• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أقسام النفس في القرآن الكريم

أقسام النفس في القرآن الكريم
-       أهمية معرفة النفس: إنّ الحديث عن نفس الإنسان حديث له عدّة جوانب فمن جهة لابدّ من الحديث عن خصائص هذه النفس، ومن أخرى يمكن الحديث عن قواها التي أودعها الله تعالى فيها، وكذا عن سبل إصلاحها. وسنتحدّث عن هذه النقاط الثلاث بشيء من التفصيل إذ إنّ معرفة هذه النقاط الثلاث أمر أساس في علم الأخلاق، ففي الحديث الشريف عن الإمام علي (ع): "من عرف نفسه عرف ربّه". وفي الحديث عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) في كلام له: "ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه، احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور، لا إله إلا هو الكبير المتعال"، إذ يوضح هذا الحديث أنّ الحجاب الرئيس بين الإنسان والله تعالى هو نفس الإنسان فما دام الإنسان يرى نفسه متصرّفاً وينسب إلى نفسه كلّ أمر يقوم به، وما دامت نفس الإنسان هي مدار الرحى التي يبني عليها معتقداته وتصرفاته، فإنّ هذه النفس ستكون الحجاب الأكبر الذي لا يسهل اختراقه. ولذا كانت النفس وإصلاحها من أهمّ الأمور في علم الأخلاق، بل إنّ علم الأخلاق هو تهذيب النفس بالدرجة الأولى للوصول بها إلى الكمال المرجوّ لها. ولا أدلّ على ذلك من حديث الرسول الأكرم (ص) حين دخل عليه رجل اسمه مجاشع، فقال: "يا رسول الله! كيف الطريق إلى معرفة الحقّ؟ فقال (ص): معرفة النفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطريق إلى موافقة الحقّ؟ قال (ص): مخالفة النفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطريق إلى رضا الحقّ؟ قال (ص): سخط النفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطريق إلى وصل الحقّ؟ قال (ص): هجر النفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطريق إلى طاعة الحق؟ قال (ص): عصيان النفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطريق إلى ذكر الحقّ؟ قال (ص): نسيان النفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطريق إلى قرب الحقّ؟ قال (ص): التباعد من النفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطريق إلى أنس الحقّ؟ قال (ص): الوحشة من النفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطريق إلى ذلك؟ قال (ص): الاستعانة بالحقّ على النفس". ومن المناسب أن نذكر ههنا سؤالاً استنكاريّاً سأله أمير المؤمنين (ع) فقال: "كيف يعرف غيره من يجهل نفسه؟".   -       ما هي النفس؟ تتميّز النفس التي أكرم الله تعالى بها الإنسان من غيره من المخلوقات بأنها جمعت العقل مضافاً إلى الغريزة والشهوة، خلافاً للحيوانات التي وضع الله فيها الغريزة والشهوة فقط، أو الملائكة التي أكرمها الله بعقل بدون غريزة وشهوة ومن هنا فإنّ الإنسان لابدّ له من أن يستخدم العقل في تعديل المتطلّبات التي تمليها الشهوة والغريزة حتى يسلك حدّ الاعتدال الذي أشرنا له فيما سبق، قال الله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس/ 7-8). وعندما نطالع الآيات القرآنية التي تحدّثت عن النفس نراها قد تحدّثت عن ثلاث حالات من حالات النفس، كما أنّها وصفتها بصفات مختلفة منها:   -       النفس الأمّارة: يقول الله تعالى في محكم بيانه (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (يوسف/ 53)، فالنفس الأمّارة بالسوء هي التي تتبع هواها بحيث لا ترى أمامها سوى ما تتمنّى الحصول عليه من الشهوات بدون أي التفات إلى الشريعة أو المفاسد الدنيوية والأخروية، ولذا فإنّ اتِّباع النفس الأمّارة بالسوء يجلب الظلم والضلال، يقول الله تعالى: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (القصص/ 50).   -       النفس اللوّامة: يقول الله تعالى في محكم آياته: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (القيامة/ 1-2). والمراد بالنفس اللوّامة، نفس الإنسان المؤمن التي تلومه في الدنيا على المعصية، والتثافل في أداء الطاعات. وقد يُطلق علماء النفس عليها اسم الضمير الذي يؤنب الإنسان على ما فعله من القبائح.   -       النفس المطمئنّة: يقول الله تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر/ 27-30). والنفس المطمئنّة، كما وصفها العلامة الطباطبائي في تفسيره: "هي التي تسكن إلى ربها وترضى بما رضي به فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو وشرّ أو نفع أو ضرّ ويرى الدنيا دار مجاز وما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أيّ نفع وضرّ ابتلاءً وامتحاناً إلهيّاً، فلا يدعوه تواتر النِّعم عليه إلى الطغيان وإكثار الفساد والعلوّ والاستكبار، ولا يوقعه الفقر والفقدان في الكفر وترك الشكر، بل هو في مستقَرٍّ من العبودية لا ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط... وتوصيفها بالراضية لأنّه اطمئنانها إلى ربّها يستلزم رضاها بما قدَّر وقضى تكويناً أو حكم به تشريعاً فلا تسخطها سانحة ولا تزيغها معصية، وإذا رضي العبد من ربّه رضي الربّ منه، إذ لا يسخطه تعالى إلا خروج العبد من زيِّ العبودية، فإذا لزم طريق العبودية استوجب ذلك رضا ربّه ولذا عقب قوله (رَاضِيَةً) بقوله: (مَّرضِيَّةً)".   -       الحذر من النفس الأمّارة: بعد أن عرفنا النفس الأمّارة بالسوء وميزتها لابدّ من مواجهتها وعدم الركون إليها، إذ إنّ لبّ علم الأخلاق قهر النفس الأمّارة وكبح جماحها؛ لأنّها كما تقدّم لا ترى إلا ما تريد وتشتهي، ولو خلّفت كل شيء خراباً من خلفها، فإذا كانت النفس الأمّارة خطيرة إلى هذه الدرجة فلابدّ من أن نجد لها علاجاً لإصلاحها وتليين طبعها الشرس، فما هي الطرق الممكنة لإنجاز هذه المهمّة؟   -       إصلاح النفس: إنّ المسالك والطرق إلى الله كثيرة، بل هي بعدد أنفاس الخلائق، إلا أنّها كلّها تبدأ من خلال تهذيب النفس وإصلاحها. فينبغي بالدرجة الأولى لمن يريد إصلاح نفسه أن يرغِّب نفسه بالأعمال الصالحة، ويكون ذلك من خلال التفكّر في الأعمال وما تستتبع من رضا أوسخط للمولى العزيز، وما يترتّب عليها من آثار في الآخرة، فتطمع النفس بثواب الآخرة، وتخاف من عقاب الأعمال القبيحة. وبما أنّ كثيراً من الناس يميلون إلى الربح السريع ويفضّلون الربح القريب ولو كان قليلاً وتافهاً على الربح البعيد ولو كان كبيراً وعظيماً – وهذه حقيقة في الإنسان قد ذكرها الله تعالى في كتابه حيث يقول جلّ شأنه: (كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ) (القيامة/ 20-21)، (وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا) (الإسراء/ 11) – فالإنسان يستعجل ما يتصوّره ربحاً في الدنيا ويترك فوز الآخرة، وهذا ما يسبّب للناس الشقاء، وهنا يتّضح دور العقل في السيطرة على الأهواء النفسية السيّئة، فلابدّ من التنبيه الدائم للنفس على الدوام، لما وعد به الله تعالى أهل طاعته، وحذّر منه أهل معصيته؛ لأنّ مجرّد عدم الالتفات إلى الجانب الأخروي من الأعمال والاستغراق في أمور الدنيا وتفاصيلها، يُدخل الإنسان في نفق الغفلة المظلم ولا يستيقظ منه إلّا بعد الموت في الكثير من الأحيان، ولعلّ هذا هو المراد من قول الإمام علي أمير المؤمنين (ع): "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا". إذاً فإصلاح النفس يبدأ من التذكّر والخروج من نوم الغفلة عن الآخرة بالدرجة الأولى، ولهذا الأسلوب في إصلاح النفس ميّزتان: أ‌-      إنّه يصلح ظاهر العمل وباطنه إذ إنّ المراد هو الله تعالى، والمحاسب والمجازي هو الله تعالى أيضاً. ب‌- إنّه جزاء دائم لأن ما عند الله خير وأبقى، والقرآن الكريم اعتبر هذا المسلك مسلكاً جيِّداً وندب إليه، ومنه قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة/ 111) وقد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين: "إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنّة فلا تبيعوها إلا بها".   -       مرتبة الحبّ لله تعالى: إنّ علاج النفس تارة يكون بإيجاد المانع فيها من فعل الذنوب كأن يخوّف الإنسان نفسه بالنار وغضب الجبّار، ففي هذه الحالة يكون الدافع إلى الذنب موجوداً في النفس إلا أنّه هنالك مانع من الوقوع فيه وهو ما ذكرناه من الخوف وغيره من الموانع، وتارة يكون علاجها بإلغاء الدافع أساساً بحيث لا تطلب النفس الذنب إذ لا رغبة لها فيه، والطريقة الأولى هي من خصائص المسالك الأخرى لا مسلك الحبّ الإلهي، أمّا الطريقة الثانية – وهي قلع الدوافع من النفس – فهي من مختصّات مسلك الحبّ الإلهي، ولهذا المسلك والطريق ركنان أساسان: الأوّل: ركن المعرفة والعلم بأن يصل الإنسان من خلال علمه إلى مرحلة يدرك فيها معنى التوحيد بكلّ أبعاده، ومن خلال هذه المعرفة بالتوحيد لا يبقى أي موضوع لهذه الرذائل، ولن يتوجّه بعد ذلك إلى الناس، ولا يطمع بما في أيديهم؛ لأنّه يعرف حقّ المعرفة أنّ الغني منهم لا يملك ولا يُعطي ولا يمنع إلا بإذن الله تعالى، فلا يرجو منه. ولا القوي منهم خارج عن قوّة الله، فلا يخاف منه. وغيرها من المعاني. الثاني: ركن العمل إذ مجرّد العلم لا يكفي في هذا المجال، فبعد أن يتعلّم الإنسان التوحيد يجب أن يكون توحيده عمليّاً لا نظريّاً فحسب، والطريق إلى التوحيد العملي حبّ الله تعالى، فإنّ الإنسان إذا أحبّ شيئاً أطاعه وعبده، بل إنّ من آثار الحبّ الطاعة والتسليم. وخلاصة الأمر أنّ على الإنسان أن يجعل قلبه متعلّقاً بالله تعالى وحده، قال تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (الأحزاب/ 4)، إذ لا يجتمع حبّ الله تعالى وحبّ الدنيا في قلب واحد، وإذا حصلت المحبّة في قلب الإنسان لله أخذ إيمانه في الإشتداد والإزدياد وانجذبت نفسه إلى التفكير في ناحية ربّه، واستحضار أسمائه الحسنى، وصفاته الجميلة المنزّهة عن النقص والشَّيْن ولا تزال نفسُه تزيد انجذاباً، وتترقّى مراتبه حتى صار يعبد الله كأنّه يراه... فيأخذ الحبّ في الإشتداد؛ لأنّ الإنسان مفطور على حبّ الجميل، وقد قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) (البقرة/ 165)، وصار يتّبع الرسول (ص) في جميع حركاته وسكناته؛ لأنّ حبّ الشيء يوجب حبّ آثاره، والرسول من آثاره وآياته كما أنّ العالم أيضاً آثاره وآياته تعالى، ولا يزال هذا الحبّّ يشتدُّ ثمّ يشتدُّ حتى ينقطع إليه من كلّ شيء، ولا يحبّ إلا ربّه، ولا يخضع قلبه إلا لوجهه، فإنّ هذا العبد لا يعثَرُ بشيء، ولا يقف على شيء وعنده شيء من الجمال والحسن إلا وجدَ أنّ ما عنده أنموذج يحكي ما عند الله من كمال لا ينفد، وجمال لا يتناهى، وحسن لا يُحدّ، فله الحسن والجمال والكمال والبهاء، فيستولي سلطان الحبّ على قلبه. -        هناك ثلاث حالات للنفس وردت في القرآن الكريم وهي: 1- النفس اللوّامة. 2- النفس الأمّارة بالسوء. 3- النفس المطمئنّة. -        فصّلت الروايات الشريفة ما أجمله القرآن الكريم من أحوال النفس الإنسانية فتحدثت بشكل مفصّل عن حالاتها. -        إنّ المسالك والطرق إلى الله كثيرة بعدد أنفاس الخلائق إلا أنّها كلّها تبدأ من خلال تهذيب النفس وإصلاحها، ومن هذه الطرق: 1- إصلاح النفس بالغايات الأخرويّة وهذا المسلك هو مسلك أغلب الناس، فبعضهم يغلب على نفسه الخوف وكلّما فكّر فيما أوعد الله الظالمين والذين ارتكبوا المعاصي والذنوب من أنواع العذاب الذي أعدّ لهم زاد في نفسه خوفاً، وبعضهم يغلب على نفسه الرجاء وكلّما فكّر فيما وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من النعمة والكرامة وحسن العاقبة زاد رجاءً وبالغ في التقوى والتزام الأعمال الصالحات طمعاً في المغفرة والجنّة. 2- إصلاح النفس بالحبّ الإلهي، وهو مرتكز على أمرين: ركن العلم والمعرفة، وركن العمل.

ارسال التعليق

Top