجالات الفرعية للذكاء الاصطناعي حول مشكلات معينة، وتطبيق أدوات خاصة، وحول اختلافات نظرية قديمة. المشكلات الرئيسة للذكاء الاصطناعي تتضمن قدرات مثل التفكير المنطقي والمعرفة والتخطيط والتعلم والتواصل والإدراك والقدرة على تحريك وتغيير الأشياء.

 

آلة تفكر كالبشر!

ويتجلى لنا هنا أنّ فكرة تطوير الذكاء الاصطناعي حين بدأت بتصميم آلة حاسبة تستطيع إجراء عملية حسابية معقدة من دون تدخل بشري كانت إعلاناً عن تطوير رهيب في مجال الحاسوبيات، لكن هذا التطور المستمر حين بدأ يدرك أنّ تطوير آلات قادرة على محاكاة العقل البشري وربما تجاوز قدراته، لا يمكن أن يتحقق بنجاح من دون فهم تام للدماغ البشري، ومن هنا بدأ التوسع في تعميق الدراسات الطبية والعلمية المختصة في علم الأعصاب وعلى تركيب المخ والكيفية التي يعمل بها.

وأهم ما يواجه العلماء من مشكلات في هذا المجال طبعاً هو كيفية أن تتحلى الآلة بخصيصتين بشريتين بامتياز وهما الفهم والإدراك.

على سبيل المثال، ووفقا لتعريف أرسطو: إنّ التفكير الصحيح هو العمليات السببية المفحمة، وعلى أساس الأنظمة التي تبنى لإعطاء استنتاجات صحيحة بشكل دائم يجب أن تعطى مقدمات منطقية صحيحة... إنّ مثل هذه القوانين تعتبر هي القوانين التي تسيطر على مجمل العمليات المنطقية التي يؤديها الدماغ البشري والتي كانت أساس تطوير علم المنطق.

ومع ذلك فقد وضع العلماء منذ الستينيات فكرة "تعلم الآلة" كهدف، ووضعوا الفكرة تحت البحث والدراسة. فقد كان علم الآلة محورياً في أبحاث الذكاء الاصطناعي منذ البداية. وكان تحديدهم أو تعريفهم لفكرة التعلم من دون إشراف بأنّه القدرة على إيجاد أنماط في عدد كبير من المدخلات.

ولكن التعلم من دون إشراف، أي قدرة الآلة على الوصول إلى النتيجة معينة (مثل فكرة جهاز كشف الشاردين السابقة الإشارة له في بداية الموضوع) لابدّ أن تسبقه مرحلة من التعلم تحت الإشراف، والذي يشمل كلاً من قدرة الآلة على التصنيف، أي (القدرة على تحديد إلى أي فئة ينتمي شيء ما، بعد رؤية عدد من النماذج لأشياء عدة من فئات عدة)، وقدرة الآلة على التراجع (اكتشاف آلية مستمرة من شأنها أن تولد نواتج من المدخلات، في ضوء مجموعة من المدخلات والمخرجات العددية من الأمثلة). يمكن تحليل هذه الاستجابات من حيث نظرية القرار، وذلك باستخدام مفاهيم مثل المنفعة. التحليل الرياضي لخوارزميات تعلم الآلة وأدائها هو فرع من علوم الكمبيوتر النظرية المعروفة باسم نظرية التعلم الحسابية.

وبالرغم من أنّ الطريق لا يزال طويلاً بالنسبة لما يسعى إليه العلماء من طموحات خاصة بالذكاء الاصطناعي، وبينها على سبيل المثال الروبوتات القادرة على استلهام قدرات بشرية، مثل التفكير والتحدث، فإنّ ما تم إنجازه في هذا المجال حتى الآن لا يستهان به أيضاً، فهناك اليوم بالفعل روبوتات ناطقة، وأخرى متحركة بالتوجيه الذاتي. فقد بات الذكاء الاصطناعي في بعض المجالات حقيقة واقعة تحققت من خلاله إنجازات كبيرة مثل التعرف على الأشكال كالوجوه، أو التعرف على خط اليد، والعديد من المجالات الأخرى، كما يتم استخدام الذكاء الاصطناعي في التشخيص والتحكم اللاخطي كالتحكم بسكك الحديد.

 

مجالات متنوعة:

كما تستخدم الروبوتات في المفاعلات النووية وتمديد الأسلاك وإصلاح التمديدات السلكية تحت الأرضية واكتشاف الألغام، وتستخدم الروبوتات أيضاً في الصناعات كصناعة السيارات والمعالجات وغيرها من المجالات الدقيقة. كما تم استخدام برامج الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات كتحليل البيانات الاقتصادية كالبورصة. ويستخدم أيضاً في الألعاب الحاسوبية، حيث تم تطوير نظرية الألعاب وذلك بالاستفادة من الذكاء الاصطناعي، وقد ساهم الذكاء الاصطناعي كثيراً في هذا المجال. ويوجد العديد من التطبيقات الأخرى للذكاء الاصطناعي.

وبشكل عام يمكن القول إنّ أبرز المجالات التي يغطيها الذكاء الاصطناعي، هي:

المعلوماتية العصبية: هي ذلك الفرع من الذكاء الاصطناعي الذي يحاكي الشبكات العصبية في عملها ويستفيد منها في عمليات التصنيف والفرز والتعرف وغيرها من العمليات المفيدة.

الأنظمة الخبيرة: هي الأنظمة التي تساعد الخبراء في اتخاذ قراراتهم بشكل أدق، وذلك بالاعتماد على جملة من العمليات المنطقية للتوصل إلى قرار صحيح أو جملة من الخيارات المنطقية.

الروبوتية: هي الطريقة التي يسعى الباحثون لبناء إنسان آلي وذلك من خلال التركيز على الحركة بشكل أساسي ودمج التقنيات الأخرى المستخدمة في الذكاء الاصطناعي.

الرؤية الحاسوبية: تهدف إلى تطوير برمجيات وأنظمة تكون أكثر قدرة وكفاءة على معالجة الصور واستخلاص البيانات والمعلومات المفيدة منها.

معالجة اللغات الطبيعية: تسعى بشكل أساسي ليكون الحاسوب أكثر تفاعلية مع الإنسان، وذلك من خلال فهم اللغة والتواصل معه بالطريقة نفسها، ويركز أيضاً على تسهيل التواصل بين البشر من خلال بناء أنظمة للترجمة الآلية للغات عدة بشكل فوري.

تمييز الأنماط: تمييز الأشكال والوجوه والأصوات وتمييز عائدية الكتابة اليدوية بعد دراسة وتحليل صفات كلّ منها ومطابقتها مع ما موجود في قاعدة المعرفة.

الألعاب: أبرزها الشطرنج وبعض الألعاب التي تتطلب مهارة وذكاء.

أخيراً، تبقى الإشارة إلى العلاقة الوثيقة بين روايات الخيال العلمي وهذا النوع من المنجزات العلمية؛ فقد شاعت العديد من روايات الخيال العلمي في أمريكا، وأوربا تنبأت أو تخيلت أو توقعت وجود كائنات آلية تسيطر على العالم، وتخيل كتاب بعض تلك الروايات تحول الروبوتات إلى قادة يمكنهم السيطرة على العالم وعلى البشر.

وهذه في النهاية إرهاصات ونتائج متبادلة مع ما أنجزته البشرية في حقل الذكاء الاصطناعي، ومن يدري فلعلنا بالفعل نرى في المستقبل إمكانات غير متوقعة للآلات قد لا يكون بإمكاننا اليوم أن نتخيلها.►

 

المصدر: مجلة العربي/ العدد 670 لسنة 2014م

ارسال التعليق

Top