غالباً ما يتّجه الحديث عن المرأة إلى التعامل معها لا كإنسان، بل كأنثى يرتبط وجودها بجسدها وجمالها، ويرتبط اسمها باللّذّة والاستمتاع، ولا يتعامل معها كإنسانة تشاطر الرجل الحياة على الأرض، بكل ما للحياة من أبعاد ومعانٍ.
ولا تختلف الثقافة الجديدة والأدب الجديد في هذا الأمر عن الثقافة القديمة والأدب القديم.
وقد كنت أفكِّر في خلفيات ثقافة الجنس والتعرِّي التي تسود الآن أوربا، على مختلف الأصعدة، ابتداءً من لوحات الإعلان إلى التلفزيون إلى السينما وحتّى الكتب والمجلاّت و... وقد وجدت أنّ لهذه الثقافة جذورها في عهود الروم واليونان القديمة، فقد وجدت أكثر التماثيل القديمة عندهم تعاملت مع المرأة من خلال نفس النظرة في التعامل مع أعضائها التناسلية كنموذج لمنهج التعامل المادي مع المرأة دون التوجّه إلى روحها الشفافة التي تتألق جمالاً ملائكياً لا يصل إليه الجسد بأيّ حال.
ولا يختلف الأمر في الشارع الغربي عن تراثه القديم أو أخلاقه المادية الجديدة، فالمرأة – عادةً – قيمتها بقيمة جسدها وما تحمل من مسوح الجمال، فإذا ما كانت في أوج شبابها وتألق جمالها اجتمع حولها الشباب وكانت منية كل طالب يتناولونها كما يتناولون العلكة يمضغونها ثمّ يلفظونها بعد قضاء وطرهم منها... ومع تقدّم العمر وانقضاء سني الشباب التي تمر بسرعة، وضمور ألق الجمال شيئاً فشيئاً، والمرأة تبدو كشمعة قلّ وهجها وكزهرة ذبلت أغصانها... فإنّ الناس يبدأون أيضاً بالتفرّق عنها ويقل عندها طالبو مناها ورضاها... فمن حصلت منهنّ على زوج تقضي معه أيام الوحدة وغروب العمر فبها، ومن لم تحصل عاشت الوحشة والكآبة وعانت الغربة وهي في كنف دارها وبين قومها... وقد تنتهي بها الاُمور في دار للمسنين أو مستشفى حكومي لتودِّع الدّنيا بعد أن ودّعتها الدّنيا منذ أمد بعيد..
ولذا فقد يعتقد الناظر عن بعد أنّ المرأة في الغرب اكتسبت شخصيتها وأنّها تعيش الحياة في لذّة ومتعة ونشاط وأنّها في اشباع جنسي غريزي واكتفاء نفسي أنثوي... ولكنّ الدارس عن قرب يجد أنّ الكثير منهنّ في حرمان ومعاناة حتّى وهنّ في سنّ الشباب، لأنّ التنافس هنا في جمال الظاهر لا الروح، والشباب يبحثون عن متعهم ومصالحهم دون اكتراث لحقوق المرأة وما يحلّ بها، ولذا قد يفوز بعض منهنّ – وهنّ في الواقع يخسرن ما يملكن – ببعض المتع في الوقت الذي يحرم الكثير منهنّ لأنّ المجتمع يهملهنّ لقلّة جمالهنّ أو لون بشرتهنّ أو صفة شعرهنّ أو قلّة مالهنّ.
وما تعكسه الأفلام السينمائية من حياة المرح واللعب وأجواء المتعة والسياحة لا يعكس واقع كل النساء، بل لا يمثِّل حال المرأة في تلك المجتمعات... حالها كأفلام السينما الهندية التي تصور الحياة في قصور الأغنياء الخيالية في الوقت الذي يموت فيه الناس جوعاً في الأزقة والشوارع دون أن يجدوا قطعة خبز تسد رمقهم.
ولذا فإنّ نسبة معتدّاً بها من الشباب، ذكوراً وإناثاً، يعانون من الحرمان الجنسي والكبت النفسي في مجتمعات الغرب التي يغلب عليها الإثارة والهيجان وتعيش فورة الغريزة وطغيان الشهوات... ومن هنا يتم تداول الأفلام الجنسية المبتذلة بشكل واسع ويعرض منها في الكثير من القنوات وتباع الأدوات الجنسية بكمّيات هائلة لغرض توفير أجواء وأوضاع الإشباع الكاذب لملايين الهائجين الذين لا يجدون فرصة – في تلك المجتمعات الاباحية – لإشباع حاجاتهم بشكل طبيعي.
ولهذا أيضاً – وربّما لأسباب اُخرى لا يسعنا ذكرها – ينتشر الشذوذ الجنسي بين الذكور، وكذا الإناث بصورة بشعة وشنيعة، ولهذا وغيره ترتفع في الغرب نسب الاغتصاب وجرائم الاعتداء الجنسي لأنّ المجتمع أثارَ الشهوات وحرّك الغرائز دون أن يوجهها نحو القنوات الطبيعية والمجاري السليمة التي فطر الناس عليها... فاتّجه كل إلى جهة ما ليلتهم فريسته ويأخذ حاجته من أي مصدر كان وبأي شكل تأتّى له.
وكان وراء كل ذلك أصابع خبيثة ومصالح مادية لشركات وعصابات تتسابق في الإثارات وتحريك الشهوات وتتنافس في ابتداع مختلف وسائل استغلال حاجات الناس النفسية والجنسية لتنهب ثرواتهم بعد ما تنهب كراماتهم وتحطّم شخصياتهم.
والخاسر الأكبر في هذا الميدان المرأة... والإنسان الذي يخسر موقعه كخليفة لله يعمّر الأرض بالعلم والطهارة والتقوى وليحفظ الكرامة الكبرى التي أكرمه الله بها في عزّة وشرف ورفعة... يخسر كل هذا لتكون قيمته في جسد يبلى يباع ويشترى بأرخص الأثمان، ويأسف الإنسان أن يجد المرأة في الكثير من الدول الهابطة يتعامل معها كدمية تنتقل من شخص لآخر مقابل دراهم معدودة وأن تستخدم هذه المرأة كما تستخدم كلاب الصيد أو حيوانات اللهو دون أن تتحرك لحفظ كرامة وعزتها وقيمتها كوجود إنساني منظمة لحقوق الإنسان بل حتّى جمعية للرفق بالحيوان...!!
والمرأة في كثير من دول الشرق لم تكن ولم تعد أفضل حالاً من المرأة في الغرب التي ربّما فقدت اليوم أهم ما عندها ولكنّها قد اكتسبت بعض حقوقها الاجتماعية والسياسية في أكثر من بعد...
أمّا في الشرق فإنّها في الكثير من هذه البلاد لا زالت تعامل كإنسانة ناقصة لا تتمتّع بالكثير من حقوقها السياسية والاجتماعية، وإنّما هي لا زالت من قطاع "الحريم" و"الجواري" الذي تختص شؤونها بالخدمة وغرف النوم...
وعلى تعبير المرحوم د. شريعتي فإنّ المرأة النموذجية عند كثير من الناس هي "الخدّامة" الممتازة فتوصف المرأة بطبخها وكثرة شغلها... وتعامل – ومع الأسف والاعتذار – كبقرة حلوب: تطبخ وتنفخ وتشتغل ليل نهار، تلد وترضع وتخدم وتستبضع، لا يحق لها إبداء رأي وليس لها أن تختار أو تستشار... لينتهي بها المطاف أخيراً من تعب إلى نصب، تعاني من الآلام وتئن من الأيّام من مشفىً إلى مستشفى حتّى تتوفّى، فيترحّم عليها وتعمل لها بعض الخيرات لأنّها أنجبت كذا ولداً، وخدمت كذا سنة، ولم يرفع لها طرفة عين أو يسمع لها صوت، لأنّها كانت تكتم أنفاسها وتحبس هناتها، صبراً وتصبراً، إذ قيل لها أنّ مسارها من المهد ومصيرها إلى اللحد، ومن الثوب "الأبيض" الذي زفّت به إلى الكفن الأبيض الذي تدفن فيه.
فهم يرون أنّ المرأة شأن من شؤونه وقطعة أثاث من بيته، اشتراها بمهرها "الرخيص" وملك أمرها بكلمة خرجت من فيها.
واختلف وضع الغرب والشرق، فهذا غالب وذا مغلوب، ولكن لم يختلف وضع المرأة فيهما فهي مغلوبة على أمرها، هنا وهناك، فكانت ضحيّة التخلّف هناك وفريسة التقدّم هنا.
وهنا تبرز عظمة "الإسلام" الذي كرّم المرأة وأراد لها أن تحيا كإنسانة، فـ"النساء شقائق الرجال" كما ورد في الحديث الشريف و(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبة/ 71) وأنّ (رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) (آل عمران/ 195)، و(.. أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ...) (الحجرات/ 13)، كما ورد في القرآن الكريم.
وكان من حكم فرض الزيّ المحتشم على المرأة في الإسلام أنّ الله تعالى أراد للمرأة أن تمارس دورها في الحياة وتتحرك في المجتمع بشخصيتها الإنسانية لا بأنوثتها، التي لها قيمتها ودورها في مواقعها الخاصة.
وأراد من الناس أن يتعاملوا مع النساء أيضاً بقيمتهنّ الإنسانية ليعطوا المرأة احترامها وقيمتها، لا على أساس جمالها الذي يزول، أو جسدها الذي يذبل، بل على أساس كرامتها وخلقها وعلمها وفضيلتها وخدمتها للناس ودورها في المجتمع والذي قد يزداد يوماً بعد يوم رغم أنّ جمالها ينقص أو جسدها يضعف أو اُنوثتها تضمر...
ولذا فتح الإسلام للمرأة الأبواب لتشق طريق المعالي وتختط مدارج الرقي دون أن يعيقها عن هذا الطريق جسدها الذي قد يضعف عن جسد الرجال أو اُنوثتها التي قد يستضعفها البعض، وبهذا فسح الإسلام المجال أيضاً للمرأة أن تتقدّم لتتفوّق على كثير من الرجال، بل لتكون قدوة للرجال بعظمتها ومكانتها، لأنّ ميادين الكمال ليست حكراً على أحد وليست مختصّة بجنس أو عرق أو لون، ومن هنا كانت المرأة مثلاً أعلى للمؤمنين رجالاً ونساءً في كثير من الحالات، صرّح القرآن الكريم ببعضها وهو يقول: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا) (التحريم/ 11).
وهنا نقف نحن على مفترق طرق، لنتأمّل في أسلوب تعاملنا مع المرأة ونعيد النظر في واقعنا الحياتي الذي يقع تحت تأثير موروثات تاريخيّة عتيقة أو موجات ثقافية وإعلامية جديدة... نعيد النظر في الأفكار والأعمال لنعيد صياغتها وترتيبها كما يريد الله تعالى منّا، لنحيا حياة طيّبة ونموت ميتة طيّبة، حياة ملؤها العزّة والكرامة والطهر والنقاء.
ولا تتكامل حياتنا ولا تقترب من الإسلام إلاّ عندما نعيش العدالة في كل أبعاد حياتنا الفردية والاجتماعية، ومن أهمّها حياتنا الأسريّة وكيفيّة تعاملنا مع المرأة في البيت والمجتمع، والذي يجب أن يقوم على أساس احترام كرامتها الإنسانية وحفظ حقوقها الفردية والاجتماعية.
كما إنّ تقدّم أي مجتمع رهين باكتساب أفراده حقوقهم، بما في ذلك حفظ كراماتهم ومساواتهم أمام القانون وحماية حقوقهم السياسية، فقيمة كل مجتمع بقيمة الإنسان في ذلك المجتمع، والرجل والمرأة في ذلك سواء، فإذا ما أردنا لمجتمعاتنا التقدّم والازدهار، فإن علينا أن نعمل لأن تكتسب المرأة حقوقها الطبيعيّة كما نعمل لكي ينعم كل أفراد المجتمع بحقوقهم وامتيازاتهم.
المصدر: كتاب المرأة.. أزمة الهوية وتحديات المستقبل
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق