• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

في معنى التسامح الإسلامي.. وتجلياته

زكي الميلاد/ كاتب ومفكر من المملكة العربية السعودية

في معنى التسامح الإسلامي.. وتجلياته

* التسامح هو امتزاج بين الفكر والأخلاق * في الحديث عن التسامح يغيب الحديث عن التسامح بين المسلمين أنفسهم * في الإسلام أعظم منابع للتسامح * متى ما وجد التنوير وُجد التسامح * التعصب لا يرى الحقيقة إلاّ في عقل صاحبه وهو أخطر ما يصاب به العقل * التسامح هو مظهر قوة الضمير وشفافية النزعة الإنسانية وعظمة الروح الأخلاقية.

  - التسامح.. المعنى والمجال: لقد تحددت العديد من المعاني لمفهوم التسامح، بحسب المجالات التي ارتبط بها. ومع تعدد هذه المعاني إلا أنها تتقاطع فيما بينها، وتشترك في الإطار الذي يتصل بفلسفة هذا المفهوم. الفلسفة التي هي نقيض التعصب والأحادية والإكراه والموقف القسري، والتي لا ترى في التعدد والاختلاف حرجاً ومضرة، ولا ترى في البحث عن الحقيقة نهاية واكتمالاً. ومن المجالات التي استعمل فيها التسامح، مجال اللغة، وفي هذا المجال يأتي التسامح، كما جاء في تعريفات الجرجاني، بمعنى: "أن لا يعلم الغرض من الكلام، ويحتاج في فهمه إلى تقدير لفظ آخر. أو هو استعمال اللفظ في غير الحقيقة، بلا قصد علاقة معنوية، ولا نصب قرينة دالة عليه، اعتماداً على ظهور المعنى في المقام، فوجود العلاقة يمنع التسامح". وفي المجال الاجتماعي يستعمل التسامح بمعنى السهولة في المخالطة والمعاشرة، وهو لين في الطبع، في مظان تكثر في أمثالها الشدة. والسهولة واللين تارة تكون بالكلام. وتارة تكون بالسلوك. تكون بالكلام مصداقاً لقوله تعالى: (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا) (الإسراء/ 28)، وقد فسر الفخر الرازي القول الميسور، بالقول اللين والسهل. ومصداقاً أيضاً لقوله تعالى: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه/ 43-44). ويرجع الفخر الرازي في تفسيره الكبير أمر الله لموسى باللين في مخاطبة فرعون، لوجهين: الأول: إنه كان قد ربّاه فرعون، فأمره أن يخاطبه بالرفق رعاية لتلك الحقوق. الثاني: إن من عادة الجبابرة إذا غلظ لهم في الوعظ، أن يزدادوا عتواً وتكبراً، والمقصود من البعثة حصول النفع لا حصول زيادة الضرر، فلهذا أمر الله تعالى بالرفق. وتكون السهولة واللين بالسلوك، مصداق قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ...) (آل عمران/ 159)، وقوله تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت/34). وفي المجال الديني يستعمل التسامح بمعنى إبداء السماحة لمخالفي المسلمين من جهة الدين، وهذا المعنى في نظر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، اصطلح عليه العلماء الباحثون عن الأديان من المتأخرين في أواخر القرن الماضي الهجري، أخذاً بالحديث النبوي "بعثت بالحنيفية السمحة"، وقد صار هذا اللفظ حقيقة عرفية في هذا المعنى. وربما عبّروا عن معناه سالفاً كما يضيف الشيخ ابن عاشور، بلفظ التساهل، وهو مرادف له في اللغة. ويرى ابن عاشور أنّ الاصطلاح الذي خص لفظ التسامح بمعنى السماحة الخاصة تجاه المخالفين في الدين، كان حقيقاً بأن يترك مرادفه في أصل معناه، ولذلك هجروا لفظ التساهل، لأنه يؤذن بقلّة تمسّك المسلم بدينه، فتعين لفظ التسامح للتعبير عن هذا المعنى، وهو لفظ رشيق الدلالة على المعنى المقصود، ولا ينبغي استبداله بغيره. وفي اصطلاحات المعاصرين كما جاء في كتاب: "المعجم الفلسفي"، فإنّ التسامح يأتي بمعنى أن تترك لكل إنسان حرية التعبير عن آرائه، وإن كانت مضادة لآرائك، وأن يحترم المرء آراء غيره، لاعتقاده أنها محاولة للتعبير عن جانب من جوانب الحقيقة. والتسامح كما يقول غوبلو، لا يوجب على المرء التخلّي عن معتقداته، أو الامتناع عن إظهارها، أو الدفاع عنها، أو التعصب لها، بل يوجب عليه الامتناع عن نشر آرائه، بالقوة والقسر والقدح والخداع. والذي يفهم من تلك المعاني والاستعمالات، أنّ التسامح هو امتزاج بين الفكر والأخلاق، وتعبير عن موقف فكري من جهة، وموقف أخلاقي من جهة أخرى. موقف فكري يحدد طريقة التعامل من المفاهيم والأفكار المغايرة على مستوى النظر، وموقف أخلاقي يحدد طريقة التعامل مع المفاهيم والأفكار المغايرة على مستوى العمل.   - هل يوجد تسامح بين المسلمين؟ لقد استحسن الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في كتابه: "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام"، ما ذهب إليه علماء المسلمين في أواخر القرن الهجري الماضي، حين حددوا مجال التسامح في ما يخص المخالفين للمسلمين من جهة الدين، ووافقهم الشيخ ابن عاشور على هذا التحديد، وعلى هذا الرأي. وفي هذا النطاق، جاءت المناظرة الشهيرة بين الشيخ محمد عبده وفرح أنطون، في بداية القرن العشرين، التي تطرقت إلى موضوع التسامح، وعلاقته بالعلم والفلسفة بين المسيحية والإسلام. وفي هذا النطاق أيضاً، جاء كتاب الشيخ محمد الغزالي الذي حمل عنوان: "التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام"، إلى جانب أعمال وكتابات أخرى. ونحن لا نعترض على هذا المعنى بالتأكيد، ولكن وجهة النظر تتعلق بهذا الحصر والتحديد الذي يكاد يغيب فيه عنصر التسامح بين المسلمين أنفسهم، مذاهب وجماعات وأفراداً، أو لا يكون مشمولاً بهم. وكأن ليس هناك ضرورة أو مبرر للتسامح بين المسلمين، أو ليس هناك موضوع وابتلاء يوجب الحاجة إليه. والحال كما نعلم، ليس كذلك على الإطلاق، فواقع المسلمين كما يتراءى للجميع، يظل شاهداً على حاجتهم الملحة لمفهوم التسامح. المفهوم الذي يكاد يكون غائباً أو مهملاً أو منسياً بين المسلمين، وليست له قوة المعنى في حياتهم الفكرية والدينية، وليست له عظمة التجلّي، وفاعلية التخلّق، خصوصاً عندما تشتدّ الخلافات والنزاعات بين المسلمين، ففي مثل هذه الظروف لا يكون التسامح في العادة هو سيد الموقف، أو النداء الذي يكون عالياً ويصغي إليه الجميع، والسؤال: لماذا؟ والعجيب حقاً أن من النادر جداً أن تجد كتاباً مؤلفاً في موضوع التسامح بين المسلمين، ولا أدري إذا كانت هذه الحقيقة تبعث على الدهشة عند الكثيرين من الغيورين على الإسلام ومستقبل المسلمين، أو عند بعضهم على الأقل، فهل يصدق هذا الأمر حقاً؟ والإسلام الذي فيه أعظم منابع التسامح، إلى درجة أن نجد الشيخ ابن عاشور يقول: "يحق لنا أن نقول أن التسامح من خصائص دين الإسلام، وهو أشهر مميزاته، وأنه من النعم التي أنعم بها على أضداه وأعدائه، وأول حجة على رحمة الرسالة الإسلامية المقررة بقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107)..." والحقيقة أن كل ما في الإسلام من قيم ومبادئ وأخلاقيات ومفاهيم، هي من منابع التسامح في الإسلام، والسؤال أين ذهبت هذا المنابع وتجلياتها بين المسلمين، الذين تطحنهم النزاعات والخلافات منذ زمن طويل، وترتفع في حاضرهم عالياً خطابات التفكير، ودعوات العنف، والرغبة في القتل، بصورة هي الأخطر من نوعها في تاريخ المسلمين الحديث. وكأنّ منابع التسامح قد جفّت في الإسلام، أو أنّ هذه المنابع ليس لها أساس في الإسلام، وكأن الأصل في الإسلام هو التعصب والتطرف والتكفير. والمشكلة أنّ تاريخ المسلمين الفكري لا ينقل لنا تراثاً لامعاً ومتخلّفاً بالتسامح، بقدر ما ينقل لنا مشاهد ومواقف متفرقة ومتناثرة، وكأنها خارجة عن السياق العام، وليست هي السياق نفسه، وحتى هذه المشاهد والمواقف لا نأتي على ذكرها إلا لماماً، ولا نستحضرها بالطريقة التي نبرز فيها عالياً مفهوم التسامح. والى اليوم والتسامح لا يشكل في حياتنا الفكرية حضوراً متجلياً وخلاقاً، ينفذ إلى عقولنا بقوة إشعاعه. وإذا كان التسامح ينبعث في الأمم التي تُبتلى بالنزاعات الفكرية، وتظهر فيها الصدامات الدينية، أو الحروب الدينية، فنحن مرّت علينا وما تزال تمر علينا مثل هذه النزاعات الفكرية والصدامات المذهبية، فلماذا لم ينبعث التسامح فينا، لذلك جاز لنا التساؤل: هل يوجد تسامح بين المسلمين؟   - التسامح والتنوير: الاقتران الذي يجري بين التسامح والتنوير، هو اقتران صائب وفعال. فمتى ما وجد التنوير وجد التسامح، ومتى ما غاب التنوير غاب التسامح، وكلما انتشر التنوير انتشر التسامح، وكلما تراجع التنوير تراجع التسامح، لأن التنوير هو نقيض التعصب، ليس هذا فحسب، وإنما لأن التنوير لا يتيح مجالاً للتعصب، ويجعل من التعصب علامةً وسلوكاً منبوذاً ومكروهاً، يمقت صاحبه، ويؤنب على هذا الفعل من يقدم عليه. ولأنّ التنوير لا يرى في الاختلاف مذمة، ولا يجعل منه مصيبة، ولا يحترز منه، أو يقاومه، بقدر ما يجعل منه مصدراً للثراء، ومنبعاً للرحمة والتسهيل، وسلوكاً لرفع الحرج ودفع العسر، ونهجاً لتلاقح الأفكار. ولأنّ التنوير يجعل من التعدد فضيلة، ومن التنوع مكسباً، ومن الأحاديث تحجراً، ومن التماثل سبباً للرتابة والجمود. فالتعدد فضيلة لأنّ الأصل في الحياة هو التعدد، والتنوع مكسب لأنه يفتح المجال أمام انبعاث الطاقات، والأحادية تنتهي إلى التحجّر لأنها تغلق فرص الاستفادة من الطاقات المتعدّدة، والتماثل يكون سبباً للرتابة والجمود لأنه يفتقد إلى آفاق التجدد. ولأنّ التنوير يرفع عن الناس رهبة التعبير عن الرأي، والخوف من قول الحق، أو كتمان العلم، كما ويضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، حتى لا يشعروا بالقصور في الفهم، ويعطلوا عقولهم لانعدام الشجاعة على ذلك. ولأنّ التنوير فيه تعظيم لمنزلة العقل ومكانته، وفيه دفع وتحريض على إعمال العقل، والوصول إلى عقول الآخرين، على قاعدة أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله، ومتى ما حضر العقل غاب التعصب، ومتى ما حضر التعصب انغلق باب العقل، لأنّ التعصب لا يرى الحقيقة إلا عقل صاحبه، ويخرج عقول الآخرين من دائرة الحقيقة. وهذا أخطر ما يصاب به العقل، وأكثر ما تصطدم به الحقيقة، التي تأبى أن تجتمع في عقل واحد، فهذه ليست هي الحقيقة في منطق الحقيقة ذاتها. فالحقيقة هي تلك التي يتوزع نورها وإشعاعها على عقول الناس، ومن يريد أن يصل إلى الحقيقة فعليه أن يصل إلى عقول الناس. وهذه هي الحكمة التي جعلت ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، ومن يريد الحكمة فعلية أن يفتش عنها في عقول الناس، لا أن يبحث عنها في عقله فحسب. ومن يصل إلى عقول الناس يكون أقرب الناس إلى الحكمة، لأنّ الذين يستمعون القول هم الذين يتبعون أحسنه، وهؤلاء هم الذين هداهم الله، وهم أولوا الألباب. هذه هي عظمة التنوير الذي يفكك ويحطم بنية التعصب ويهزمها، ويجعلها مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، ويجعل من التسامح سلوكاً اجتماعياً عاماً بين الناس، ومحبباً لهم، وليس مجرد سلوك فردي وخاص، يصدر من بعض الناس، ومن فئة قليلة منهم. وهذا هم التسامح الذين يضفي على حياة الناس متعة العيش والتعايش، التسامح الذي يترسخ ويتعزز باتساع ممارسته، أي أنّ التسامح يترسخ بالتسامح ذاته.   - بيان أخلاقي من أجل التسامح: يتنامى في إدراك العقلاء والحكماء والمتنورين في الأمة ضرورة إعادة التأكيد والاعتبار لمفهوم التسامح، وضرورة أن يكون هذا المفهوم حاضراً ومتجلياً في اجتماعنا وثقافتنا. مفهوم التسامح على قيمته وأهميته الأخلاقية والعقلية، المعنوية والفكرية، يكاد أن يكون غائباً، أو في حالة تراجع وانحسار، أو ليس له ذلك التجلي والحضور المفترض. وكأننا انقطعنا عن ذاكرتنا، التي تنقل إلينا صور ومشاهد ونماذج، تظهر لنا كيف أن التسامح كان يمثل قيمة عليا، أو كأننا فقدنا الارتباط بتراثنا، الذي طالما كان يرشدنا إلى تعاليمه وأخلاقياته وقيمه في التسامح والعفور والصفح، أو كأننا غفلنا عن ذلك التلازم بين الشريعة والتسامح، وكيف أننا نغلب مفهوم التسامح في وصف الشريعة، بقولنا الشريعة السمحاء، ومن يكتسب المعرفة بالشريعة نصفه بالسماحة، وذلك لشدة العلاقة بين التسامح والدين، باعتبار أنّ الدين هو المعاملة، ومن أجل تأصيل مفهوم التسامح وتعميمه بين الناس، وتحويله إلى التزام ثابت وراسخ، يظهر في السلوك ويتجلّى في إعمال الفكر. والحاجة إلى التسامح لأنّ الخطأ يصدر من الجميع، ولأنّ البشر ليسوا منزهين عن الخطأ، ولأنّ كل واحد من البشر وجد نفسه في موقف يطلب فيه التسامح، وقد يلح في طلبه أحياناً لأنه صدر منه خطأ، ويكفي لهذه المواقف أن نتعلّم منها حاجتنا إلى التسامح، وحاجة الجميع إليه. والحاجة إلى التسامح لأنّ الاختلاف من طبيعة البشر، ومن مقتضيات العقل، ومن ضرورات الاجتماع. قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (هود/ 118)، وقوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس/99)، ولأننا نمارس الاختلاف ويمارس علينا، وهو من مشاهد الحياة اليومية. ومع وجود الاختلاف، نحتاج إلى التسامح، لكي لا يتحول الاختلاف إلى تباعد بين النفوس، ولكي لا يزرع الأحقاد بين الناس، ولكي لا يولد النزاعات بينهم. بل من أجل أن يكون الاختلاف رحمة بين الناس، وليثير لهم دفائن العقول، ويضفي عليهم متعة العيش والحياة. والحاجة إلى التسامح لإظهار نوازع الخير، وكبت نوازع الشر في النفوس، فالتسامح هو من تجليات النزعة الإنسانية الخلاقة، تلك النزعة المنبعثة من الفطرة الشفافة النقية: (.. فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ...) (الروم/ 30)، وبقدر ما يظهر التسامح نوازع الخير في الذات، بقدر ما يكبت نوازع الشر في الآخر. والحاجة إلاى التسامح لأن البشر من طبيعتهم الضعف: (وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا) (النساء/ 28)، ويمرون بأطوار من الضعف، ضعف الطفولة، وضعف الشيخوخة: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) (الروم/ 54). وكل البشر يصدر منهم الضعف، والضعيف يحتاج إلى التسامح، ولا ينبغي استغلال هذا الضعف للاستقواء على الآخرين، أو إقصائهم وإلغائهم، أو هضم حقوقهم والانتقاص من حرياتهم، لأنّ الضعف قد يتحول إلى قوة، والقوة قد تتحول إلى ضعف. والحاجة إلى التسامح لكي لا يكون التعصب بديلاً، ولكي لا يكون قمع الرأي وهيمنة الرأي الواحد ممكناً، ولكي لا يكون العنف سبيلاً، ولكي لا يكون التفكير خياراً. فقد اشتهر بين المسلمين كما يقول الشيخ محمد عبده في كتابه "الإسلام دين العلم والمدنية" وعرف من قواعد أحكام دينهم، أنه إذا صدر قول من قائل يحتمل الإيمان من وجه واحد، حمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر، ويعلق الشيخ عبده على ذلك بقوله: "فهل رأيت تسامحاً مع أقوال الفلاسفة والحكماء أوسع من هذا! وهل يليق بالحكيم أن يكون من الحمق، بحيث يقول قولاً لا يحتمل الإيمان من وجه واحد من مائة وجه، إذا بلغ به الحمق هذا المبلغ، كان الأجدر به أن يذوق حكم محكمة التفتيش البابوية، ويؤخذ بيديه ورجليه فليقى في النار". والشيخ عبده بهذا الكلام، كان يواجه الإشكالية التي أثارها فرح أنطون في مجلة الجامعة المصرية حين قال: "إن تمكن العلم والفلسفة من التغلب على الاضطهاد المسيحي في أوروبا، وعدم تمكنهما من التغلب على الاضطهاد الإسلامي، دليل واقعي على أنّ النصرانية كانت أكثر تسامحاً مع الفلسفة". والقاعدة أنّ التعصب لا يواجه بالتعصب وإنما بالتسامح، والكراهية لا تواجه بالكراهية وإنما بالتسامح، التكفير لا يواجه بالتكفير وإنما بالتسامح، والعنف لا يواجه بالعنف وإنما بالتسامح. ولا ينبغي أن يفهم التسامح بوصفه موقف الضعيف أو ينم عن ضعف، ولا هو موقف الامتنان أو التعالي بإبداء الصفح والعفو من موقع الترفع على الآخرين، ولا هو موقف التردد والاضطراب واللاحسم، وإنما هو الموقف الذي يظهر قوة الضمير، وشفافية النزعة الإنسانية، وعظمة الروح الأخلاقية. لكن متى يكون للتسامح كل هذه القوة والفاعلية والتجلي؟ يكون للتسامح كل هذه القوة والفاعلية والتجلي، حينما يتحول إلى موقف إنساني ثابت، والتزام أخلاقي راسخ، ومصدر للاستلهام، وحينما يكون هناك تضامن من أجل التسامح. لأنّ الحمكة تتغلب على التعصب، والتسامح هو حكمة. ولأنّ المنطق يتغلب على العنف، والتسامح هو منطق. ولأنّ الشجاعة تتغلب على التهور، والتسامح هو شجاعة. ولأنّ الحرية تتغلب على التكفير، والتسامح هو حرية. بهذه الدلالات والمعاني ينبغي أن نفهم التسامح وبهذا الإدراك ينبغي أن نتعامل معه. والعالم اليوم بكل ثقافاته ولغاته وقومياته ومجتمعاته، يشترك في ضرورة تأصيل مفهوم التسامح وتعميمه بين الناس، وفي هذا الشأن، صدر إعلان عن منظمة اليونسكو، في دورتها الثامنة والعشرين المنعقدة في 16 نوفمبر 1995م، أطلق عليه "إعلان المبادئ بشأن التسامح"، الذي حثّ على أن يكون اليوم الذي صدر فيه هذا الإعلان يوماً عالمياً للتسامح في كل عام. كما أنّ الأمم المتحدة جعلت من عام 1996م عاماً دولياً للتسامح. وقد اعتبر إعلان اليونسكو أنّ التسامح يعني "الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا، ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا، ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير"، ولتعميم التسامح يدعو الإعلان إلى "تعليم الناس الحقوق والحريات التي يتشاركون فيها، وذلك لكي تحترم هذه الحقوق والحريات، فضلاً عن تعزيز عزمهم على حماية حقوق وحريات الآخرين".   المصدر: مجلة التقريب/ العدد19

ارسال التعليق

Top