• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التفكر ممكن في أي زمان وأي مكان

هارون يحيى

التفكر ممكن في أي زمان وأي مكان
◄إن التفكر والتدبر لا يستدعيان مكاناً أو زماناً أو شروطاً محدودة، فالإنسان يمكن أن يتفكر ويتدبر خلال المشي في الشارع، عند توجهه إلى مكتبه، خلال قيادته لسيارته، أو خلال عمله أمام شاشة الكومبيوتر، أو خلال جلسات السمر مع أصدقائه، وربما خلال مشاهدة التلفزيون، أو حتى خلال تناول الطعام. فخلال قيادة السيارة مثلاً، يمكن رؤية مئات الأشخاص في الشوارع، وعندما ينظر الإنسان إلى هؤلاء الأشخاص يمكنه أن يتفكر في أمور شتى، فلربما مثل هذا الحشد يجعل الإنسان يتفكر في خلق الله الفريد والعظيم. فالله قد خلق بلايين الوجوه البشرية التي تختلف عن بعضها البعض من اللحظة التي وجد فيها الكون. (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (آل عمران/ 185). انصرف ذهنه إلى الاختلاف الكامل في المظهر بين هؤلاء الناس، فليس هناك واحد منهم يشبه الآخر! كم هو مذهل هذا الاختلاف في المظهر بين الناس الذين لديهم نفس الأعضاء من العيون إلى الحواجب إلى الرموش والأكف والأيادي والأرجل والأفواه والأنوف؟! ولو استغرق الإنسان في التفكير أكثر، لتذكر أنّ الله قد خلق الألوف من البشر عبر بلايين السنين، وكلّ واحد منهم مختلف عن الآخر، وما ذلك إلا دليل على عظمة الخالق سبحانه وتعالى. والذي يراقب كلّ هؤلاء الناس يحثّون الخطى؛ تتجاذبه أفكار شتى، فللوهلة الأولى يبدو أنّ كلّ واحد من هؤلاء هو نسيج وحده، له عالمه الخاص وأمنياته ومشاريعه وذوقه وأسلوبه في العيش، وأمور تفرحه وأخرى تحزنه.. ولكن هذه الخلافات بين البشر ليست أساسية، فبشكل عام كلّ إنسان يولد ويكبر ويتعلم ثم يتزوج، وينجب الأولاد ويزوجهم، فيصبح جدّاً أو جدة، ثم يُتوفى في النهاية. من هذه الناحية ليس هناك اختلاف كبير في حياة الناس، سواء كانوا يعيشون في حي في استانبول، أو في مدينة في المكسيك، فإنّ ذلك لن يغير شيئاً، فكلّ هؤلاء الناس سوف يموتون، وربما بعد قرن من الزمان لن يبقى منهم أحد على قيد الحياة. ومن يدرك هذه الحقائق لا بد أن يسأل نفسه: بما أننا في يوم من الأيام سوف نموت جميعاً، لماذا يتصرف الناس وكأننا لن نبارح هذا العالم؟ ولماذا يتصرف من أدرك حتمية موته وكأن هذه الحياة الدنيا لن تنتهي، في حين يجدر به أن يجاهد من أجل الفوز بالآخرة؟! وفي حين أنّ غالبية الناس لا تتفكر بهذه الأمور، فإنّ من توصل إلى التفكر بها سيخلص إلى نتائج حاسمة. فلو سُئل معظم الناس بشكل مفاجىء: بماذا تفكرون في هذه اللحظة؟ سوف يظهر بوضوح أنهم يفكرون بأمور ليست ذات بال ولا تعود عليهم بالنفع. وعلى كلّ حال، فإنّ كلّ إنسان يمكن أن يتفكر بحكمة في أمور مهمة وذات قيمة ومعنى، ويتدبرها ويخلص إلى نتائج من وراء ذلك. ويعلّمنا القرآن الكريم أنّ من صفات المؤمنين أنهم يتفكرون ويتدبرون ليخلصوا إلى النتائج التي تعود بالنفع عليهم (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران/ 190-191). فكما تخبرنا الآيتان الكريمتان، فإنّ تفكر المؤمنين مكّنهم من رؤية جانب الإعجاز في الخلق، وتمجيد حكمة الله وعلمه وقدرته.   إخلاص النية لله عند التفكر: من أجل أن يعود التفكر بالنفع على الإنسان ويهديه إلى جادة الحقّ، يجب عليه أن يفكر دائماً بطريقة إيجابية. هناك فرق كبير بين من ينظر إلى شخص حباه الله بحسن الهيئة من منظار عقدة النقص الناشئة عن عدم التكافؤ في المظهر الخارجي بينهما، فيشعر بالغيرة، ويؤدي به تفكره إلى ما لا يرضي الله، وبين من يسعى إلى مرضاة الله فينظر إلى هذا الشخص على أنه جمال من خلق الله، ويعتبر حسن هيئته برهاناً على كمال الله في خلقه، فيشعر بسعادة غامرة ويدعو الله أن يزيد هذا الإنسان جمالاً في الآخرة، كما يدعو لنفسه أن يرزقه الله الجمال الأبدي في دار الخلود، ويفهم أنّ الإنسان لا يمكن أن يكون كاملاً في الحياة الدنيا؛ لأنّ حياتنا هذه خلقت غير كاملة كجزء من ابتلائنا فيها، وبذلك كلّه يزيد توقه وتطلعه إلى الفوز بالجنة. وهذا كلّه مثال واحد على الإخلاص في التفكر، ولسوف يعرض للإنسان الكثير من الأمثلة المشابهة في حياته، خاصة وأنه في امتحان دائم ليرى إن كان سيسلك سلوكاً حسناً ويفكر بأسلوب يرضي الله. إنّ نجاح الإنسان في امتحان التفكر، وكون التفكر سيعود عليه بالنفع في الآخرة، يعتمد على التدبر والاعتبار من الدروس والتحذيرات التي يستخلصها أثناء تفكره، ولذلك فإنّ من الضرورة بمكان، أن يتفكر الإنسان بصدق دائماً. قال تعالى: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ) (غافر/ 13).   بماذا يتفكر الناس عادة؟ ذكرنا سابقاً أنّ الناس لا يتفكّرون ولا يطوّرون قدرتهم على التفكر، وبالإضافة إلى ذلك يجب توضيح نقطة هامة؛ بالطبع هناك أشياء كثيرة تخطر على بال الإنسان في كل لحظة من لحظات حياته، فبالكاد تمرّ دقيقة يكون عقل الإنسان فيها خالياً، باستثناء ساعات النوم. لكن معظم هذه الأفكار عديم الفائدة ولا طائل تحته وغير ضروري؛ فهي لا تنفع في الآخرة ولا تؤدي إلى أي مكان ولا تقدم أية منفعة. فإذا حاول الإنسان أن يتذكر بماذا فكر خلال النهار، ثم سجّله ليراجعه في آخر النهار، سيدرك كم أنّ معظم أفكاره لا جدوى لها، وحتى لو وجد بعضها نافعاً، فمن الأرجح أن يكون مخطئاً في تقديره. فبشكل عام الأفكار التي تبدو صحيحة قد لا يكون لها أي نفع في الآخرة. وتماماً كما يضيّع الناس أوقاتهم في حياتهم اليومية بمعالجة أمور تافهة، فإنهم كذلك يمضون يومهم في اللغو منجرفين في أفكار غير ذات جدوى. وفي قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ .. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) (المؤمنون/ 1-3). ينصح الله تعالى الناس أن يكونوا أقوياء العزيمة في إعراضهم هذا. وبالتأكيد فإنّ أمر الله هذا يصح أيضاً على أفكار الناس، هذا لأننا إذا لم نسيطر على أفكارنا بوعي، فإنها سوف تظل تنساب في عقولنا بشكل متواصل، فيقفز الإنسان دون وعي من فكرة إلى أخرى. فمثلاً، خلال التفكير بالأشياء التي سوف يتسوّقها في طريقة إلى البيت، يجد نفسه فجأة يفكّر بأشياء أخبره بها صديق قبل سنة أو سنتين، هذه الأفكار غير المضبوطة وغير النافعة قد تستمر دون اعتراض خلال النهار كلّه. إلا أنّ السيطرة على التفكير ممكنة، فكل منا يمتلك القدرة على التفكير بأشياء تفيده وتفيد إيمانه، وعقله، وتحسّن كياسته وإحاطته بالأمور. وفي هذا المقال سوف نذكر كلّ أنواع الأفكار التي يفكّر بها الغافلون بشكل عام. والغاية من ذكر هذه الموضوعات بالتفصيل أن يتنبّه الذين يقرؤون هذا الموضوع فوراً عندما تمرّ أشياء مماثلة في أذهانهم – حين يكونون في طريقهم إلى العمل أو المدرسة، أو حين يزاولون أعمالهم اليومية – فوراً إلى أنهم يفكّرون بأمور غير مجدية، فيسيطروا على أفكارهم، ويتفكّروا في أمور تعود عليهم بالنفع حقيقة.   مخاوف غير ذات نفع: عندما يفشل الإنسان في السيطرة على أفكاره وتوجيهها نحو البلوغ به إلى حسن الختام، فإنه قد يشعر بالتخوف من شرور مرتقبة، أو يتعامل مع الأحداث التي لم تحصل، وكأنها حصلت بالفعل، فيقوده ضلاله إلى الحزن والكرب والخوف والقلق. فمن عنده شاب يدرس لامتحان جامعي، مثلاً، قد يخترع سيناريوهات لما قد يحصل فيما لو رسب ولده في الامتحان قبل أن تجري الامتحانات: "إذا رسب ابني في الامتحان، فإنه لن يستطيع أن يجد وظيفة جيدة في المستقبل يكسب منها ما يكفي من المال، ولن يكون قادراً على الزواج، ولو تزوج سيستطيع تحمل مصاريف حفل الزفاف؟.. إذا فشل في الامتحان، فإنّ كلّ ما صرف من مال على الفصول التحضيرية سوف يذهب هباء، وفوق هذا سوف نكون محتقرين في أعين الناس... ماذا لو نجح ابن صاحبي ورسب ابني...؟!" وسوء الفهم هذا سوف يستمر ويستمر، مع أنّ ابن هذا الشخص لم يخضع للامتحان بعد، وخلال حياته كلّها لا يمكن للإنسان البعيد عن الدين أن يقاوم مثل هذه المخاوف التي لا ضرورة لها، وهذا بالتأكيد له سببه. ففي القرآن ذكر السبب الذي يجعل الناس غير قادرين على التحرر من هذا القلق؛ هو أنهم يعيرون سمعاً لوساوس الشيطان، إذ يقول الشيطان: (وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ...) (النساء/ 119). وكما يرى في الآية أعلاه، فإنّ من يشغل نفسه بمخاوف لا جدوى منها، وينسى الله تعالى ولا يفكّر بصفاء، يكون دائماً عرضة لوساوس الشيطان. وبكلمات أخرى إذا كان الإنسان مخدوعاً بهذه الحياة الدنيا إذا لم يستخدم الإنسان المخدوع بهذه الحياة قوة إرادته ولم يتصرف بوعي وإدراك وسمح لنفسه الانجراف بمجرى الأحداث، فإنّه يصبح تحت سيطرة الشيطان بشكل كامل. ولذلك فإنّ التشاؤم وسوء الفهم والمخاوف المتحكمة في الذهن مثل: "ماذا سأفعل إذا حصل كذا وكذا؟" سببها وساوس الشيطان. والله سبحانه وتعالى يعلِّم الناس الطرق التي تقيهم من هذا الوضع. ففي القرآن ينصح الله الناس باللجوء إليه إذا نزغهم من الشيطان نزغ فيقول: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) (الأعراف/ 201-202). وكما هو مذكور في الآية، فإنّ من يتفكّر يدرك الصواب، ومن لا يتفكّر يمضي إلى حيث يجرُّه الشيطان. المهم أن نعرف أنّ هذه الأفكار لن تنفع الإنسان، بل على العكس سوف تمنعه من التفكُّر بالحقيقة، والتفكر بأمور مهمة، وبالتالي تطهير ذهنه من الأفكار غير المجدية. فلا يمكن للإنسان أن يتفكّر بطريقة صائبة إلا إذا حرر ذهنه من الأفكار التافهة. وبهذه الطريقة سيعرض عن اللغو، كما يأمر الله تعالى في القرآن.   المصدر: كتاب التفكُّر العميق

ارسال التعليق

Top