• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

تربية الحس الجمالي عند الطفل

تربية الحس الجمالي عند الطفل
 تتعلّق حاجات الطفل الأساسية – شأنه شأن الكائن الحي – في مدى إشباعه منذ مولده بحاجاته الأساسية، تلك التي تتركز حول الطعام والشراب وتنظيم درجات الحرارة لطعامه وشرابه وبيئته في الحجرة الصغيرة حوله. كذلك تنظيم نشاطه ونوعيته وحمايته من كل ما يخل بهذا النظام أو يؤثر فيه، كل هذه الأمور تمثل أهمية كبيرة في مدى نمو الطفل وتفاعله المستمر مع البيئة المحيطة به والعمل على تحقيق ثبات العمليات الحيوية الكيميائية وتوازنها، حيث يشبع بعد جوع ويحرك أطرافه ويتحرك بسهولة وتناغم بعد أن كان يتحرك بطريقة عشوائية، يغلب عليها الطابع الكتلي Massive. وإذا كانت الحاجات الأساسية تمثل هذه الأهمية، فإنّ الحاجات الاجتماعية تلعب دوراً لا يقل أهمية عن الحاجات العضوية، فبفضل هذه الحاجات الاجتماعية، يستطيع الطفل إذا تشبعت إشباعاً سليماً، أن يكوِّن فكرته عن نفسه ثمّ فكرته عن الآخرين، إذ في بداية حياة الطفل ومراحله الأولى منذ ميلاده لم يكن في مقدوره أن يفصل بين حاجاته وميوله ورغباته وحاجات الآخرين وميولهم ورغباتهم. ومع استمرار النضج والنمو استطاع أن يكشف ذلك الحضن الاجتماعي الذي يتمثل في الأسرة والأقارب والأصدقاء ويصل من خلاله إلى مركز اجتماعي تتحدد فيه درجات معينة من الاتصال والوصال اللذين بفضلهما قد يصل الطفل إلى الأمن النفسي والطمأنينة والإحساس بالانتماء Belongingness. والطفل أيضاً يسعى إلى أن يؤكد ذاته من خلال شبكة الاتصالات الاجتماعية تلك التي تجعله متفاعلاً مع الجماعة مستخدماً لغتها مخاطراً معها، خياليّاً عندما ينسج لنفسه دوراً مهمّاً يراه هو اعتماداً على وَهْمِه وتصوره الجانح حيناً... ويتصوره دوراً واقعيّاً فعالاً مؤثراً. وجدير بالذكر أنّ هذا الطفل، الذي يحاول بشتى الأساليب الطفولية أن ينسلخ بفعل خياله وتصوراته عن ذاته، لا يملك إلا أن يتكيف مع عادات من حوله وتقاليد المجتمع الذي يعيش بين جوانبه. ولقد اهتمت الدراسات النفسية بهذه المرحلة اهتماماً بالغاًَ وبضرورة العناية بها ومحاولة الكشف عن الجوانب المعرفية بتلك التي ترتهن بقدرات الطفل المعرفية العقلية واتجاهات الآباء نحو الأبناء وعملية التطبيع الاجتماعي Socialization Process التي تحدث في الأسرة وأثر الثقافة بوجه عام على ما يتصل بنمو الطفل من المراحل على المستوى العضوي والتربوي. ثمّ تتوالى مراحل النمو الأخرى من عمر الطفل. وعلينا هنا أن نشجع الطفل على الملاحظة والنشاط وتوظيف الحواس في التقاط هذه المعطيات الحسية التي تحيط به سواء في كل حركة أو إيقاع أو كلمة أو نغمة أو لون، ومن هنا تأتي أهمية التربية الجمالية وتكوين الحس الجمالي في حياة الطفل. وإذا كانت التربية الجمالية تنطلق من كون أنّ الانتماء إلى الجمال والبحث عنه، هو من جملة الانتماءات الفطرية لدى الإنسان (الانتماء للجماعة/ الانتماء للمكان/ الانتماء للثقافة) فقد أضحت ضرورة ملحة وحجر أساس في بناء شخصية الإنسان بناء سويّاً، مستمراً، متفاعلاً. فالجمال – هذا البعد العميق في شخصية الإنسان – برز منذ وجود الإنسان على وجه البسيطة، ولعل في تفاعله مع الطبيعة ومحاكاتها، واهتمامه بتطوير وتجديد مسكنه، وملبسه، وأدواته، كما تشي بذلك رسومات وتماثيل الحضارات القديمة، الدليل على فطرية الحس الجمالي عند الإنسان. وقد ظل الإنسان إما منتجاً للجمال (مبدعاً) أو باحثاً عنه (متلقّيا/ متذوقاً)، وإن بشكل غير واعٍ، أحياناً بحكم وجوده في نطاقات، أو إتيانه لأفعال وممارسات يومية تتسم بجمالية ما. ولم يلبث الجمال أن اختار لنفسه علماً قائماً، اصطلح عليه بـ"علم الجمال" أو "الجماليات"، وقد ظل هذا العلم تابعاً للفلسفة ردحاً من الزمن، قبل أن يستقل بمباحثه ومفاهيمه. ورغم هذا التأطير العلمي لمفهوم الجمال، فإنّ الإحساس بالجمال أفضل من معرفة الطريقة التي نحسه بها، على حد تعبير (جورج سانتيانا فيلسوف الفن والجمال)، ذلك أنّ اللحظة الجمالية باعتبارها عصية على القبض والتحليل المعرفيين، ولا يفضل منها غير تلك الانفعالات، والأحاسيس العائمة في مناطق الوجدان، وكل دراسة لها، إنما هي دراسة لنتائجها ارتباطاً بموضوع ما (عمل فني). تشكيل وعي الطفل جماليّاً: يظن بعض الناس أنّ المدرسة والمجتمع هما وحدهما المسؤولان عن التربية الثقافية وعن التنشئة الجمالية، وعن تنمية القيم الإنسانية السامية. وأنّ العائلة لا تستطيع القيام بشيء في هذا الميدان، لأن واجبها الأوّل هو أن تهتم بغذاء هذا الطفل بلباسه وبلعبه وتسلياته.. وواجبها ينحصر كذلك في توفير الصحة المتينة له قبل الذهاب إلى المدرسة، والمدرسة – بعرف هؤلاء البعض – ستتكفل بأمور الثقافة والجمال والتحضر والتمدن الإنساني. ولكن الواقع يقول: إنّ العائلة هي التي يجب أن تبدأ بالتربية الثقافية وبتنمية الحس الجمالي السامي، وهي – أي العائلة – التي يمكنها أن تزرع هذه البذرة العصرية وتنمِّيها بأسرع وقت ممكن.. وعلى العائلة أن تستخدم مختلف الوسائل وأحسنها.. فالعائلة التي لا يقرأ الآباء فيها الكتب والصحف ولا يتمتعون بالحس الجمالي وبالذوق الرفيع في التعامل مع الأشياء، والناس الذين لا يشاهدون البرامج التلفزيونية المعنية بالثقافة والآداب.. ولا يهتمون بالمعارض الفنية وبمعارض المصنوعات الفنية والتطبيقية.. والذين لا يزورون المتحف، بالتأكيد سيصعب على هؤلاء الآباء أن يوفروا للطفل ثقافة راقية وحسّاً جماليّاً عصريّاً، وستبقى مساعيهم بسبب عزوفهم عن الفعل الثقافي الحضاري مساعي زائفة لا تؤتي أكلها. وعندما يتعلم الطفل القراءة، فإنّه ينتقل إلى مرحلة تالية هي مرحلة اكتساب المعارف الجمالي بمفرده أو بالاستعانة بغيره من أترابه أو من الراشدين حيث تحتل المدرسة ساعتها المقام اللائق في حياة الصبي الصغير. ولا شك أنّ البيت والمدرسة ليسا وحدهما ينبوع معرفة الطفل والتلميذ والطالب. ولم يعد البيت والمدرسة مركز تربيتهم الوحيد وتعليمهم في عصرنا الحاضر، الذي أخذت فيه مختلف المؤسسات الثقافية والتربوية والفنية تسهم في حسن تثقيفهم وتوفير وسائل الترفيه والتسلية والمعرفة والاضطلاع وتنمية الرغبة في الإبداع، في عصر تميز بطابع العلم التقني والإبداع الفني والجمالي، وبتعدد الاكتشافات في مختلف ميادين الحياة. وفيه تحقق حلم الإنسانية في غزو مجاهيل هذا الكون في كل المناحي. ومن هنا يعد تشكيل الوعي الجمالي لدى الطفل هدفاً تربويّاً أساسيّاً تفضل عنه جهود تربوية كثيرة، مما يقلل من فاعليتها وإيجابيتها، ولا يتم تشكيل هذا الوعي من خلال الأسرة فقط كأول وسط تربوي يتعامل معه الطفل، بل عبر الوسائل الثقافية والتعليمية والإعلامية التي عليها صياغة وعي الطفل بكل القيم الجمالية حوله كطاقة تدفع وتحرض ملكاته للعمل متناغمة وعلى نحو متجدد دائماً. والطفل – عامة – خامة تحتوي الكثير من إمكانات التشكيل وزوايا النظر المتنوعة التي تحرض ملكات الطفل وتجعلها تتآزر بشكل يعالج كثيراً من شكوانا أحادية النظرة في الطفل الذي لم يجد المناخ المناسب لتشكيل وعيه الجمالي. وتشكيل وعي الطفل الجمالي يبدأ من تعلم الأطفال غاية الأشكال كلغة مكثفة تحمل رسالة ذات مضمون وتستهدف غاية، فلغة الأشكال هي همزة الوصل بين الطفل وعالمه الخارجي المحيط به والمتفاعل فيه، ويتوقف التفاعل على المهارة واستثمار هذه الأشكال واعتبارها قناة من خلالها يتحقق الاتصال بين أفراد المجتمع الإنساني. وإذا كان الطفل لا يعي الشكل بالمفهوم الجمالي والاصطلاحي له فإنّه ينتبه لتشكل الصور ويتذوقها، وهي تلك الصور التي يتحيها له محيطه من خلال الكيفيات التي يمتلكها، وعلى الأسرة أن تستخدم الكيفيات الجمالية الخاصة بالطفل في تشكيلات منظمة يعنينا منها التشكيل الجمالي في اللون بصباغة أو تلوين لعبة معينة بألوان الفاكهة أو الورد. وهناك قصة جديرة بالتسجيل تساعد على تشكيل وتدعيم الوعي التشكيلي والجمالي للطفل قدمها الفنان العالمي "جون كلي" لتلاميذه معتقداً أن للخطوط وللنقاط وللملمس حياة، وأطلق "كلي" على القصة "فلنأخذ الخط إلى نزهة"! وعلى الرغم من بساطة القصة فإنها تدعم وعي الطفل التشكيلي والجمالي بالحدث وتطوره وفعالياته. وتنحدر عبقرية "كلي" في اختياره للخط كبطل ببساطة تعمل على تدعيم ملكة الملاحقة عند الأطفال وعلى تحريك خيالهم التشكيلي ووعيهم بالعناصر والجزئيات، وذلك مع عدم تعارضه مع طبيعة وعي الطفل الجمالي، يحرض فيه القدرة على تكوين الصورة ذات المعنى الرمزي الذي يعبر عن شعوره الإنساني، وفي الوقت نفسه تعلمه في حال كونه نواة فنان إبداع أشكال أو صور رمزية تمثل الشعور الإنساني. الإدراك التشكيلي: رغم تعدد التعريفات المتداولة للوعي الجمالي أو الحس الجمالي، فإنّ التعريف الأقرب للشمول هو كونه إدراك حواس الطفل لوحدة العلاقات الشبكية بين الأشياء بحيث يصبح الطفل قادراً على التذوق أو الشعور أو الانتباه إلى القيمة الجمالية أو الكيفية التشكيلية التي تتوحد في شيء ما سواء أكان طبيعيّاً أو عاديّاً أو عملاً فنيّاً، وهذا الوعي بما فيه من قيم جمالية وعلى نحو متجدد دائماً. وقد أثبتت الدراسات المهتمة بنمو الطفل وارتقائه المعرفي، خصوصاً في السنة الأولى، أن هناك مجالات متعددة يرتقي الطفل من خلالها معرفياً مثل جانب الإدراك وجانب المعلومات وجانب التصنيف وجانب الذاكرة، ويهمنا في الأساس هنا، جانب الإدراك حيث يكون الطفل قادراً على إدراك الموضوعات وإدراك بعض خصائصها كاللون والخطوط والأنغام وغيرها. أهميية اللغة الفنية: إذا كانت اللغة المكتوبة والمنوقة تساعد الطفل على التعبير عن الحس الجمالي والتشكيل الفني في مختلف مراحل نموه، فإن هناك عناصر أخرى مساندة للغة تعتبر عناصر للتجسيد الفني كالأصوات والألوان والأنغام والرسوم. وعلى هذا فإنّ الإنسان لا يستعين بلغة الكلام وحدها، بل يستعين بلغة أخرى ليست كلامية بالمعنى المصطلح عليه، حيث تساعده هذه الأخيرة على التصوير بشكل أكثردقة ووضوحاً وتجسيداً. وإذا كانت اللغة اللفظية وعاء الفكر، فإنّ اللغة غير اللفظية تعد وعاء آخر له، حيث أتيح للإنسان بفضلها أن يفكر من خلال الأشكال والإشارات والأصوات والألوان والحركات. والتجسيد الفني يتيح من جانب آخر للعمليات العقلية المعرفة الأخرى أن تقوم بدورها في استقبال الرسالة الاتصالية وفي فهمها، فالأطفال عند استماعهم أو مشاهدتهم أو قراءتهم لمضمون لفظي تسانده الألوان أو الأضواء أو الحركات أو الرسوم "يتذكرون" "خبرات سابقة" و"يتخيلون" صوراً جديدة مركبة فيكون إدراكهم وبالتالي فهمهم أكثر دقة. وإذا كان التجسيد الفني عملية لازمة في التوجه الاتصالي عموماً سواء أكان إلى الراشدين أم إلى الأطفال، فإن لزومه للأطفال أشد، لأنّ حواس الأطفال شديدة الاستجابة لعناصر التجسيد. لذا عملت وسائل الاتصال الثقافي بالأطفال على تقديم المضمون لهم بأطباق من الذهب، فازدانت مطبوعاتهم وأفلامهم وبرامجهم بهذه العناصر. ولا تشكل عناصر التجسيد أدوات للإصلاح وإبراز المعاني فحسب، بل هي تشكل حوافز لإثارة انتباه الطفل وإثارة اهتمامه، وخلق الاستمرار لديه في استقبال المضمون من خلال ما تضفيه من عناصر التشويق والجاذبية. ويعتبر جذب انتباه الطفل مسألة أساسية في عملية الاتصال الثقافي لأنّه يهيئ ذهنه لاستقبال الرسالة وتركيز طاقته العقلية، وإحلال تلك المادة في مركز شعوره مع إبعاده عن المؤثرات الجانبية. ولا شك شأنّ التجسيد يتيح للطفل أن يتوحد مع المواقف التي يحملها المضمون الاتصالي دون أن يشعر بأنّه يتلقى مواعظ وتوجيهات وإرشادات ثقيلة أو معلومات جافة، خصوصاً وأنّ الطفل شديد النفرة من كل ما يقدم إليه على تلك الشاكلة وهو حتى إن استجاب لها فإنّه استجابته موقتة، إذا سرعان ما يتخلى عنها، وقد يتمرد عليها حين تحين له الفرصة. أهمية وسائل الإعلام: ومن هنا تأتي أهمية أن تحتل الصحيفة مكاناً بارزاً في انطباعات الطفل، حتى الذي لا يعرف القراءة. ويجب أن يتم فعل قراءة الصحف والمجلات أمام الأطفال وعلى ملأ منهم بما تحمله من أخبار جميلة ومعارف خاصّة وعامّة، غريبة وطريفة. ويجب أن يتم ذلك بشكل لا يحس الطفل فيه بأنّه معني بالقراءة، بل يجب أن تكون قراءة الآباء جهرية يسمع الطفل تفاصيلها دون التوجه المباشر إليه. وفي مراحل أخرى متقدمة يمكن أن تكون للمطبوعات المصورة دور هام في حياة الطفل، وعلينا أن ندفعه إلى الاهتمام بها والاشتراك بالمطبوعات الخاصة بالطفولة واقتناء ما يناسبه منها.. فمحتوياتها من الصور والرسوم تسهم في رفع الحساسية الجمالية والمعرفية لديه بشكل تدريجي غير مباشر لكنه فعال. أمّا الكتاب، فإنّه يؤدي دوراً آخر، إذ يتعرف الطفل إلى الكتاب عن طريق القراءة المشتركة التي يجب أن تظل أحد أهم اهتمامات الأسرة.. في البدء القراء هم الآباء، ثمّ تنتقل هذه المهمة إلى الأبناء.. والقراءة تساعد على توحيد الأذواق وتهذيبها وعلى السمو بها جماليّاً وفنيّاً وخياليّاً وتعطي لهم من ثمّ حسّاً نقديّاً ومعرفيّاً عميقاً.. لا مفر إذاً من تنمية مهارة القراءة المستقلة بصوت صامت لدى الطفل عندما يكبر. ولكي يكون دور الكتاب كبيراً في تنمية الحس الجمالي يجب أن تعتمد مهمة الآباء على: 1- مراقبة الانتقاء الجمالي والأدبي لشكل الكتاب ومضمونه. 2- تدريب الأطفال على القراءة والاستمتاع الجمالي بها وبجعل ما يقرأونه وتصوره جماليّاً. 3- دفع الطفل إلى العناية بالكتاب والحفاظ عليه نظيفاً ومتسقاً مع غيره من الكتب. وفي هذا النوع من أنواع التربية الجمالية ونوع من أنواع الارتقاء بالحس الفني والجمالي الذي يأتي عن طريق الاهتمام بالكتاب وبتصنيفه ونظافته وحفظه والمحافظة عليه وعلى محتواه وصوره. كما أن للسينما دور في مجال التربية المعرفة والفنية والجمالية، وهي تؤدي دوراً هامّاً في تنمية الحس الجمالي لدى الطفل. وتعدّ السينما في عصرنا الراهن من العوامل التربوية والثقافية إذا أحسن توظيفها للتربية، بكل جوانبها، ويدخل هنا التلفزيون والفيديو، ليس فقط للأطفال، بل للشباب والبالغين، وذلك لاعتمادها على الصورة بكل مفرداتها الجمالية والفنية، لذلك يجب أن تكون الرقابة على كل ما تعرضه هذه الوسائل من صور، رقابة حقيقية، تربوية وفعالة، فالآثار السلبية لها كبيرة وفادحة إن لم تعالج في وقتها. كما أنّ المسرح يمكن أن يلعب دوراً في تكوين الحس الجمالي للأطفال. فلجماليات المسرح المرافقة وإضاءته وديكوراته وصفوفه المنتظمة كبير الأثر في الرقي بحسه الجمالي وتغذيته. كما أن للمتاحف ومعارض الفن شأنها في الارتقاء بالحس الجمالي لدى الأطفال. إن زيارة الطفل للمتاحف واطلاعه على مجموعاتها وروائع فن الرسم والنحت والتصوير والحفر والنقوش والفسيفساء والمنسوجات والمخطوطات والمسكوكات والحلي والفخار والخزف والزجاج والمعادن، مما يثير إعجاب الطفل بما أبدعته الأجيال المتعاقبة ويشعر بالارتياح للجهود المبذولة في سبيل المحافظة على هذه الآثار المنقولة والممتلكات الثقافية التي تشكل جزءاً هامّاً من التراث الإنساني. لطافة الحس الموسيقى (الدندنة والتغني): ونضرب مثالاً بالحس الموسيقى لدى الأطفال، فنجد الجانب الإيقاعي عنصراً أصيلاً في فن العربية الأوّل، ذلك الفن الذي اختص بالغنائية وكان الوزن والقافية أبرز العناصر النمطية في حده المعروف، لذا يصبحالإحساس الموسيقي ضرورة، ليس فقط في تذوقه وتعليمه، ولكن أيضاً في تنميته والتنبؤ به. ولأنّ الإيقاع سمة لصيقة بنفس الطفل، وأكثر تاثيراً في مشاعره، فإنّ الطفل غالباً ما يعبر عن انفعاله في صورة (حس حركية) كالتصفيق، والتنقير، أو التمايل والاهتزاز، بل كثيراً ما نلاحظه وهو يهمهم في لعبه الانفرادي، ويغني ويتفوه بكلمات مرتجلة، حتى قبل أن يدخل المدرسة. وإذا افتقد الطفل هذا لحس الموسيقي افتقد الصلاحية لفن العربية الأوّل، ولعل في قصة الأصمعي (ابن رشيق، العمدة ج1، 198) مع مؤدبه ما يدل على أنّه كان وقتئذ مبتدئاً، وأن مؤدبه لحظ من افتقاده الأذن الموسيقية القادرة على ضبط النغم والتغني به فألمح إليه أن تعلم العروض لا يغنيه، وصرفه عن صناعة الشعر إلى العلم بأدواته فكان فقط (عالماً شاعراً) وليس (شاعراً عالماً)، من هنا كان (التغني) مقود الموهبة وأحد إرهاصات الطفل المترشح، وليس ذلك إلا لأنّ هذا الطفل لم يكتمل قاموسه اللغوي، وليس لديه خبرة معرفية أو أدوات لفظية تنهض للتعبير عن ذاته. لهذا تنهض الموسيقي لأداء هذه المهمة، فتعوض فقره اللغوي، دون حاجة إلى إدراك قدراته الإبداعية الأخرى، التي لا تظهر قبل الثانية عشرة، لأنّها في هذه المرحلة تكون في خدمة نموه الجسمي والعقلي بحيث يمتصها ويستنفدها تماماً. ولعل اعتماد الموهبة الشعرية على الموسيقي أكثر من الفنون الأخرى يرجع إلى أمرين أحدهما: أنّ النمو الموسيقي لا يعتمد كثيراً على النمو العقلي، فلا توجد علاقة مطردة بين العمرين الزمني والموسيقي. فقد يمتلك طفل في بداية نموه العقلي عبقرية موسيقية مبدعة، كما أن نمو هذه الموهبة قد يكون بقوة عوامل بيولوجية بخاصة، وقد لوحظ نمو هذه الموهبة بقوة فيما بين الثالثة والخامسة عشرة، وهي السن التي يتوقف فيها النمو البدني، ويكون هناك وقت كبير لنمو الملكات الذهنية. وأما الأمر الآخر فهو أنّ الموسيقى لا تستمد موضوعاتها من الطبيعة، ولا تعتمد على خبرة حياتية، لأن مصدرها وغناها الرئيس يكمن في الفنان ذاته، وطبيعة الموسيقي المجردة أن تجعل مادتها بعيدة تماماً عن عالم المحسوسات، وليس ثمة فن آخر يستمد مادة كلية من نفسه ولا يعتمد في نموه على الفنون الأخرى سوى الموسيقى.

والطفل حين يتعامل مع اللغة، أو يطالع صورة، أو يشاهد عملاً مسرحيّاً، أو يتأمل تمثالاً، أو يستمع إلى أغنية، فإنما يلجأ إلى وسائل تقرب له المعنى، بينما الموسيقى لا تحتاج إلى هذه الوسائل، لأنها إنما تعطي اللب الباطني، والأصل الأوّل الذي يسبق كل صورة، بحيث يمكن القول إنّ الطفل يستطيع الاتصال باللون منفرداً، أو بقطعة الحجر وحدها، أو بكلمة من كلمات اللغة، وهو في اتصاله بهذه الأشياء إنما يتعامل في الحقيقة مع مادة الأدب، ولكنه لا يستطيع أن يستمع إلى الصوت سابقاً على دخوله البناء الموسيقي فيرى فيه مادة هذا العمل ذاته، ذلك لأنّه لابدّ في كل عمل موسيقي من الإيقاع والانسجام الصوتي، ونظراً لاقتضاء الشعر هذه الخاصية فإنّه يعتمد على الموسيقي لأنّه أدخل في الشعر، وهو جزء منها في التعبير عن ذاته، وقديماً قطع الجاحظ بأنّ الشعر وكتاب العروض من كتب الموسيقى.

المصدر: كتاب أطفالنا وتربية عصرية

ارسال التعليق

Top