إنّ هذه الحاجة النفسية عند الطفل حاجة ضرورية هي الأخرى كالغذاء والهواء في المجال الفسيولوجي، والأسرة كذلك هي التي تؤمن القسط الأكبر من هذه الحاجة، ولا بديل عن الأسرة في هذا المجال، وإن كنا نرى – وفي حالات الضرورة – أن دُور الرعاية الاجتماعية تحاول تعويض الأيتام بعض هذا الحب، وتحقيق الأمن العاطفي، فإن ذلك يبقى أمراً محدوداً؛ أما الأطفال الذين يؤتى بهم إلى أسر تتبناهم وترعاهم فيمكن أن يكونوا أحسن حالاً من نزلاء الملاجئ ودور الرعاية الاجتماعية، لأنّ الأبوين الجديدين البديلين يؤمنان الحب والعطف اللازمين. وعند تصدع الحياة الأسرية يدفع الطفل ثمناً باهظاً فالكراهية المتبادلة بين الزوجين، أو توتر العلاقات بينهما، أو العيش في ظل الأجواء المهيأة للطلاق، أو سماع عبارات الأُم التي تشتكي دائماً من زوجها وبأن بقاءها فقط هو من أجل هؤلاء الأطفال؛ ذلك كله لا يطمئن الطفل، ولا يخلق لديه شعوراً بالاستقرار، بل على العكس فإنّه يخلق في نفسه التوتر والقلق، وهو غير مشبع عاطفياً، وبالتالي فإنّه يشعر بأنّه حجر عثرة في طريق الأُم الراغبة في الخلاص من أبيه، إذ هي لا ترغب باستمرار الحياة الزوجية؛ كذلك فإن بعض الراغبين في تحديد النسل من الآباء والأُمّهات، يعتبرون قدوم الطفل (كارثة، أو على الأقل غلطة) ويكبر الطفل ويسمع هذا الحديث، ويعي بأن قدومه لم يكن مرغوباً فيه لكنه وُجد؛ وأصبح الأمر واقعاً. مثل هذا الطفل يقلق وتشتد حاجته إلى مزيد من العاطفة والحنان، ويشكك أحياناً بما يقال له من كلمات الحب والثناء ويعتبر أنّ المعاملة الحسنة المقدمة له هي معاملة مصطنعة.
يرافق هذه الحاجة حاجة أخرى، هي الحاجة إلى الانتماء والتي تعتبر نتيجة طبيعية لإشباع يتلقاه الطفل في الأسرة من الوالدين فيتسع هذا الانتماء إلى الأصدقاء والتنظيمات الرياضية أو الكشفية ويتوسع أكثر فأكثر ليشمل المجتمع والإنسانية بكاملها حيث يبدأ الفرد بالإحساس بضرورة التعاطف والتعاون مع الآخرين، وهذا يؤكد رأي الكثيرين من العلماء بغريزة الاجتماع وبأنّ الإنسان حيوان اجتماعي بالطبع، لكن الذين لا يتلقون الرعاية الأسرية الكافية تتزعزع علاقاتهم الاجتماعية، وإذا نشأت مثل هذه العلاقات فإننا نرى أنّه يغلفها الشك وعدم الثقة والحذر.
وإشباع هاتين الحاجتين (الأمن والانتماء) من شأنه أن يعمق ويجذِّر علاقات الطفل المجتمعية في ما بعد.
وهنا لابدّ للمعلمين وللوالدين من أن يُشبعوا حاجة الطفل إلى الأنانية وإثبات الذات تمهيداً لانتقاله إلى المرحلة الغيرية دون أن نحرج الطفل فنطلب منه التضحية في سن مبكرة، في وقت يكون فيه ما زال بحاجة إلى الحب والعطف وتأكيد الذات. ومن حق الطفل أن يشعر أن له مكانة خاصة، وأن يكون مرغوباً فيه من قبل الآخرين. وإذا تزعزعت مكانة الطفل في الأسرة أو في المدرسة لسبب أو لآخر فإنّه يعمل لإعادة اجتذاب انتباه الوالدين والمدرسين بوسائله الخاصة. ويلاحظ أنّه في مرحلة المراهقة غالباً ما يلجأ إلى الانحراف، ليشد أنظار المدرسين إليه، فالمدرس لا ينتبه إلّا للشواذ، وتحت هذا العنوان يندرج الموهوبون المنحرفون، لذلك ينبغي على الأهل والمدرسين اعتماد العدالة في توزيع المحبة والاهتمام، بين الأبناء والتلامذة، وإن كان الطفل في المراحل الأولى لا يتفهم العدالة بمعناها المطلق فهو يُحسها.
بالإضافة إلى ذلك ينبغي التوجه بالعناية الخاصة بالضعفاء من الأبناء والتلامذة، والذين لم يؤتوا حظاً كبيراً من المعرفة والذكاء، شرط ألّا يثير هذا الاهتمام الخاص حساسية غيرهم من الأخوة والتلامذة، الذي عليهم أن يتفهموا واقعهم.
وحول موضوع تحميل الطفل المسؤولية في وقت مبكر من طفولته أو إرجاء ذلك إلى فترة لاحقة تتعدد الآراء بين مؤيد ومعارض، فيرى المربي (بلانت): "إنّ أصح الوسائل لإشباع حاجة الطفل إلى المركز الاجتماعي أن نعلمه تحمل المسؤوليات وأن ننمي فيه المهارات التي تؤكد له كونه مطلوباً وأننا محتاجون إليه.
إلى جانب ذلك ينبغي أن يفهم الطفل أنّ الحقوق المخصصة له يقابلها حقوق لغيره عليه، وهنا تبدأ عملية التوازن الاجتماعي بين الحقوق والواجبات، وتتم من خلال عملية تفاعل، بين الطفل والوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه، فلا الجماعة يجب أن تذيب الفردية في بوتقتها ولا الفرد بقادر على إلغاء أو تغيير الجماعة.
وتلعب عملية التنشئة الاجتماعية دورها في هذا المجال لتقود الأطفال على التكيف الاجتماعي مع الواقع الذي يعيشون فيه فيؤثرون ويتأثرون.
المصدر: كتاب الإرشاد النفسي، التربوي، الاجتماعي لدى الأطفال للكاتب د. محمّد أيوب
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق