• ١ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٢ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

طالوت وبنو اسرائيل في عصرهم الذهبي

يوسف مزاحم

طالوت وبنو اسرائيل في عصرهم الذهبي

قال تعالى في كتابه العزيز:

(وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (الجاثية/ 16-17). (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (البقرة/ 211). (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ) (البقرة/ 88). لا يجد المرء – ولن يجد – خيراً من الآيات القرآنية، وكلمات الله سبحانه وتعالى دليلاً وعوناً للوصول إلى الفكرة والهدف.. لقد أفاض القرآن الكريم وأسهب في تصويره لوضع بني اسرائيل في أكثر من مكان. وإذا كانت الفكرة التي ينبغي توضيحها والخبر الذي نودّ ذكره يتعلقان بأوضاع بني اسرائيل، فلقد وجدت في الآيات المذكورة أعلاه ما يكتفي المرء منه – ولو بإيجاز – ليفهم معاناة أنبيائهم معهم، وسوء حالهم، وإنكارهم لجميل النِعَم وكثير الخير وامهال الله لهم سبحانه وتعالى. بل ولقد ذكرت الآية الأولى بشكل شامل أوضاعهم في أزمنة مختلفة وأحيان متفرقة.. فأشارت بوضوح إلى المتطلبات الاجتماعية والسياسية والفكرية والعقيدية والحياتية عموماً، والتي أمدّهم الله بها، سواء في السراء والضراء وحين البأس، أم في أوج عزّهم وملكهم وعصرهم الذهبي. والحق يقال: ان تعداد ألوان الأذى الصادرة منهم تجاه أنبيائهم لا يُحصى، وإن أدهى ما في الأمر، ما أشار القرآن الكريم في الآية أعلاه – وفي أكثر من موضع – من اختلافهم بعد العلم، ومن ضلالتهم بعد ما جاءهم الهدى.. قال صاحب التفسير المبين (ره) في تفسير قوله تعالى: (وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) (المائدة/ 20): (لا لشيء الا للمبالغة في تثبيت الحجة عليهم (على بني اسرائيل) وتوكيدها وإلزامهم بها، لقسوتهم ورسوخهم في الضلال والمعاندة والمكابرة. فقد نصرهم سبحانه على فرعون بلا قتال، وأطعمهم المنّ والسلوى بلا كفاح، وسقاهم الماء بلا حفر آبار وشقّ أقنية، ومع ذلك كله تمرّدوا على المنعم بدلاً من أن يشكروه، وقتلوا أنبياءه ورُسُله، والرسول لا يقتل عند جميع الدول)[1]. ومع ذلك.. فقد كان بعضهم يفيء إلى الله بين الفينة والأخرى، ويدرك مدى الانحراف الذي أوغل فيه فيعتبر بالعقاب الإلهي على جرائمه فيرجو الله سبحانه أن يغيّر ما بقومه. وفي كل مرة كان الرحمن – يجيب الدعاء فيلقي الحجة على القوم من جديد لعلهم إليه يرجعون. التيه: من الجدير بالذكر أنّ الله سبحانه كان قد حكم على بني اسرائيل بالتيه وحرّم عليهم الأرض المقدسة أربعين عاماً في عهد موسى (ع). قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) (المائدة/ 20-21). وكعادتهم تخاذلوا ورفضوا مواجهة أعدائهم العمالقة بحجة قوتهم وكثرة عددهم: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قاعدون) (المائدة/ 24)، فكان ان غضب الله عليهم و... (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (المائدة/ 26). ها هم إذن قد رفضوا الانصياع لأمر نبيهم والقتال في سبيل الله وجهاد أعدائه لدخول فلسطين، واستهزؤوا بنبيهم وقالوا كلمة الكفر "اذهب أنت وربك فقاتلا...". وبعد هذه السنين الطويلة من الضياع والفراغ والدوران في الحلقة المفرغة في الصحراء، بانّ الأمر قاسياً إلى حدٍّ لا يستغرب معه المرء تغيّر العقول وتبدّل النفوس، بل ولعلّ ذلك كان بمثابة دورة تدريبية طويلة الأمد يتخرج منها أُناس صُقِلت نفوسهم وتهذبت، وشُحنت بدفعات روحية سببها الشعور بالندم على الذنب والمعصية، ومرارة الألم من العقاب الإلهي الطويل، مع الأخذ بعين الاعتبار تولّد الجيل الطامح إلى التغيير، تغيير ما بآبائهم من خلال تغيير ما بأنفسهم هم، وهذا يكون حافزاً – ولا شك – لفعل كل ما يغاير موقف الآباء؛ ولدفع كل ما تسبب "بالمأساة الطويلة" والعذابالنفسي الأشدّ إيلاماً من العذاب الجسدي. ومع موت الجيل المتخاذل الذي تعرّض للعقوبة، وتوريثه الحسرة والندامة لجيل آخر ألقى على عاتقه مسؤولية محو ما قد سلف، ومع ملاحَظة هذا الجيل لحالة الذلّ والهوان التي يفرضها عليه أعداؤه، وما يقومون به من تشريدٍ لبني اسرائيل وسبيهم لنسائهم والذراري، وتزامن ذلك مع موت هارون ومن بعده موسى (ع)، وفقدان الكتاب المقدس والتابوت وما فيه، وما يرمز إليه من النصر والبركة والتوفيق للقوم، مع كل ذلك تبدأ مرحلة جديدة من تاريخ بني اسرائيل. الخروج من التيه: قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...) (البقرة/ 246)، ولكن ذلك النبي (ع) – وهو يوشع بن نون أو شموئيل وهو الأعراف[2] – يخشى أن يغلب الطبع منهم على التطبع، فهو يتوقع منهم أن "يعودوا لسيرتهم الأولى": الجبن والتخاذل وحب الدنيا ومعصية الله وأنبيائه. (.. قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (البقرة/ 246)، ورغم ما توقّعه نبيهم (ع) منهم، ورغم علم الله سبحانه بذوات صدورهم استجاب لهم وأمدّهم بنعمه وبدأ عصر داود). ولكنه بدأ من حيث انتهى الآخرون، فلقد أقدم حين انهزم الأبطال وارتعدت فرائص الرجال، وبرز لجالوت فرجمه كما يرجم النبيون الشياطين، وقتله، ففاز بسعادة الدنيا والآخرة، حيث أضحى بعدها صهر الملك طالوت – كما في الروايات – التي تقول بأنّه وعد مبارز جالوت بأن يزوجه ابنته ويجعله ملكاً على بني اسرائيل. وجمع الله الملك والنبوة في شخص داود وعلّمه مما يشاء (كصنع الدروع وكلام الطير والنمل)، وصار له بقتل جالوت من الشهرة والسمعة ما ورث به ملك نبي اسرائيل[3]. وبذلك بدأت مرحلة العصر الذهبي لبني اسرائيل بإقامة أوّل دولة يقودها ويؤسسها نبي وهو داود الأوّاب (ع)، كما وصفه القرآن الكريم.   الهوامش:
[1]- التفسير المبين/ الشيخ محمد جواد مغنية، ط. دار الجواد، ص140. [2]- التفسير المبين/ ص5.

[3]- المصدر نفسه، ص52.

المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان (11) و(12) لسنة 1989م

ارسال التعليق

Top