◄الحمد لله رب العالمين بارئ الخلائق أجمعين والصلاة والسلام على عبدالله ورسوله محمّد وآله الطاهرين.
يُجمع المؤرخون على أنّ الرسول الأكرم (ص) قد أولى علياً (ع) رعاية خاصّة منذ نعومة أظفاره، فقد حمله إلى بيته منذ كان صغيراً وزقّه تربية وعلماً، ولم يتعرف عليّ (ع) على غير أخلاق الرسول (ص)، فقد لازمه ملازمة الظل يذهب معه إلى كلِّ مكان حتى عندما كان الرسول يخلو إلى ربه في تعبده وانقطاعه في التفكير وتدبّر أمور العالم.
ويكاد يجمع المؤرخون أيضاً على أنّ الضائقة الاقتصادية التي حلّت بعمّه أبي طالب وكثرة عياله هي التي دفعت الرسول إلى الإقدام على تكفّل عليّ ومحاولة ردّ الجميل لعمه الذي تكفّل طفولته (ص).
فقد ذكر المؤرخون أنّ القحط قد عصف بأسرة أبي طالب مما حدا بالرسول (ص) إلى أن يقترح على عمّيه حمزة والعباس التخفيف من أعباء أبي طالب رضوان الله عليه، وقد احتفظ أبو طالب بعقيل إلى نفسه وسمح لهم بباقي أولاده فأخذ العباس طالباً وأخذ الحمزة جعفراً وتكفّل النبيّ (ص) علياً. وهذه القصة تبدو بعيدة عن الواقع لأسباب منها: أنّ علياً كما يجمع المؤرخون كان في سنّ الخامسة أو السادسة من عمره وأنّ جعفراً كان يكبر علياً بعشرة أعوام وأنّ عقيلاً كان يكبر جعفر بعشرة أعوام أيضاً كما أنّ طالب أكبر من عقيل بعشرة أعوام، هو الآخر، وعلى هذا فإنّ طالباً يكون في سنّ الخامسة والثلاثين وعقيلاً في سنّ الخامسة والعشرين وجعفراً في الخامسة عشرة، فمن غير المعقول أن يتكفل أحدٌ رجالاً بهذه الأعمار، أضف إلى ذلك أنّ حمزة كان له من العمر آنذاك خمسة وثلاثين عاماً أي بقدر سن الرسول (ص) وسنّ طالب الذي لم يرد له ذكر في بعض الروايات التي أشارات إلى موضوع الكفالة كما أهملت ذكر حمزة أيضاً، حيث اقتصرت على أنّ الرسول (ص) عرض الأمر على عمه العباس حيث امتنع أبو طالب عن تسليم عقيل فأخذ العباس جعفراً وحمل الرسول علياً.
وإذن فهناك تضارب في الروايات ولا نعلم مدى صحتها، خاصّة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن تكفل النبيّ لعلي (ع) لم ينحصر بسنة واحدة أو سنتين بل امتد لسنين طويلة، وكان يرافق النبي (ص) حتى في أماكن تعبده، كما أنّ العلاقة الاستثنائية التي حظي بها الإمام من لدن النبيّ والعطف والحنان والاهتمام لا يمكن تفسيرها بأنها محاولة لرد الجميل لأبي طالب.
يذكر ابن أبي الحديد رواية عن ابن عباس بأنّه سأل أباه العباس بن عبدالمطلب: أي بنيك أحبّ إلى رسول الله فأجاب العباس: عليّ، فقال ابن عباس: أنا أسألك عن بنيك وأنت تجيبني: عليّ؟! فقال الأب: لقد كان رسول الله يحب علياً حباً لم يحبّ به أحداً غيره.
إنّ هذه الرعاية الخاصة التي أولاها النبيّ لعليّ منذ كان صبياً إنما كانت إعداداً له لكي يكون وزيره وناصره في المستقبل وليكون منه بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة.
يتحدث الإمام عن هذه الفترة من حياة الرسول قائلاً: "ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره، ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل أثر أمّه، يرفع لي في كلِّ يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به"[1].
هكذا نشأ عليّ كغصن في شجرة كلاهما يتغذيان من جذر واحد، كما عبر الإمام: "وأنا من رسول الله كالصنو من الصنو والذراع من العضد"[2].
وقد بلغ من تأثر الإمام بأخلاق الرسول ومسيرته وذلك التشابه المدهش بين الشخصيتين في المواقف حداً جعلت الشريف الرضي يذكر ذلك لدى جمعه خطب أمير المؤمنين في نهج البلاغة. يقول في مقدمته:
عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي.
إنّ هذا التشابه وهذا التناغم في منطق النبيّ والوصي إنما يعود إلى وحدة الأصل وتوحّد الجذور، ويعود إلى أنّ علياً ترعرع وتفتح في بستان النبوة وإضافة إلى علاقة النسب وقرابة الدم فهناك انسجام روحي ومعنويّ وحدّ بين الشخصيتين.
إنّ الإمام لم يترعرع في أكناف شخص أو معلم عادي وإنما تربى في أحضان الرسالة الإلهية، وهذا نهج البلاغة – وبغضّ النظر عن قيمته البلاغية بما يمتاز به من قوة في الأداء وجزالة في الأسلوب بحيث اعتبره الشريف الرضي وسمّاه "نهجاً للبلاغة" – فإنّه يزخر بالمعارف الإسلامية الواسعة والكنوز الإنسانية الثرة تجعله أعظم تراث إسلامي بعد القرآن على الاطلاق.
لقد كان الأعداء والأصدقاء يتهافتون على حفظ كلماته وكانت خزائن الأمويين وهم أشدّ أعداءه تزخر بخطبه وأحاديثه.
فهذا عبدالحميد الكاتب الشهير الذي كان يكتب لمروان بن محمّد آخر الخلفاء الأمويين والذي كان مضرب المثل في البلاغة والفصاحة حتى قيل: "بدأت الكتابة بعبدالحميد وختمت بابن العميد" عندما قيل له: ما الذي خرّجك في البلاغة؟ قال: أحفظ كلام الأصلع" يعني بذلك عليّ بن أبي طالب (ع).
ويقول الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين" مشيراً إلى مقولة الإمام (ع): "قيمة كلّ امرئٍ ما يحسنه" يقول: لو لم يكن في الكتاب إلّا هذه العبارة لكفى بل لزاد على الكفاية وأفضل الكلام ما قلّ ودلّ ثمّ يقول: وكان الله عزّ وجلّ قد ألبسه من الجلالة وغشاه من نور الحكمة على نية صاحبه وتقوى قائله".
ثمّ يصف حديث عليّ (ع) بأنّه يسمو في المعنى فصيح في اللفظ من غير تكلّف وينزل على قلب المرء نزول الغيث على الأرض، ولم يكن الجاحظ من شيعة عليّ أو محبيه بل كان معادياً "وكان مائلاً إلى النصب" على ما ورد في كتب التاريخ.
كما ورد في كتب التاريخ بأنّ عدي بن حاتم الطائي – الذي يعد من أبرز وأعظم أصحاب عليّ (ع) والذي قدّم أولاده الثلاثة شهداء في معركة صفين وهم طريف وطارف وطرافة – بأنّه دخل على معاوية بن أبي سفيان وذلك بعد أن انتقلت الخلافة إليه فسأله الأخير: "أين الطرفات؟" فقال عدي: "قُتلوا يوم صفين بين يدي عليّ بن أبي طالب" فقال معاوية: "ما أنصفك علي إذ قدّم بنيك وأخّر بنيه" فأجاب عدي بحزم: "بل ما أنصفتُ علياً إذ قُتل وبقيت"، فقال معاوية: "صف لي علياً" فقال عدي: "اعفني" فقال معاوية: "لابدّ من ذلك"، وعندها قال عدي: "كان والله بعيد المدى شديد التقوى يقول عدلاً ويحكم فصلاً تتفجر الحكمة من جوانبه والعلم من نواحيه" ثمّ استرسل في الوصف حتى سالت دموع معاوية على لحيته وتمتم قائلاً: "رحم الله أبا الحسين، كان كذلك. فكيف صبرك عنه؟" فقال عدي: "صبر من قُتل وليدها في حجرها".
لقد كان الأعداء والأصدقاء يجمعون على أنّه "تتفجر الحكمة من جوانبه والعلم من نواحيه".
نعم، إنّ نهج البلاغة يعدّ كنزاً نفيساً ونبعاً ثراً يغذّي الروح، ويهب القلب الطمأنينة والسلام. إنّه دائرة معارف إنسانية كبرى، فهو يزخر بمختلف البحوث والتحاليل الفكرية الدقيقة بدءاً بتوحيد الله وصفاته وأسمائه والنبوة والمعاد وأسرار الخلق ووجود العالم ونشأة الإنسان وبعثة الأنبياء إلى المسائل الإسلامية والقرآنية العديدة، إلى القضايا الإنسانية المختلفة والمواعظ المؤثّرة والأخلاق الرفيعة من صبر وشجاعة وعفّة وتقوى واستقامة وهمّة وإرادة، كلّ ذلك بأسلوب رفيع خلّاب يأخذ بالنفوس وبالألباب.
كما يضمّ بحوثاً اجتماعية دقيقة تحلل الفتن وأسبابها وآثارها والخلافات وأضرارها، والعزة وشوكتها، والذلة وخسائرها، وأصول العدل والمساواة والحقوق والحكم والقانون وواجبات الحاكم والتزامات الرعية ووظائف المجتمع وغير ذلك من شؤون الحياة، إضافة إلى شؤون الحرب والجهاد والقيادة إلى غير ذلك من الحوادث التي عصفت بالبلاد الإسلامية وجرّت عليها الويلات كمصرع عثمان وحرب الجمل وصفين ومسألة التحكيم وقضية الخوارج.
إضافة إلى قسم يشتمل على الملاحم وحوادث المستقبل التي سمعها عن الرسول (ص) كمستقبل البصرة والكوفة وفتنة الزنج واستبداد عبدالملك والحجاج بن يوسف، وما سيؤول إليه مصير الأمويين.
كما يضم أيضاً سياسته ومنهجه في الإدارة والحكم وغير ذلك من الأحكام الإسلامية كالصلاة والصيام والحج والجهاد والزكاة وصلة الرحم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما تزخر ببيانات الحرب والأقدام، وبالصور العرفانية الرفيعة، والسير إلى الله، حيث حظي التوحيد وصفات الباري جلّ وعلا باهتمام كبير، فانفردت خطب كاملة كلها تتحدث عن صفات الربوبية ومعاني الأحد، الأمر الذي يجعل المرء يؤمن إيماناً قاطعاً بأنّ هذه الشخصية إنما استقت نورها من مشكاة النبوة ومن عالم المعاني، وعلى حد تعبير جبران خليل جبران: "جاور الروح الكلي وسامرها".
ومن الموضوعات التي أولاها الإمام اهتماماً في خطبه وأحاديثه مسألة حب الدنيا والزهد فيها والاتجاه نحو الآخر وذكر الموت واغتنام فرصة العمر حيث يضع الإمام من قيمة الدنيا وزخرفها وما تنطوي عليه من مادّيات في حين يرفع من شأن القيم المعنوية.
ومن عجبائه (ع) (كما ذكر ذلك الشريف الرضي) التي انفرد بها، أنّ كلَّ كلامه الوارد في الزهد والمواعظ والتذكير والزواجر إذا تأمله المتأمل لم يعترضه الشك في أنّه كلام من لا حظ له في غير الزهادة ولا شغل له بغير العبادة... ولا يكاد يؤقن بأنّه كلام من ينغمس في الحرب مسلطاً سيفه فيقطع الرقاب ويجدّل الأبطال، وهو مع تلك الحال زاهد الزهّاد، وهذه من فضائله العجيبة التي جمع بها بين الأضداد.
ويضم نهج البلاغة بين دفتيه بحوثاً في مسألة الحقوق الاجتماعية والعدالة والمساواة والثورة على الظلم ورفض العداوات، فلقد كان (ع) مثالاً للعدل والمساواة فانعكس ذلك على أحاديثه وكلماته، فهو القائل: "الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحقّ له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحقّ منه"[3].
كما تحدث عن مسألة تبادل الحقوق في المجتمع، وأنّ كلَّ حقّ يتمتع به إنسان يقابله واجب، وأنّ الحقوق تجري للجميع كما تجري عليهم، فليس هناك فئة تتمتع بالحقِّ دونما واجب، وليس هناك فئة عليها دون أن تتمتع بالحقِّ.
ومن المسائل الأخرى التي يضمها الكتاب، تلك التي تبين منهج الإمام في الإدارة والحكم والسياسة بعيداً عن الكذب والدجل والحيلة والمكر والخديعة والنفاق، فكان خطّه واضحاً ومواقفه لا تقبل المماطلة.
وقد بلغت بعض عباراته من العمق ما جعل البعض يتيه في تفسيرها ويخطئ في تأويلها، حيث ينبغي في مثل هذه الحالة أن نأخذ شخصيته وسائر أحاديثه لكي يمكن بعد ذلك معرفة المعنى المنشود.
لقد كانت حياة أمير المؤمنين تجسيداً لكلِّ الكلمات التي نطق بها، فلم يكن يتكلف الحديث في موضوع معيّن، بل كان مثالاً لكلِّ ما قال وفعلاً لكلِّ كلام، وكان في قمة الزهد وهو يتحدث عن الزهد، وكان في قمة العرفان وهو يشير إليه، وكان في قمة الإخلاص للإسلام عندما يؤكد على وجوب التضحية في سبيل إعلاء كلمة الحقّ. ولقد اجتمعت في شخصيته جميع الفضائل الإنسانية مما جعله مثالاً تقدّسه البشرية جمعاء.
الهوامش:
[1]- نهج البلاغة/ خطبة 224 القاصعة.
[2]- نهج البلاغة/ كتاب 45.
[3]- نهج البلاغة/ خطبة 37.
المصدر: كتاب سلوك وأخلاق الإسلام
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق