• ١ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٢ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الخصوصية الثقافية.. طريقة لتحصين الهوية

إدريس هاني

الخصوصية الثقافية.. طريقة لتحصين الهوية

عند الحديث عن المثقف والمجتمع كاحد أهم الموضوعات التي تستأثر باهتمام المثقف من الوقوف عند محددات أساسية لمفردة الثقافة، ومفردة المجتمع من جهة أخرى، لنعطي بذلك تصوراً دقيقاً وجلياً عن هاتين المفردتين، حيث في ضوئهما يصير الأمر يسيراً وسهلاً في معالجة العلاقة التي تصل المثقف بالمجتمع، وأهمية دور المثقف وإيجابيته داخل بيئته الاجتماعية التي ينتمي إليها.

لاشك في أنّ الثقافة رغم كل ما قيل عنها، ورغم تعدد المحددات والتعريفات التي تناولتها، يبقى هناك تعريف يحوز على اجماع الكل. وهو ذلك يتعلق بالثقافة كنسيج من التقاليد والرموز والتصورات والمواقف والأذواق... التي يحتوي عليها مجتمع من المجتمعات وتصبغ حياته اليومية كما تتجلى في مسلكه الاجتماعي العام. وهذه التقاليد والرموز والتصورات... التي يتشكل منها النسيج الثقافي لمجتمع ما، هي حصيلة خبراته وتجاربه التي تختزل نجاحاته واخفاقاته. ولا شك في أنّ الثقافة بهذا اللحظات تبقى أوسع مضموناً من الفكر. إذ إن هذا الأخير ليس سوى إعمال النظر والعقل وآلياته في الموضوعات الخارجية. هو عملية استثمار لتلك المكونات والعناصر التي تتداخل فيما بينها في النسيج الثقافي للمجتمع، لتشكل بذلك منظاراً يحدد وعي المجتمع ورؤيته للأشياء. والمجتمع هو تكوين انساني عضوي منظم يحتوي على مجموعة من البشر تواضعوا على نسق اجتماعي معين وتوحدوا حول رمز معين، أو قام اجتماعهم على أساس علاقة قرابية معينة أو تصور فلسفي أو ديني معين. وعلى ضوء هذا التعريف سوف تتوضح لنا أهمية الموضوع الذي نحن بصدد مناقشته. ذلك أننا ونحن نعطي تحديداً للثقافة، سوف يتبين لنا معنى المثقف. إذ لا شك في أنّ المثقف الذي يقف ككيان مستقل عن مجتمعه في الدائرة الإيجابية التي يتحرك من خلالها المثقف، مستقلاً عن الخط العام الذي يحكم المجتمع، هو بلا شك ليس ذلك الذي يحمل تلك التصورات ويخضع لتلك الرموز وينطوي على ذلك الذوق، الذي تتشكل منه ثقافة المجتمع. إنّ المثقف المقصود عندنا، والمعني بالنهوض ومسؤولية التغيير، هو المثقف الطليعي الذي يتوفر على رؤية خاصة للأشياء خارج نطاق النسق الثقافي الذي يحكم المجتمع وعامة أشخاصه. ولعل ذلك ما يميز الثقافة العالمة عن الثقافة الجماهيرية. فإذا انتهينا من ذلك كان لابدّ من طرح مجموعة اشكاليات متصلة بالموضوع. هل هناك إمكانية لوجود ثقافة عالمة متميزة بالمعنى الحقيقي، التي تمكن المثقف من الإنفلات من مؤثرات ثقافة مجتمعه وخبرته؟ وما هي طبيعة العلاقة التي تربط الثقافة بالهوية؟. سوف يكون بالطبع، السؤال الأخير، هو مفتاح وجهة نظرنا في الموضوع لما له من أهمية تفرض أولويته في الطرح. كثيراً ما يجري الحديث عن الثقافة، كمييز للهوية وكأساس تقوم عليه شخصية الأُمّة. وكثيراً ما يكون الدفاع عن الخصوصية الثقافية طريقة أخرى لتحصين الهوية وحفظها من الإختراق. ومن هنا يجب القول بأنّ الثقافة بمعناها السابق، أي نسيج التجارب والخبرات المختلفة لمجتمع ما، هي المعنية بهذا النوع من الخصوصية. أما ثقافة النخبة، ثقافة الفرد التي تعبر عن محض تجربته وعن لحظة انسلاخه عن تيار البيئة العارم وعن فضائه الذي يمده بالرؤية والموقف، فهو ليس معنياً بهذه الاشكالية. إنّ الهوية والخصوصية وما شابه ذلك من مفردات متصلة بالإشكالية الثقافية لا علاقة لها بالنخبة المثقفة التي تتعمق تجربتها عادة خارج ذلك النسيج، وخارج نطاق البيئة المجتمعية. هذا مع أنّ المثقف الفرد مهما حاول التملص من بيئته، فإنّه يبقى محكوماً ببعض عناصرها الثقافية. وذلك هو الحد الأدنى من العلاقة التي تربط المثقف النخبوي بالنسيج الثقافي الاجتماعي. في حديثنا عن أهمية الخصوصية الثقافية، تواجهنا مشكلة المثقف النخبوي الذي انفتح في خبرته على أنسجة ثقافية أجنبية استلهم منها آلياته في التحليل، وتصوراته في الرؤية. وتشكلت من خلالها خبرته الشخصية. هذا المثقف النخبوي هو المتهم الأول بالتمرد على بيئته وبكل أشكال الاستلاب والتهافت الثقافي. وغالباً ما يتصدى لهذا النوع من المثقفين أناس غير مثقفين بالمعنى "العام" للثقافة، أو مثقفون من ذلك الطراز الذي لم يتحرر من بيئته وأنسجته الثقافية المجتمعية، متهمين أياه بالخروج والاغتراب. لكن هناك ملاحظة موضوعية يجب أخذها بعين الاعتبار. هو أن صاحب الثقافة العالمة مثلما يكون متعسفاً أحياناً عندما يحاول قسر نسيجه الثقافي المجتمعي وخبرة قومه، على ولوج فضاء معرفي جديد ومغاير يعبر عن خبرة مجتمعية معينة، مما يكرس غربته وفراغ محتوى هويته الحضارية أو القومية.. فقد يكون طوراً، هذا المثقف، مظلوماً من عدة نواحٍ، ذلك أن أغلب المتصدين والمتهمين للمثقف النخبوي ينطلقون من حالة نفسية واجتماعية معينة، في رفض كل ما لا ينتمي لعرف نسيجهم الثقافي، ظانين بأنّ الثقافة هي حالة من الخصوصية لا تنفتح في الدائرة المشتركة على مختلف الأنسجة الثقافية لشعوب وحضارات أخرى. على عكس النخبوي الذي يعتبر أحياناً الثقافة مسألة كونية لا علاقة لها بخصوصية الشعوب والمجتمعات. وهذه في تصوري أخطر مأزق يقع فيه المثقف النخبوي من جهة، وأنصار الثقافة الجماهيرية من جهة أخرى. ذلك لأنّ الصراع الجاري اليوم لا يمكن إيقافه من دون رسم أطر ودوائر لما هو كوني أو خصوصي داخل الفضاءات الثقافية المختلفة: ما هي الدائرة المشتركة وما هي الدائرة الخاصة؟ فعندما يجري الحديث مثلاً عن غياب العقلانية في المجتمع العربي بشكل عام، نجد أنّ الكثير من أنصار الثقافة الذاتية يرون بأنّ "العقل" هو أساس لحضارة مغايرة، لسنا ملزمين به. وانّه ليس من الضرورة في شيء أن يقوم صرح حضارة الشرق على العقل. هم اختاروا العقل ونحن اخترنا القلب.. "هم علماء ونحن شعراء".. إنما هي ركائز مرتبطة بذوق وخصوصيات الشعوب والمجتمعات والحضارات.. أقول حسناً، لكن خطاب العقل يبقى أمراً ضرورياً، لأنّه ينتمي لتلك الدائرة المشتركة، أي الدائرة الكونية (Universal). فعندما نجد في تراثنا قيام حركة فكرية ترفع شعار العقل، من عزّ عليها البقاء داخل نسيج ثقافي غير عقلاني في المجتمع العربي. إذ ذاك نجزم بأن خطاب العقل، هو خطاب لا مجال للاستغناء عنه. نحن نتساءل، أي خصوصية بقيت بعد حركة المعتزلة والعقلانية الإسلامية وتلك الحركة التي عرفتها أوربا في بداية نهضتها مع ديكارت ومالبرانش وسبينوزا.. أو حتى في عصر الأنوار في القرن الثامن مع كانط وفيخته وشلنج؟. ما هو الفارق الجوهري بين النظام أو الجبائي وديكارت أو ليبنتز.. بين ابن عربي وسبينوزا... بين الفارابي وتوماس مور؟. إنّ مثل هذه المقارنات تبين بأنّ الدائرة الخاصة للثقافة ضيقة جدّاً، وهي لا تكاد تبرح أصول وقواعد الإختيار الثقافي والحضاري لأُمّة ما. إنّ دور المثقف الحقيقي في المجتمع هو في الحفاظ على موضوعية نسيج مجتمعه الثقافي وتعادليته. هو في حمل مسؤولية التكامل لهذا النسيج لكي لا يبقى حبيس عتمة الخصوصية من دون إيجاد أو الإنتماء إلى الدائرة الكونية المشتركة لدى جميع الثقافات: أن يحمل خطاب العقل في حال غياب العقلانية من ساحته الثقافية، ويحمل خطاب الروح والقلب في حالة ما إذا غرق وأسرف المجتمع في عقلانيته. طبعاً إنّ حديثي يجري في الحالات الطبيعية، وليس في حالات الاستثناء. حيث يكون المجتمع يعيش حالة حرب حضارية تستهدف شل إمكانياته عن طريق اختراق بيئته الثقافية وتحطيم بنيتها من أجل التصرف في عناصرها بالشكل الذي يضعف من امكانات المجتمع. أي عندما يكون الظرف، ظرف غزو ومناورة شاملة. والسؤال المطروح، هل نحن نعيش حالة طبيعية سليمة أم أننا نعيش حالة من الحرب تجعلنا نمعن في إغلاق النوافذ وسحب الدوائر المشتركة إلى الخلف أو نحو الداخل، وتصعيد خيار الممانعة؟ هنا يكمن السؤال الخطير ومن ثم تتجلى حقيقة دور المثقف في المجتمع. إنّ المثقف يجب أن يقف بقوة ليضطلع بمسؤوليته التنويرية، والتي تكمن في بعدين: أن يعمل ما في جهده لحماية النسيج الثقافي للمجتمع من الاختراق العنيف والهدام. وأن يفتح – في الوقت نفسه – أفقاً أمام ثقافته الاجتماعية لكي تدخل في مجال المثاقفة، بعيداً عن المثاقفة الأيديولوجية، ذات المحتوى الاستيطاني. واعتبر ذلك ضرباً من الاستيطان لما يمثله من الغاء واقصاء للهوية وتعمير الفراغ بما يستجيب للهوية الغازية. وهذه المهمة المزدوجة للمثقف تكلفه كثيراً. إذ كيف يتسنى له تحصين ثقافته الاجتماعية من الاختراق الذي يوظف آخر ما ابدعته عبقرية الغرب من استراتيجيات وتكتيكات تقوم على أدق الدراسات والأبحاث وتحركها مؤسسات وهيئات منظمة.. ثمّ كيف يتسنى له فتح النافذة أمام ثقافته – الأهلية – لتنطلق في رحاب المثاقفة الحرة القائمة على حوار الثقافات، مع أنّ ثقافته الأهلية تعيش وضعاً استثنائياً يشجع على الانطواء، والإنزواء في أحلك صور الإنكفاء؟. وتراني أركز على هذا الجانب، لأنّ المثقف يسبح في حوض ثقافته الأهلية، ويعيش همومها ويلاحظ عن قرب نمط تفاعلها مع الواقع والمستجدات. فهناك مثلاً من يطرح بديلاً ماضوياً، ويرى في ذلك خياراً ذاتياً. من دون أن يكون على بينة من خياره هذا. وأعني بديلاً ماضوياً ليس من جهة قيمته الزمنية، بقدر ما أعني بديلاً وقع في التاريخ وتجاوزته التجربة. هذا النوع بلا شك يجهل مرحلته التاريخية، وينغلق لا أقول في وجه الآخر فقط بل ينغلق في وجه معقوليته صاحب... وبذلك يبقى صاحب الثقافة الأهلية المنزوية يتبنى خيارات تاريخية معينة، ويظل بذلك منغلقاً عن معقوليته الذاتية، أي عن مئات الأصوات التي شهدها تاريخنا تندد بهذه الخيارات، مع انّها عاصرتها، ومع أنها أيضاً خيارات تنتمي إلى ذاتنا. هذا أهم ما سيواجهه المثقف في مجتمعاتنا خصوصاً: انغلاق على معقولية الذات؛ موقف ثقافي يواجه بطش الآخر بالجهل، وأحياناً بالأمية التاريخة. لابدّ من تعقيل الموقف، سواء تجاه الآخر أو تجاه الذات. وأرى من الضروري على المثقف أن يبدأ من هذه النقطة. أي قبل أن يشرع في مناقشة الآخر، يناقش الأنا، في تجبرها وكبريائها، ليخرجها من قوقعة الغرور ومنتزه الأحلام المملة. أن يواجه الذات بصراحة وجرأة، متجاوزاً بذلك سلطة الشعار إلى سلطة البديل المعقول.. الذات هي قبل كل شيء رأس الحربة فيما وقعنا فيه من أزمات. من الذات بدأ الإنحطاط ومن الذات انطلق الآخر ليسحب البساط من تحت أقدمنا. ومصراً على ابقاءنا في تناقضاتنا الذاتية. عندما يدرك الإنسان العربي بأن انتفاضته الشعرية، ومنبره البياني لا يزعزع الغرب ولا يخيفه.. بل ولا يقرع حتى جهازه العقلي، آنذاك يمكنه أن يلتمس معقوليته من ذاته. بالبحث عن المغيِّب والمهمش في إمكاناته الذاتية. في ذلك المعنى المنفلت كـ"الضوء الهارب"[1]، من ثقافتنا التي تحتاج إلى إرادة قوية لمثقفين متطهرين يعون دورهم التاريخي ولا تأخذهم في إنهاض مجتمعاتهم لومة جاهل.   الهامش:

[1]- إشارة إلى عنوان الرواية الجديدة، للمبدع المغربي، محمد برادة.

المصدر: كتاب العرب والغرب (أيّة علاقة.. أي رهان؟)

ارسال التعليق

Top