• ٦ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الخُلق الإسلامي عنوان الشخصية

العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله

الخُلق الإسلامي عنوان الشخصية

- الخلق الإسلامي:

في الحديث عن رسول الله (ص): "الإسلام حسنُ الخلق"، يبيِّن لنا هذا الحديث الشريف، أننا إذا درسنا الإسلام، في مضمونه الفكري والعقيدي والشرعي، أنّه يُختصر في حسن الخلق. كيف ذلك؟ إذا نظرنا إلى جانب العقيدة، فإننا نجد أنّ الإنسان الذي يلتزم العقيدة يؤدّي حقّ الله، بالالتزام بتوحيده، ويؤدّي، بالإضافة إلى ذلك، حقّ الرسول بالالتزام برسولية الرسول ورسالته. وهكذا عندما يؤمن باليوم الآخر، فإنّه يلتزم بخطّّ المسؤولية؛ لأنّ الإيمان باليوم الآخر يؤكد المسؤولية في حسابات الإنسان للآخرة، وقد قال تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة/ 7-8). وكذلك عندما نريد أن ننفذ إلى العقيدة في خط الهدى، كما في الالتزام بالإمامة؛ فإنّ الالتزام بها التزامٌ بالامتداد الرسالي؛ لأنّ الإمامة والولاية، في ما نعتقد، تمثّل الامتداد الحركي للنبوة. وهكذا إذا نظرنا إلى جانب العدل في العقيدة، الذي يمتد من الله سبحانه وتعالى في صفاتها كلّها، ويتحرك في حياة الناس في خطّ الالتزام. وإذا انفتحنا على الشريعة الإسلامية، فإنّ الشريعة الإسلامية تلخّص منهج السلوك للإنسان؛ سلوكه في نفسه، وفي ما يأخذ به نفسه، وفي ما يحسن به إلى نفسه، وفي ما يربّي به نفسه، وسلوكه مع الناس الآخرين، ومع كلّ ما أودعه الله سبحانه في الحياة من كائنات سخّرها للإنسان في سبيل تحقيق إرادته فيها. ولهذا فإنّ الشريعة، في مناهجها كلّها، تمثل هذه المفردات الأخلاقية التي تتجاوز المعنى المحدود للأخلاق، الذي يُحصر عادةً ببعض المفردات الأخلاقية ذات الطابع الإحساني، من حسن الخلق بالكلمة، والمعاشرة وما إلى ذلك؛ فنحن عندما ندرس كل ما شرّعه الإسلام، من الحلال والحرام والواجب والمستحب والمكروه، فإننا نجد أنّه يمثل خطاً عامّاً في السلوك، فيما يُراد تركيزه في شخصيّته الإنسان، من خصال وأخلاقيّات، وما يُراد تحقيقه من أهداف. إذاً، معنى قوله (ص): "الإسلام حُسن الخُلق"، هو أنّ تحسن التزامك بالمنهج الأخلاقي الذي وضعه الإسلام، على مستوى العقيدة والشريعة والأخلاق العامّة وما إلى ذلك، فإنك بذلك تكون مسلماً.   - الخير المحض: وفي كلمة أخرى، عنه (ص)، يقول: "حسنُ الخُلق ذهب بخير الدنيا والآخرة"[1]، بمعنى أنّك عندما تدرس الخير في الدنيا، في خطوطه وحركته ومنطلقاته كلّها، فإنّك تجد أن حسن الخلق هو أن تبني نفسك على أساس الخلق الذي يمتد في سلوكك كلّها في الحياة الدنيا والآخرة؛ باعتبار أنّه يمثل حساب المسؤولية في ما تحصل عليه في الآخرة من محبة الله ومن رضوانه، ومن ثوابه ونعيمه. وعنه (ص) يقول: "ثلاث مَن لم تكن فيه فليس مني ولا من الله عزّ وجلّ"، وهذه الكلمة خطرة جدّاً في انتماء الإنسان إلى الله وإلى الرسول، وتستدعي أن يدرس كلٌّ منّا نفسه، ليرى هل أنّها تتّصف بهذه الصفات أو لا؟ "قيل: يا رسول الله، وما هنّ؟ قال: حلمٌ يردُّّ به جهل الجاهل"، أن تملك سعة الصدر، بحيث إذا أسيء إليك من قبل الجاهلين، فإنك تستطيع أن تمتصّ هذه الإساءة لتجعلها كما لو لم تكن. وقد لاحظنا في الآية القرآنية حديث الله سبحانه عن المؤمنين (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) (الفرقان/ 63)، وقوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف/ 199)، "وحسن خلق يعيش به في الناس"، بأن تكون لك الأخلاق المنفتحة التي تتحرك في حياتك الاجتماعية، سواء كانت في دائرة خاصة، كالدائرة العائلية، أو في الدائرة العامة، في علاقتك بالناس في مواقع المجتمع كلّها. "وورع يحجزه عن معاصي الله"[2]، بأن تكون لديك مَلَكة الالتزام بطاعة الله سبحانه وتعالى، والبعد عن معصيته. فحسن الخلق يعني أن تبني نفسك على أن تكون لك الأخلاق السلوكية، التي تستطيع من خلالها أن تعيش مع الناس بالمستوى الذي تجتذب فيه الناس إليك، فتحسن إليهم، ولا تسيء إلى أحد منهم، وبذلك تكتسب محبّة الناس لك في ذلك كلّه.   - الإنسان شخصية إجتماعية: وفي حديث آخر عن الرسول (ص): "مَن حسّن خُلقه بلّغه الله درجة الصائم القائم"[3]، ولا إشكال في أنّ للقيام بين يدي الله في الصلاة المرتبة العليا عند الله سبحانه وتعالى، بمقدار ما يمثل ذلك من إخلاصٍ وخشوعٍ بين يدي الله، ومن خضوع له في مظهر العبودية له سبحانه، ولا إشكال أيضاً أنّ للصيام، الذي هو جُنة من النار ومظهرٌ للتقوى، دوره في رضوان الله على الإنسان. فالإنسان الذي يملك حسن الخلق الذي يعيش به مع الناس، يعطيه الله درجة الصائم القائم، باعتبار أنّ الله يريد للإنسان أن يعيش مع الناس لينفتح عليهم، ولينفتحوا عليه. وقد ذكرنا في أحاديث سابقة، أنّ الله لم يحدّثنا عن النبي (ص) – الذي هو أكرم الخلق عند الله – إلا بالخلق، ما يوحي بأنّ الله اصطفاه رسولاً على الناس من خلال هذه الطاقة العظيمة في أخلاقيته التي يعيش فيها مع الناس، بحيث يجتذب الناس إليه كشخص، ويجتذبهم إليه كرسول. وهناك نقطة لابدّ من أن نركز عليها، وهي أنّ الله أراد للإنسان أن يكون شخصية اجتماعية، ولم يُرد له في الحياة أن يكون إنساناً انعزالياً، أو أن يعيش فردياً؛ لأنّ الله حمّل كل إنسان رسالة، فالله حمّلنا الرسالة التي جاء بها الرسول (ص)، ولذلك قال الله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 104)، فالله حمَّل كل أُمّة بحسب حاجة الإنسانية إليها في حجمها الكمي والكيفي، في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومن الطبيعي أن هذه المسؤوليات الثلاث، لابدّ للقيام بها من أن يعيش الإنسان في المجتمع، ليسع المجتمع بعقله، ويتسع قلبه للمجتمع من خلال ما يعيش معه في إحساسه وشعوره وعاطفته، وليسعه بحركته؛ بحيث تملك هذه الحركة الامتداد والرحابة في عناصر المجتمع كلّها، وفي خصوصياتها كلّها. ولذلك فإنّ مسألة الأخلاق ليست مسألة تتصل بالجانب الذاتي للإنسان، ولكنها تتصل إلى جانب ذلك بالمسؤولية المنفتحة على رسالية الإنسان في ما كلفه الله سبحانه وتعالى من الرسالة.   - حُسن الأخلاق والقرب من النبي (ص): ونقرأ أيضاً في حديث النبي (ص): "إن أحبّكم إليّ وأقربكم مني يوم القيامة مجلساً: أحسنكم خلقاً، وأشدكم تواضعاً"[4]. كيف نستوحي هذه المسألة؟ يمكن أن نستوحيها بالنحو التالي: إنّ الرسول (ص) يمثل القمّة في الجانب الأخلاقي، وكان الإنسان الأوحد في مستوى أخلاقيته، وفي درجة أخلاقيته، ويكفي في تصور ذلك، أنّ الله تعالى قال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/ 4)، وأن يصف الله خلق النبي بالعظمة، هي مسألة ليست عادية، فهناك فرق بين أن نصف نحن النبي بأنّه على خلق عظيم، وبين أن يصفه الله تعالى بذلك، فالله الذي خلقه، والمطّلع على عناصر شخصيته كلّها، هو الذي يقول: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، بمعنى أنّ كل عناصر الخلق عند النبي في مستوى العظمة، كما أنّ العنصر الأصيل في شخصية النبي (ص) هو عنصر الخلق العظيم، فمن كان متصفاً بالخلق في الدرجة العليا، "أحسنكم خلقاً وأشدكم تواضعاً"، فهو قريب إلى رسول الله في أخلاقه، ومن استنّ برسول الله واقتدى به: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب/ 21)، فإنّ هذا القُرب الروحي والأخلاقي من رسول الله (ص)، يجعله قريباً إليه في موقعه، وفي درجته، في غير درجة النبوة وما اختصّه الله به. إنّ هذه الكلمة من رسول الله (ص)، تريد أن تقول للإنسان: كن الإنسان الأفضل في أخلاقه، تكن الإنسان الأقرب إليَّ في مجلسي يوم القيامة، وأحبّ إليَّ في ما أنفتح به في محبتي للناس الملتزمين المسؤولين. كما نقرأ عن الرسول (ص): "ألا أنبئكم بخياركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أحاسنكم أخلاقاً"، الذين يبلغون الدرجة العليا في الأخلاق، (الموطؤون أكنافاً"، المتواضعون، "الذين يَألفون ويؤلفون"[5] يعني الذين إذا عاشوا مع الناس، فإنّهم يألفون الناس، باعتبار أنهم ينفتحون على الجانب الإيجابي في شخصياتهم، ولا يستغرقون في الجانب السلبي، ولذلك فإنّهم ينظرون إلى ما لدى الناس من محاسن، ولا يستغرقون فيما لديهم من مساوئ.   - دراسة طبائع الناس: وإذا أردنا أن نركِّز على هذه النقطة، نسأل، لماذا لا نألف الناس؟ لو نفذتَ إلى الناس بأجمعهم، لوجدت أنّه ليس هناك شخص شرير بنسبة 100%، حتى أنّك عندما تدرس شخصيّته أشد الناس إجراماً، فإنّك تجد هناك بعض عناصر الخير في نفسه. إنّ كلّ إنسان – إلا من عصم الله – فيه الخير وفيه الشرّ. ولذلك على الذي يريد أن يعيش الحياة الاجتماعية مع الناس، أن يدرس الجانب الإيجابي بالإضافة إلى الجانب السلبي، بمعنى أن لا ننظر إلى الجانب المظلم من الصورة، بل ننظر، إلى جانب ذلك، إلى الجانب المشرق. وقد ذكرنا مراراً الحديث المروي عن السيد المسيح (ع) مع الحواريين، عندما مرّوا على كلبٍ ميّتٍ أنتنت جيفته، وانتشرت رائحته الكريهة، فقال الحواريون: ما أشد نتن رائحته! فقال عيسى (ع): ما أشدّ بياض أسنانه! وكأنّه يقول لهم: لماذا تنظرون إلى الجانب السلبي من الصورة، بل عليكم أن تنظروا إلى الجانب الإيجابي أيضاً، ولذلك علينا أن ننظر إلى ظاهرة الإنسان الذي قد يتمثل ببعض الصفات السيئة، أو المجتمع عندما يعيش بعض السلبيات، أن لا نستغرق في هذه السلبيات. وعليه، فعند تقييم الأشخاص، لابدّ أن نقول: إن عند فلان صفات سيِّئة، لكن عنده صفات حسنة أيضاً، أو نقول: إنّ الأٌمّة مثلاً، توجد عندها سلبيات، سواءً في الجانب الاجتماعي، أو في الجانب السياسي، أو في الجانب الالتزامي الديني، لكن أيضاً يوجد هناك أناس (طيبون)، ويوجد أناس كذا، ويوجد أناس كذا.. لأنّنا إذا كنا نريد أن نستغرق – أيها الأحبة – في الجانب السلبي، سواءٌ في الأشخاص أو في المجتمع، فإننا نفقد الثقة بالخير، لأنّه يولّد لدينا انطباعاً أنّه لا يوجد إنسان طيب؛ فلان – مثلاً – الذي نقول عنه إنّه خيِّرٌ (ملتزم)، يعمل كذا، مجتمعنا الإسلامي ممزّق.. يوجد عندنا خونة أو عملاء، وما إلى ذلك... وهذا كلّه يجعلنا نفقد الثقة بالمجتمع، ويفقدنا الثقة بالخير، وبذلك نقع في قبضة اليأس، لأن كل شخص تلاحظ الجانب السيِّىء في شخصيته، بعيداً عن الجانب الحسن، أو تلاحظ المجتمع في هذا الاتجاه الباعث على الإحباط، عند ذلك تقول ليس هناك فائدة منه، ولا فائدة من الإصلاح أو المواعظ، ولكن إذا وازنت بين الجانب الخيّر في الإنسان والجانب الشرير فيه، أو بين الجانب الإيجابي في الأُمّة... والجانب السلبي، عند ذلك يوحي إليك هذا أن من الممكن أن تقوِّي الجانب الإيجابي لتستعين به على تغيير الجانب السلبي، وأن تستفيد من الجوانب الخيِّرة في الإنسان لتغليبها على الجوانب الشريرة، وحينها سوف ترى ما مقدار ما نملك من طاقة وإقبال على أن نتقدم في حركة الإصلاح.   - عنوان الشخصية: ونقرأ أيضاً: في هذا المجال، حديث الإمام علي (ع): "عنوان صحيفة المؤمن حُسن خُلقه"؛ يعني أنّ عنوان الصحيفة التي تقدّم في يوم القيامة: حُسن الخُلق، ثمّ تليها الأعمال الأخرى، ما يوحي بأنّ لحسن الخلق دوراً كبيراً في تأصيل شخصية الإنسان المؤمن في ما يحبه الله منه. ويقول الإمام جعفر الصادق (ع): "ما يقدم المؤمن على الله عزّ وجلّ بعمل بعد الفرائض أحب إلى الله تعالى من أن يسعَ الناس بخلقه"[6]، يعني أن تملك الخلق الذي يتسع لكل الناس في ذلك. وفي هذا المجال، أيضاً نقرأ الكلمة الرائدة التي وردت عن رسول الله (ص) وهي: "إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"[7]. هذه الكلمة تمثل منهج حركة الرسل كلّهم؛ فنبيّ الله عيسى (ع) قال: "جئت لأكمل الناموس"[8]، يعني أنّه لم يجئ ليهدم، ولذلك فقد صدّق وآمن بالتوراة التي أنزلها الله سبحانه على نبيّه موسى (ع)، والتزمها، وبشّر بها، وجاء بالإنجيل من أجل أن يكمل الناموس، يعني الشريعة، ولكي يخفف عن الناس. وهذا ما أشار الله سبحانه وتعالى إليه في القرآن الكريم، حيث يقول – على لسان نبيّه عيسى (ع) مخاطباً بني إسرائيل: (وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) (آل عمران/ 50). والنبي (ص) أيضاً جاء مكملاً، لأنّ الإسلام اعترف بكل الرسالات قال تعالى: (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (البقرة/ 285)، فالإسلام جاء مصدقاً لما بين يديه، وجاء النبي محمّد (ص) مكملاً لمكارم الأخلاق؛ لأنّ تطوّر الحاجات عند الناس بحسب تطور الأوضاع في الزمن، قد تخلق أوضاعاً جديدة، وقد تخلق حاجات اجتماعية وسياسية جديدة، ولذلك فإنّها تحتاج إلى تشريعات جديدة. ونستطيع أن نعرف من خلال هذا، أنّ النبي (ص) عندما جاء ليتمم مكارم الأخلاق، فلكي يعطي الإنسان، في عناصر شخصيته، الأصالة والكمال، بحيث إنّ الإنسان الذي يلتزم الشريعة الإسلامية، يحقق الكمال في مكارم الأخلاق، لأنّ كل مفردات الشريعة الإسلامية، في مناهجها الأخلاقية، ومناهجها الشرعية القانونية، تمثل خلاصة الأخلاق التي يتميز بها الإنسان، والتي يعيش معها عمق إنسانيته في علاقته بنفسه، وبربه، وبالناس من حوله.   - مكارم الأخلاق: وقد ورد في بعض أحاديث النبي (ص) وهو يفسر مكارم الأخلاق: "أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك"[9]، هذه الخصائص الثلاث التي تمثل أصالة الأخلاق في الإنسان، بحيث تتبع أخلاقية الإنسان من عمق الفطرة الإنسانية الأصيلة؛ أن لا تكون الأخلاق عملية تبادلية، تماماً كما هي عملية التعامل في السوق، فيكون التعامل على أساس أن تعطي من أعطاك، وأن تصل مَن وصلك، وأن تعفو عمن عفا عنك، وهي ليست أخلاقاً، وإنما هي عملية تبادلية، ومعاوضة، بينما الأخلاق الإسلامية التي تنبع من داخل شخصيتك الإنسانية، هي أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عن ظلمك، وهذا ما عبّر عنه الإمام علي بن الحسين (زين العابدين) (ع) في دعاء (مكارم الأخلاق)، وقد استوحى الإمام من كلمة النبي (ص) ما يتجاوز هذه المفردات، ليتسع إلى كل الأوضاع السلوكية مع الناس الآخرين، أو الأمور الإيجابية مع الناس السلبيين، عندما قال: "اللّهمّ وسدّدني لأن أعارض من غشني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبر، وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافئ من قطعني بالصلة، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر، وأن أشكر الحسنة، واغضي عن السيئة". هذا السمو الذي يتسامى به الإنسان، بحيث لا يتحرك مع الناس الذين يواجهونه بالفعل القاسي، أو بالفعل السلبي بردة فعل، بل إنّه إذا أراد أن يقوم بأية ردّة فعل، فإنّه يقوم به برد فعل معاكس. وهذا ما نقرأه في القرآن الكريم في مسألة أن يدفع الإنسان السيئة بالحسنة، وأن يدرأ السيئة، بحيث يكون رد الفعل رداً معاكساً للفعل الذي قام به الآخر.   - الغاية من الأخلاق: أيها الأحبة: إنّ الإسلام يريد للإنسان أن يخرج من عنصر الغريزة إلى عنصر العقل والروح والسمو. وبعبارة أخرى: إنّ الإسلام يريد من الناس الذين يسيرون في خط الإيمان، أن يحوِّلوا حياتهم في الأرض إلى تجربة للحياة في الجنة؛ لأنّ الله تعالى عندما يحدثنا عن أهل الجنة يقول: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) (الأعراف/ 43)، فالإنسان في الجنة يحب الإنسان الآخر، ولا يحقد عليه ولا يعاديه ولا يبغضه، [إِخْوَاناً] يعيشون الأخوّة بكل ما تفرضه من مشاعر وأحاسيس وسلوك [عَلَى سُرُرٍ مُتقَابِلِينَ]، في حياة اجتماعية في الجنة، بحيث ينفتح أحدهم على الآخر بالمحبة التي يقدمها إليه. فلنحاول أن نجعل من الأرض جنةً مصغرة، ولا نجعل من الأرض جحيماً يحرق عقولنا، وقلوبنا، وحياتنا، قال تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة/ 105).  
الهوامش: [1]- البحار، ج8، ص119، ح7. [2]- البحار، ج69، ص37، ح13. [3]- الكافي، ج2، ص100، ح5. [4]- البحار، ج71، ص385، ح26. [5]- البحار،ج71، ص396، ح76. [6]- الكافي، ج2، ص100، ح4. [7]- البحار، ج15، ص296، ح12. [8]- نفسه، ص306، ح15.

[9]- الكافي، ج2، ص107، ح1.

المصدر: كتاب الندوة/ السلسلة 15

ارسال التعليق

Top