◄على الرغم من أن كلمة بيئة (Environment) لم يرد ذكرها في القرآن الكريم أو في السنّة النبوية المشرفة، إلا أنّنا إذا أخذنا مفهوم البيئة الذي يحدِّدها بأنّها: "الأرض وما تضمّه من مكونات غير حيّة في مظاهر سطح الأرض من جبال وهضاب وسهول ووديان، وصخور ومعادن وتربة وموارد مياه، ومكونات حيّة ممثلة في النباتات والحيوانات بريّة النشأة سواء كانت على اليابسة أو في الماء وما يحيط بالأرض من غلاف غازي يضم الكثير من العناصر الأساسية اللازمة لوجود الحياة على سطح الأرض"، نجد أنّ البيئة بهذا المفهوم: "الأرض ومَن عليها وما حولها" قد ورد ذكرها في القرآن الكريم في 199 آية في سور مختلفة[1].
ويرى البعض أنّ أوّل مَن استخدم كلمة "البيئة" إستخداماً إصطلاحياً من علماء المسلمين، هو إبن عبد ربه – صاحب كتاب العقد الفريد – في القرن الثالث الهجري، فهو أقدم مَن نجد عنده المعنى الإصطلاحي للكلمة في كتاب (الجمانة) أي للإشارة إلى الوسط الطبيعي (الجغرافي والمكاني والإحيائي) الذي يعيش فيه الكائن الحي بما في ذلك الإنسان، وللإشارة إلى المناخ الإجتماعي (السياسي والأخلاقي والفكري) المحيط بالإنسان[2]. وفي قراءتنا للتعاريف التي وضعت لمفهوم البيئة عند المجتمع، فإنّنا نجدها وإن كانت متفقة جميعها في الإطار العام، إلا أنّها تختلف في الكثير من المسائل وفقاً لنوع الدراسة وواضعي التعريف، ووفقاً لشمولية المفهوم وسعته أو ضيقه وقصره على مسائل معيّنة. فهناك مَن ينظر للبيئة على أنّها مستودع أو مخزن للموارد الطبيعية والبشرية، كما ينظر البعض للبيئة نظرة إجمالية على أساس أنّها مورد للسلع الطبيعية والمنتزهات العامّة والمناطق الترفيهية، وتقدّر أهمية هذه الموارد بمدى إسهامها إضفاء الجمال على نوعية البيئة. في حين ينظر البعض إلى البيئة من حيث تأثيرها في حياة ونمو الكائنات الحيّة، وهناك مَن يهتمّ بالجوانب الإجتماعية والإقتصادية للبيئة، من حيث كون البيئة مصدراً لعناصر الإنتاج ووسيلة لتلبية الرغبات البشرية. ويتمتّع الإسلام بنظرة أعمق، وأوسع للبيئة، حيث طالب الإنسان أن يتعامل مع البيئة من منطلق أنّها ملكية عامّة يجب المحافظة عليها حتى يستمر الوجود[3]. يقول الدكتور عبدالحكم الصعيدي في مجال بيانه لمفهوم البيئة في التصوير الإيماني الإسلامي[4]: "إنّ مفهوم البيئة في التصوير الإيماني يعني جملة الأشياء التي تحيط بالإنسان، بدءاً من الأرض التي تقله، وصعوداً إلى السماء التي تظلّه، وما بينهما من العوامل والمؤثرات المختلفة، كما أنّها تتعمّق داخل النفس البشرية تضبط ما فيها، مستعلية على غرائز الشر، بل وساعية إلى تهذيبها، وذلك لأنّ شريعة التوحيد لا تقف بالإنسان عند حدود الماديات وشكلها، وإنّما تجعلها وسيلةً لبلوغ الهدف الأسمى، والمقصد الأسنى، ألا وهو تزكية النفس وتطهيرها، وإعادة صياغتها على نحوٍ خالٍ من العقد والإنفصامات، وهو ما تنفرد به الحنيفية السمحة عمّا سواها من شرائع البشر وقوانينهم الوضعية، التي إن سيطرت حيناً على الجوارح، فلا سلطان لها ألبتة على الجوانح، وصدق الله إذ يقول: (قد أفلحَ مَن زَكّاها * وقد خابَ مَن دَسّاها) (الشمس/ 9-10)". وهو إذ يعطينا صورة واضحة المعالم عن النظرة الإسلامية لمفهوم البيئة الذي يتسع ليتعدى حدود المسائل المادية التي اهتمّ بها الباحثون من علماء البيئة لتشمل واقع الإنسان وروحه ونفسه، إذ أنّه لا يمكن الحفاظ على البيئة الخارجية والبيئة الداخلية غير نقيّة أو مطهّرة، فكانت دعوة الإسلام إلى طهارة الروح وتهذيب النفس أولى المنطلقات التي تدفع الإنسان نحو تطهير وتنظيف كل ما هو حوله في الطبيعة. وليس ثمة شك أنّ الرسالة الإسلامية من منطلق كونها خاتمة الرسالات السماوية إلى البشرية كافة، إهتمت بالبيئة إهتماماً كبيراً من منطلق أنّها ميراث الأجيال المتلاحقة حيث أودع الله فيها كل مقومات الحياة للإنسان المستخلف فيها، كما أرسى الإسلام الأُسس والقواعد والمبادئ التي تضبط وتقنِّن الإنسان ببيئته لتتحقق من خلالها العلاقة السوية والمتوازنة التي تصون البيئة من ناحية، وتساعدها على أداء دورها المحدَّد من قبل الخالق العليم في إعالة الحياة من ناحية أخرى. وينبغي الإشارة هنا في الحديث عن مفهوم البيئة في الإسلام إلى أنّ عنصري الثقافة والدين يغيبان عادة عن كتابات معظم الأكاديميين حول الموارد الطبيعية وأُمور البيئة. وهذا ما جعل الدين عموماً والإسلام خصوصاً بعيداً عن كتابات هؤلاء، وبالتالي أدّى ذلك إلى حرمان هذه المسألة من إبداعات ونتاجات الفكر الإسلامي في موضوع البيئة وحمايتها. ولأنّ الدين والثقافة على مسافة قريبة جداً من موضوع البيئة، فإنّ أحد الكُتّاب الواعين لموضوع البيئة يقول: إنّ كلمة (البيئة) تشمل الجوانب البيولوجية والفيزيولوجية والإقتصادية والثقافية متداخلة كلها في النسيج الإيكولوجي المتغيِّر بإستمرار. فالقيم الدينية والثقافية والإجتماعية و... لدى البشر لها أثرها في النظرة إلى البيئة والموارد الطبيعية واستخدامها وإدارتها، وهي الأرض الخصبة والمكون الأساس لثقافة الشعوب في قضية البيئة، والسبب في ذلك هو الدور الهام الذي يمكن أن يلعبه الدين في عقول الناس وتأثيره الخاص على ثقافتهم وحياتهم. ولعل نقطة الإنطلاق نحو فهم طبيعة الدين الإسلامي في تعامله مع الأنظمة البيئية تتمثل في النظرة القرآنية لهذه الأنظمة التي يعتبرها القرآن الكريم والروايات الشريفة أنّها مسخّرة للإنسان من جهة، وأنّها من صنع الله وخلقه وتدبيره من جهةٍ أخرى. فإذا كان الله تعالى قد صنع وخلق البيئة وسخَّرها لخدمة الإنسان، فمن الطبيعي أن يشرِّع القوانين ويضع النواميس التي تكفل حفظ التوازن البيئي، وترشد الإنسان إلى طريقة حماية البيئة وكيفية التعاطي مع أنظمتها وقوانينها. وقد شرَّع الإسلام الضوابط ووضع السلوكيات وأنتج الأدبيات التي تكفل عملية التعاطي بين الإنسان وبيئته، وكان المبدأ الأساس والحاكم فيه هو ضرورة "عدم الإفساد في الأرض" والدعوة إلى البناء لا إلى الدمار، وإلى العمران بدل الخراب، وإلى الصيانة بدل الإفساد. الهوامش:[4] البيئة في الفكر الإنساني والواقع الإيماني – ص101 – م.س.
المصدر: كتاب (الإسلام والبيئة)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق