• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الآثار الكامنة للرسالة الإعلامية

الخبير الإعلامي ميسّر سهيل

الآثار الكامنة للرسالة الإعلامية
  إنّ أي اتصالٍ يهدف أساساً إلى إحداث تأثير على المتلقي، ودراسة هذا التأثير هامة، ويمكن بشكل عام أن نُعرّف التأثير: بأنّه التغيير الذي يطرأ على متلقي الرسالة، وعادةً لا تحدِثُ التأثير الكامل الذي يهدف المرسل إلى تحقيقه، بل ربما يحدث التغيير بتكرار الرسالة عدة مرات، وبصورة عامة فقد تلفت الرسالة انتباه المتلقي ويدركها، وقد تضيف إلى معلوماته معلومات جديدة أو تعدل اتجاهاته القديمة، وقد تجعله يتصرف بطريقة جديدة أو يعدل سلوكه السابق.   - النظر في المآلات والآثار الكامنة: المآلات هي التأثيرات التي يحدثها العمل الإعلامي، هذه التأثيرات إما أن تكون ثمرات طيبة تحقق الغرض من النشاط المقروء أو المسموع أو المرئي، وإما أن تكون التأثيرات سلبية أو تختلط سلباً وإيجاباً. والواقع أنّ الباحثين لم يتمكنوا حتى الآن من تصميم إطار فكري نستطيع أن نصنّف فيه التأثيرات المختلفة التي تنتج عن عملية الاتصال، وقد قسّمها بعضهم إلى تأثيرات ظاهرة وتأثيرات كامنة، وتحدّث البعضُ الآخر من الباحثين عن التأثيرات التي يهدف القائم بالاتصال إلى تحقيقها، والتأثيرات غير المتوقعة وغير المرغوب بها ولا يهدف إليها بالاتصال، ولكنّها تحدث رغماً عنه، وعلى سبيل المثال فإنّ زيادة معلومات المتلقي قد تكون من التغييرات العملية التي يهدف القائم بالاتصال إلى تحقيقها، لكن إزدياد عدد الجرائم الذي ينشأ نتيجة مشاهدة بعض الأفلام التي تتناول الجريمة، هي نتائج غير مقصودة أو غير متوقعة ولم يهدف القائم بالاتصال إلى تحقيقها. ومحاولة القائم بالاتصال أن يشرح نواياه وأهدافه أمر صعب، لأنّه ليس هناك في العادة وضوح كاف بالنسبة للأهداف عند القائمين بالاتصال أو عند المتلقي على حد سواء، والرسالةُ ذاتُها قد يكون لها أهداف متعددة تختلف باختلاف الأفراد، وقد يكونُ لها تأثير مباشر وعاجل، أو تأثير آجل لخطة المسؤولين عن تنفيذها وتمويلها. فالنظر في المآلات الإعلامية يجب أن يكون معتبراً من رجل الإعلام، وأن يكون ميزانه في الأمر دقيقاً، فإذا أدّى الاتصال إلى مصلحة راجحة فإنّ عملية الاتصال مناسبةٌ، لأنّ المصلحة الراجحة وإن رافقها مفسدة قليلة فإنّها لا تهدر، أما إذا رجحت المفسدة على المصلحة؛ أو تساوت، فعملية الاتصال غير مناسبة، سواء ظهر ذلك أو كنا نتوقع ظهوره، والرسالة لا تعطى صفة الإجازة إلا بعد النظر في الآثار التي يمكن أن تترتب على هذا النشاط، فإن كان ذا مقاصد حسنة ولكن نتج عن ثمرة غير طيبة فإنّه يُمنَعُ لما لازمه من عوامل ستؤدي إلى ما يناقض الهدف المقصود من عملية الاتصال، فلابدّ من اعتبار هذه اللوازم، لأننا إذا أجزنا النشاط الإعلامي الذي يجلب مصلحة ترافقها مفسدة راجحة أو مساوية فإننا قد هدرنا المقصد الإعلامي وأفضينا إلى نقيضه.   - توافق الباعث والمآل: لقد نظر علماء المسلمين إلى هذا الميزان الدقيق قديماً فيما يتعلق بالأحكام، وبيّنوا أنّ المصالح معتبرةٌ في الأحكام وأنّها شرعت لتحقيق غايات أساسية قصد الشارع إلى تحقيقها، ومِن هنا كان الحكم الاجتهادي منظوراً إليه في الشرع على أنّه وسيلة غايته المصلحة، فكل فعل هو مقدمة لنتيجة أو هو وسيلة لغاية يفضي قطعاً أو ظنّاً أو كثيراً أو غالباً إلى غير غايته التي رسمها الشارع أو إلى مآل هو مفسدة مساوية أو راجحة على المصلحة التي شرع الفعل من أجلها لم يبق مشروعاً؛ لأنّ العبرة بهذه النتيجة في تكييف الفعل، أي إعطائه الوصف المناسب الذي لا يناقض في مآله مقصد الشارع، وتجنباً لهذه المناقضة يلزم المجتهد في التشريع الاجتهادي أن ينظر في هذه المآلات جرياً على اعتبار المصالح في الأحكام دون النظر إلى الباعث فقط. وفكرة عدم النظر إلى الباعث فقط تتضح بحديث السفينة: عن النعمان بن بشير (رض)، عن النبي (ص)، قال: "مثلُ القائمِ على حدودِ اللهِ والواقعِ فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينةٍ؛ فصار بعضُهم أعلاها، وبعضهم في أسفلها، وكان الذين في أسفلِها إذا استقموا من الماء مَرُّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوْا ونَجَوْا جميعا". ونلاحظ في الحديث أنّ الذين أرادوا خرق السفينة لم يكن الباعث لفعلهم قصد الضرر، وإنما أرادوا عدم إيذاء الذين فوقهم بالمرور في حصتهم، وهو باعث حسن، ولكن بما أنّ خرقَ السفينة أمرٌ خَطِرٌ على الجميع وجب أن يؤخذ على أيديهم دون النظر إلى الباعث الحسن فقط. ولا خلافَ بين علماء المسلمين أنّه لا يجوز التذرّع بأمر ظاهر الجواز لتحقيق أغراض غير مشروعة؛ لما في ذلك من مناقضة الشرع عيناً بهدم قواعد الشريعة، فالتصرّفاتُ المأذونُ فيها سواء القولية أو الفعلية إذا أفضت إلى مآل ممنوع منعت، ولم تشرع، لأنّ هذه التصرفات يجب أن تحقق مصالح لا مفاسد، وهذا ما ينطبق على الرسالة الإعلامية.   - معالجة القرآن الكريم للآثار الكامنة: هي آثارٌ غيرُ متوقعة أو غير مقصودة، وتكونُ عادةً في عرض الأمور السلبية من شؤون الحياة – كالجريمة والسرقة والمراقص والمشارب وما يقعُ فيها من وقائع تفصيلية – في معرض البيان والإيضاح دون الانتباه لما ينتج عنها من تعليم مَن يجهل، وتشويق مَن أعرض من ذوي النفوس الضعيفة، فيتعلّمُ المجرمُ فنوناً جديدة، ويزود السارق بحيل دقيقة، ويستدل الجاهل على بؤر الرذيلة دون أن يكون المرسل قاصداً هذه النتائج. وقد عالج القرآن الكريم هذه الآثار الكامنة بمنهج قويم يتجاوز فيه كل التفاصيل، ويكتفي بإشارة عابرة إلى الجريمة، ثمّ يتمُّ الانتقال السريع إلى النتيجة المقصودة، فالاستغناء عن التفاصيل يدرأُ مفسدة زيادة المعلومات السلبية غير المرغوب فيها إضافة إلى إطلاق الخيال للتفكير في النتائج المفيدة من خلال بيان المآل السيئ لمرتكب الجريمة والشعور بفظاعتها والسخط على مرتكبها. - يحدّثنا القرآن الكريم عن أصحاب الأخدود من الكفار الذين ارتكبوا مجزرة جماعية بشعة بحق المؤمنين، حيث أشعلوا النار في خندق كبير، ودفعوا المؤمنين نساء ورجالاً وأطفالاً إلى تلك المحرقة الأولى في التاريخ البشري، قال تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (البروج/ 4-8). فقد أشارت الآيات إلى بشاعة الجريمة إشارة موحية بفظاعتها دون الدخول بالتفاصيل، تاركة الخيال يسرحُ في دفع الناس وجرهم إلى النار واحتراق الأجساد وما ينشأ عنها من الآلام، مكتفية بما يحدثه النص القرآني من أثر في إعمال الذهن وتحريك الانتباه، بل إنّ الإبداع في العرض أنّه قلب الصورة من المشهد الدنيوي الذي يراه الناس إلى المشهد الأخروي الذي يراه الله عزّ وجلّ، فقال تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ)، فالكفّار أصحاب الأخدود في هذا المشهد هم المقتولون المعذبون بالنار، أما المؤمنون فينتقلون إلى جنة الله ورضوانه في دار البقاء والحياة الدائمة، وفي هذا الانتقال السريع من وقوع الحادث في الدنيا إلى مآل الكافرين في الآخرة إعمال للخيال ولفت للانتباه إلى جوهر الحقيقة مع بقاء المفهوم الظاهر المراد من النص، وهذا الأسلوب من التعبير المعجز درس في البلاغة التعبيرية والإخراج لتجنب الآثار الكامنة. - درسٌ آخر في القرآن الكريم: تلك المؤامرة الإجرامية التي دبرها قوم سيدنا إبراهيم (ع) حين أجمعوا أمرهم على إحراقه بالنار، ويختصرها بكلمة واحدة: (حَرِّقُوهُ) (الأنبياء/ 68)، وينتقل إلى الأهم في الموضوع وهو النتيجة التي قدرها الله سبحانه لنصرة الحق على الباطل مشيراً إلى تدخل العناية الإلهية في اللحظة الحاسمة، قال تعالى: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ) (الأنبياء/ 69-70). فكان المدلول واضحاً في بشاعة الجريمة مع الانتقال السريع إلى تفاصيل مهمة تتعلق ببيان واقع المجرمين في الإقدام على الجريمة، ونصر الله تعالى لنبيه بنجاته من النار. وفي قصة يوسف (ع) مع إخوته حينما استأذنوا أباهم ليذهبوا بأخيهم، يصور القرآن جريمتهم بالسرعة والإيجاز؛ قال تعالى: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (يوسف/ 15). يذكر القرآن الكريم الأمر الذي ينبغي أن يعرف عن الجريمة، وهو أنهم أجمعوا أمرهم أن يجعلوه في ظلام البئر، وبسرعة خاطفة ينتقل إلى ما هو أهم، مهملاً التفصيلات عن قصد، ومشيراً إلى نجاته، وانتصار الحق على الباطل في نهاية المطاف: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)؛ فليس المهم أن نعرف كيف أمسكوا بأخيهم، وكيف أنزلوه في الجب، وما الحيلة التي استخدموها للوصول إلى ذلك، وما هي مواصفات الجب التي لا تمكّنه من إنقاذ نفسه، فهي تفصيلات ليس من شأنها زيادة معرفة ببشاعة الجريمة، وإنما تفيدُ في تعليم أساليب الإجرام، أما إغفالها فيترك الخيال يعمل عمله لينشط باستمرار في إطار احترام ذكاء المتلقي.   المصدر: كتاب الإعلام الإسلامي وقواعد تقويمه

ارسال التعليق

Top