• ١ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٢ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

رمضان وفتح الأقواس

د. عبدالكريم بكّار

رمضان وفتح الأقواس


البعد الأساسي للعبادات في الإسلام هو بعد روحي حيث توفر العبادة جو الصلة بالله – جلّ وعلا – والإخبات له وإعلان العبودية والاعتراف بالتضاؤل والتذلل أمامه؛ لكن بتنا اليوم نلمس بعداً فكرياً لا يقل في أهميته ورمزياته عن البعد الروحي، حيث تجتاح البشرية موجات من الأفكار والنظريات والإيحاءات والمقولات التي تؤسس للإلحاد، وتدفع بالبشرية نحو المجهول.
رمضان يأتي هذا العام ليفتح قوساً بل أقواساً في حياة أُمّة الإسلام كي لا تمضي مع الأُمم الأخرى في الطريق المهلكة ذاتها وكي تتمكن من تقديم نماذج واستثناءات تهتدي بها البشرية في ليلها البهيم.
ولعلي أتناول أهم ما أجده من ذلك عبر الحروف الصغيرة الآتية:
1- إنّ ثورة الاتصالات التي يشهدها العالم اليوم قد خلطت كل الفضاءات وأزالت كل الفروق بين ما كان يعد داخلاً وما كان يعد خارجاً. وبما أنّ الحضارة الغربية التي تنشر مفاهيمها ومعاييرها في كل مكان من العالم هي أوّل حضارة ملحدة في التاريخ، فقد صارت البشرية تشعر على نحو غير مسبوق بأنها من غير أهداف كبرى ولا غايات نهائية، تبرمج الحياة في ظلها، وتتجه المساعي إلى تحقيقها. ومن خلال ضغوط الحياة المتعاظمة، والتعقيد المتزايد لشروط العيش الكريم صارت حياة الناس عبارة عن حركة دائبة ومتسارعة من أجل قضاء الحاجات تارة، ومن أجل تلبية الرغبات الجامحة تارة أخرى، ولم يجد الناس إلا القليل من الوقت للتساؤل: فيم ولم كل هذا العناء؟ وما الهدف الأسمى الذي يجب أن نحققه في نهاية المطاف؟
هنا يأتي رمضان ليغير البرنامج اليومي للمسلمين على نحو جذري، حيث تختلف مواعيد العمل ويمتنع المسلمون عن الطعام طيلة النهار، ويتدفقون على المساجد للصلاة والقيام والتهجد وقراءة القرآن... شهر كامل يتم فيه الإعلان عن قدرة المسلم على التحرر من ربقة الشهوات وقدرته على تقديم شيء مختلف عما يتم الترويج له في ظل العولمة ومرحلة (ما بعد الحداثة).
2- في خطاب (ما بعد الحداثة) تسقط الثوابت والمطلقات الدينية وغير الدينية، حتى يصل الناس في نهاية المطاف إلى عالم سائل لا نسق فيه ولا مرجعيات ولا معايير، عالم خال من المقدسات والغيبيات والاعتبارات الروحية، حتى يهيم الناس على وجوههم في الأرض كالسوائم من غير احترام شيء أو التقيد بأي شيء وحتى يكون الإنسان حديثاً ومعاصراً فإن عليه أن يكون متكيفاً حركياً مرناً واقعياً، لا يتسم بالصلابة في هويته ومعتقداته، بل يمكنه أن يغير قيمه ويُعيد بناء شخصيته بسرعة حتى يواكب التطور ويحاكي آخر صيحات (الموضة)...
ويأتي الصائم ليتجاوز كل ذلك بحركة واحدة وموقف واحد، إنّه يكيف يومه وليله ليس مع متطلبات السوق ولا مع مدلولات الدعاية والإعلان، وإنما مع عقيدته ومعرفته بالواجب والمحرم، وما يجوز، وما لا يجوز. وهو يلتزم بذلك على نحو حرفي، فيمتنع عن الطعام في وقت يُحسب بالدقيقة، ويصون لسانه على كل ما هو قبيح، ويراقب كل تصرفاته بدقة متناهية حتى لا ينتقص من أجر صيامه...
إنّه باختصار يفعل كل ما من شأنه معاكسة التسيب والتفلت القيمي والسلوكي الذي يروج له فكر (ما بعد الحداثة). وبذلك يشكل رمضان فرصة لشحن ثقافة المسلم بروح الثبات والإصرار على الاستمرار في طريق التدين الحق إلى آخر لحظة في هذه الحياة.
3- في عصر العولمة يتم التركيز على نحو غير مسبوق على إضعاف إرادة الإنسان من خلال فتح شهيته على الاستهلاك العظيم، حتى يقاد الناس إلى حتفهم من خلال رغباتهم، وقد حققت العولمة في هذا الشأن نجاحاً كبيراً حتى إنّ الناس في كل أنحاء الأرض صاروا يستهلكون من أجل مزيد من الإنتاج، وقد كانوا على مدار التاريخ ينتجون ما يحتاجون إلى استهلاكه. ورمضان يفتح قوساً في هذه المسيرة من خلال تقوية إرادة الإنسان إلى درجة إعلان التمرد على نداءات الغريزة: غريزة الطعام والشراب وغريزة الجنس... في رمضان يلمس المسلم أنّه يملك روح المبادرة، كما يملك العزيمة على المقاومة، وهو إلى جانب هذا وذاك يغتني بمشاعر الشفقة والرحمة والبر والإحسان فترى المجتمع المسلم يمور بألوان العطاء وأشكال الكرم والبذل، وكأنّ الصيام فتح أبواباً مغلقة وأزال حواجز عاتية كانت تفصل المسلم عن أخيه المسلم. فإذا بالوحدة الشعورية تعود من جديد لتظلل الحياة الاجتماعية في كل مستوياتها.
وإنّ من المؤسف أن بعض المسلمين لم يدركوا أن اختصار وجبة من وجبات يومهم يشكل حافزاً إلى صرف قيمتها لمن لا يجدها لا في رمضان ولا في غير رمضان فأخذوا يتوسعون في المآكل والمشارب إلى درجة أن استهلاكهم للأطعمة في رمضان يتضعف عما يكون عليه في غيره.!!
4- في رمضان تهب نسائم التوحيد ونفحات العبادة، فترى الصائمين ما بين مصل وقارئ للقرآن وساع في الخير والبر ومقبل على تعلم أحكام الصيام وسامع لنصيحة أو موعظة... إنّهم في كل ذلك يحققون معاني إنسانيتهم من خلال الاعتراف لله – جلّ وعلا – بالربوبية وحق الطاعة والمحبة. وحين أعلنت شعوب وأُمم أنها صارت سادة الأرض دون أي إحساس بالخالق – جلّ وعلا – فقدت في اللحظة نفسها إحساسها بإنسانيتها، وبشريتها، وأخذت مسيرة المدنية تفلت من القبضة وتستعصي على التوجيه والترشيد وصار الوعي البشري يشعر باليتم إذ فقد مظلة الإيمان والأمان.
في رمضان يستعيد المسلمون ما تهمشه الحضارة الحديثة في وعيهم وحسهم واهتمامهم من الإيمان بالغيب والتأمل في المصير والتفكر في طبيعة مسيرة الحياة.
5- يشكل رمضان فرصة مهمة للتربية الذاتية حيث تتم الإجابة جزئياً عن إشكالية: "من يربي المربي" إذ إن إصلاح الأجيال وتنشئتها التنشئة القويمة يحتاج إلى صلاح المربين، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. وهاهم المسلمون في رمضان يعيدون تربية أنفسهم، ويحبسون أنفاسهم من أجل تناغم سلوكهم مع معتقداتهم، إنّهم يخبرون الكثير من معاني الصلاح والإصلاح من خلال كبح جماح النفوس عن نيل الرغبات والملذات، وصار الصيام عبارة عن دورة تربوية سنوية لتنمية الوازع الداخلي والانضباط الشخصي وهما عماد الاستقامة وأفضل ما يمكن الحصول عليه من وراء تربية ناجحة.

المصدر: كتاب نحو فهم جديد للواقع

ارسال التعليق

Top